والجواب عن ذلك : أن نقول
[1] كلتا المقدمتين باطلة . أما الأولى : فقوله : " لا بد من
nindex.php?page=treesubj&link=28833نصب إمام معصوم يصدهم
[2] عن الظلم والتعدي ، ويمنعهم عن التغالب والقهر ، وينصف المظلوم من الظالم ، ويوصل الحق إلى مستحقه ، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية " .
فيقال له : نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا ، فإن الرسول هو المعصوم ، وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد . وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب ، كالمنتظر ونحوه ، بأمره ونهيه . فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام معصوم ، والأمة تعرف
[3] أمره ونهيه ، ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر ، الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره و [ لا ] نهيه
[4] ، بل ولا كانت رعية
nindex.php?page=showalam&ids=8علي تعرف أمره ونهيه ، كما تعرف
[5] الأمة أمر نبيها ونهيه ، بل عند أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - من علم أمره ونهيه [ ما أغناهم عن كل إمام سواه ، بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولي عليهم في شيء من معرفة دينهم ، ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون . وهم يعلمون أمره ونهيه ]
[6] أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ، ولو قدر
[ ص: 385 ] وجوده بأمره ، فإنه لم يتول على الناس ظاهرا من ادعيت له العصمة إلا
nindex.php?page=showalam&ids=8علي .
ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته
باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى ، بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو .
وأما الورثة الذين ورثوا علم
محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم يعرفون أمره ونهيه ، ويصدقون في الإخبار عنه ، أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ، ومن صدقهم في الإخبار عنه ، وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي .
فنقول هذا الكلام باطل من وجوه : أحدها : أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة . أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه
[7] هذا ، ولا يدعي لنفسه ، بل مفقود غائب عند متبعيه ، ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء . ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا ، بل من ولي على الناس ، ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم ، كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه .
وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره ، بل هم ينتسبون إلى المعصوم ، وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم . فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد
[ ص: 386 ] منهم لا في دينه ولا في دنياه ، لم يحصل لأحد
[8] به شيء من مقاصد الإمامة
[9] .
وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء ، لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة ; لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها
[10] . فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد ، وكان هذا بمنزلة من يقول : الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم ، وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا ، وهذا عند الطائفة الفلانية ، وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس ، وأنهم معروفون بالإفلاس .
وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه ، واتباع ما لا ينتفع به أصلا ؟ والإمام يحتاج إليه في شيئين
[11] . إما في العلم ؛ لتبليغه وتعليمه ، وإما في العمل به ؛ ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه .
وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا . بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ، ومن العمل ، إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم ، وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم ، فهم أعجز الناس في العمل ، وأجهل الناس في العلم ، مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم ، الذي مقصوده العلم والقدرة ، ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة ، فعلم انتفاء هذا مما يدعونه .
[ ص: 387 ] وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة .
أما من دون
nindex.php?page=showalam&ids=8علي فإنما كان يحصل للناس
[12] من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه . وكان
nindex.php?page=showalam&ids=16600علي بن الحسين ، وابنه
أبو جعفر ، وابنه
nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله ، كما علمه علماء زمانهم ، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة .
وهذا معروف عند أهل العلم . ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين ، فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل
[13] من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ، ومنعهم باليد عن الباطل .
وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين ، فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ، ولا كان لهم يد تستعين به الأمة ، بل كانوا كأمثالهم
[14] من الهاشميين لهم حرمة ومكانة ، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم ، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين .
وأما ما يختص به أهل العلم ، فهذا لم يعرف عنهم . ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم ، كما أخذوا عن أولئك الثلاثة . ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ، ولكن طالب العلم يعرف مقصوده .
وإذا
[15] كان للإنسان نسب شريف ، كان
[16] ذلك مما يعينه على قبول
[ ص: 388 ] الناس منه . ألا ترى أن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت
[17] الأمة له ذلك ، واستفادت منه ، وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة .
وكذلك
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه
[18] ، عرف المسلمون له ذلك ، واستفادوا ذلك منه ، وظهر ذكره بالعلم والفقه .
ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه . ألا ترى أنه لو قيل عن أحد : إنه طبيب أو نحوي ، وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة ، فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون ، أعرضوا عنه ، ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم .
وهؤلاء
الإمامية أخذوا عن
المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف ، بما يكون المكلف
[19] عنده أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، مع تمكنه في الحالين .
ثم قالوا :
nindex.php?page=treesubj&link=28833والإمامة واجبة ، وهي أوجب عندهم من النبوة ، لأن بها لطفا في التكاليف . قالوا : إنا نعلم يقينا بالعادات
[20] واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، وإذا لم يكن لهم رئيس
[21] وقع الهرج والمرج بينهم ، وكانوا عن الصلاح أبعد ، ومن الفساد أقرب .
وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل
[ ص: 389 ] العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل . قالوا : وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه . ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها .
ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا ، فقالوا : إذا قلتم : إن الإمام لطف ، وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته ؟ وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم .
وقالوا في الجواب عن هذا السؤال : إنا نقول : إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته . كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى ، وحصل لمن كان عارفا به . قالوا : وهذا يسقط هذا السؤال ، ويوجب القول بإمامة المعصومين .
فقيل لهم : لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور ، لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ، ويتبعوه
[22] إلى أن يموتوا . وهذا خلاف ما يذهبون إليه .
فأجابوا بأنا نقول : إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور ، لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك ، وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين ، وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ، ورفع ممالك الظلم
[23] التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقه
[24] وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره .
[ ص: 390 ] فيقال لهم : هذا كلام ظاهر البطلان . وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا ، هو ما شهدت به العقول والعادات ، وهو ما ذكرتموه . قلتم : إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد ، كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح ، وأبعد عن الفساد ، واشترطتم فيه العصمة . قلتم لأن مقصود الانزجار
[25] لا يحصل إلا بها . ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر ، لم يكن أحد منهم بهذه الصفة : لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا .
nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي - رضي الله عنه - تولى الخلافة ، ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه
[26] .
وأما الغائب فلم يحصل به شيء ، فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة ، وأنه خائف لا يمكنه الظهور ، فضلا عن إقامة الحدود ، ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه - لم يزل
[27] الهرج والفساد بهذا .
ولهذا يوجد
[28] طوائف
الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا ، واختلافا بالألسن والأيدي ، ويوجد من الاقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر ، فضلا عن متول مسلم ، فأي لطف حصل لمتبعيه به ؟ .
[ ص: 391 ] واعتبر
[29] المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر ، مع القرى التي لا يقرون به . تجد حال
[30] هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد ، حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار ، لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض
[31] التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر ، لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم .
ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب ، كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم ، أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم .
ثم
nindex.php?page=treesubj&link=21480الذنوب قسمان : منها ذنوب ظاهرة ، كظلم الناس والفواحش الظاهرة ، فهذه تخاف الناس
[32] فيها من عقوبة ولاة أمورهم ، أعظم مما يخافه
الإمامية من عقوبة المنتظر . فعلم أن اللطف الذي
nindex.php?page=treesubj&link=28833أوجبوه لا يحصل بالمنتظر أصلا للعارف به ولا لغيره .
وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به ، كما يحصل في حال الظهور ، فهذه مكابرة ظاهرة ; فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك ، ما يوجب أن يكون في ذلك لطف لا يحصل مع عدم الظهور .
[ ص: 392 ] وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره ، قياس فاسد . فإن المعرفة بأن الله موجود حي قادر ، يأمر بالطاعة ويثيب عليها ، وينهى عن المعصية ويعاقب عليها ، من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه ، فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه ، بفعل المأمور وترك المحظور ، والرهبة من عقابه إذا عصى ، لعلم العبد بأنه عالم قادر ، وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين .
وأما شخص يعرف الناس أنه
[33] مفقود من أكثر من أربعمائة سنة ، وأنه لم يعاقب أحدا ، وأنه لم يثب أحدا بل هو خائف على نفسه إذا ظهر ، فضلا عن أن يأمر وينهى ، فكيف تكون المعرفة به
[34] داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر
[35] ، بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح ، لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت ، وهو لم يعاقب أحدا ولم يثب أحدا .
بل لو قدر أنه يظهر في [ كل ]
[36] مائة سنة مرة فيعاقب ، لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر ، بل ولو قيل : إنه يظهر في كل عشر سنين ، بل ولو ظهر في السنة مرة ، فإنه [ لا ] تكون
[37] منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت ، بل هؤلاء - مع
[ ص: 393 ] ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور - شرع الله بهم ، وما يفعلونه من العقوبات ، وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات ، أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة ، فضلا عمن هو مفقود ، يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له ، والمقرون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله
[38] آحاد الناس ، فضلا عن ولاة أمرهم .
وأي هيبة لهذا ؟ وأي طاعة ، وأي تصرف ، وأي يد منبسطة ؟ حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد ، كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده .
ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطة ، حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته ، مثل اللطف به في حال ظهوره ، وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف ، كما لو كان ظاهرا قادرا آمنا ، وأن مجرد هذه المعرفة لطف ، كما أن معرفة الله لطف .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ : أَنْ نَقُولَ
[1] كِلْتَا الْمُقَدَّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ . أَمَّا الْأُولَى : فَقَوْلُهُ : " لَا بُدَّ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=28833نَصْبِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ يَصُدُّهُمْ
[2] عَنِ الظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي ، وَيَمْنَعُهُمْ عَنِ التَّغَالُبِ وَالْقَهْرِ ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ ، وَيُوَصِّلُ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ ، لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَلَا السَّهْوُ وَلَا الْمَعْصِيَةُ " .
فَيُقَالُ لَهُ : نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ هَذَا الدَّلِيلِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا ، فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمَعْصُومُ ، وَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ . وَعِلْمُ الْأُمَّةِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَتَمُّ مِنْ عِلْمِ آحَادِ الرَّعِيَّةِ بِأَمْرِ الْإِمَامِ الْغَائِبِ ، كَالْمُنْتَظَرِ وَنَحْوِهِ ، بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ . فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَامٌ مَعْصُومٌ ، وَالْأُمَّةُ تَعْرِفُ
[3] أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ، وَمَعْصُومُهُمْ يَنْتَهِي إِلَى الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ ، الَّذِي لَوْ كَانَ مَعْصُومًا لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ لَا أَمْرَهُ وَ [ لَا ] نَهْيَهُ
[4] ، بَلْ وَلَا كَانَتْ رَعِيَّةُ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ تَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ، كَمَا تَعْرِفُ
[5] الْأُمَّةُ أَمْرَ نَبِيَّهَا وَنَهْيَهُ ، بَلْ عِنْدَ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِلْمِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ [ مَا أَغْنَاهُمْ عَنْ كُلِّ إِمَامٍ سِوَاهُ ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ قَطُّ إِلَى الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعْرِفَةِ دِينِهِمْ ، وَلَا يَحْتَاجُونَ فِي الْعَمَلِ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى التَّعَاوُنِ . وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ]
[6] أَعْظَمَ مِنْ مَعْرِفَةِ آحَادِ رَعِيَّةِ الْمَعْصُومِ ، وَلَوْ قُدِّرَ
[ ص: 385 ] وُجُودُهُ بِأَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّ عَلَى النَّاسِ ظَاهِرًا مَنِ ادُّعِيَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ إِلَّا
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٌّ .
وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ فِي رَعِيَّتِهِ
بِالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مَنْ لَا يَدْرِي بِمَاذَا أَمَرَ وَلَا عَمَّاذَا نَهَى ، بَلْ نُوَّابُهُ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ هُوَ .
وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ وَرِثُوا عِلْمَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُمْ يَعْرِفُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ، وَيَصْدُقُونَ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ، أَعْظَمَ مِنْ عِلْمِ نُوَّابِ عَلِيٍّ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَمِنْ صِدْقِهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ حَيٍّ .
فَنَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْإِمَامَ الْمَوْصُوفَ لَمْ يُوجَدْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُعْرَفُ إِمَامٌ مَعْرُوفٌ يُدَّعَى فِيهِ
[7] هَذَا ، وَلَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ ، بَلْ مَفْقُودٌ غَائِبٌ عِنْدَ مُتَّبِعِيهِ ، وَمَعْدُومٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ أَصْلًا ، بَلْ مَنْ وَلِيَ عَلَى النَّاسِ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الْجَهْلِ وَبَعْضُ الظُّلْمِ ، كَانَ أَنْفَعَ لَهُمْ مِمَّنْ لَا يَنْفَعُهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ .
وَهَؤُلَاءِ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ لَا يُوجَدُونَ مُسْتَعِينِينَ فِي أُمُورِهِمْ إِلَّا بِغَيْرِهِ ، بَلْ هُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَعْصُومِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَعِينُونَ بِكَفُورٍ أَوْ ظَلُومٍ . فَإِذَا كَانَ الْمُصَدِّقُونَ لِهَذَا الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ
[ ص: 386 ] مِنْهُمْ لَا فِي دِينِهِ وَلَا فِي دُنْيَاهُ ، لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ
[8] بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ
[9] .
وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ ، لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْوَسِيلَةِ ; لِأَنَّ الْوَسَائِلَ لَا تُرَادُ إِلَّا لِمَقَاصِدِهَا
[10] . فَإِذَا جَزَمْنَا بِانْتِفَاءِ الْمَقَاصِدِ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْوَسِيلَةِ مِنَ السَّعْيِ الْفَاسِدِ ، وَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ صِفَتُهُ كَذَا وَالشَّرَابُ صِفَتُهُ كَذَا ، وَهَذَا عِنْدَ الطَّائِفَةِ الْفُلَانِيَّةِ ، وَتِلْكَ الطَّائِفَةُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ أَفْقَرِ النَّاسِ ، وَأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْإِفْلَاسِ .
وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي طَلَبِ مَا يُعْلَمُ عَدَمُهُ ، وَاتِّبَاعِ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ أَصْلًا ؟ وَالْإِمَامُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي شَيْئَيْنِ
[11] . إِمَّا فِي الْعِلْمِ ؛ لِتَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ ، وَإِمَّا فِي الْعَمَلِ بِهِ ؛ لِيُعِينَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ .
وَهَذَا الْمُنْتَظَرُ لَا يَنْفَعُ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . بَلْ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ ، وَمِنَ الْعَمَلِ ، إِنْ كَانَ مِمَّا يُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ اسْتَعَانُوا بِهِمْ ، وَإِلَّا اسْتَعَانُوا بِالْكُفَّارِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَنَحْوِهِمْ ، فَهُمْ أَعْجَزُ النَّاسِ فِي الْعَمَلِ ، وَأَجْهَلُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ ، مَعَ دَعْوَاهُمُ ائْتِمَامَهُمْ بِالْمَعْصُومِ ، الَّذِي مَقْصُودُهُ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ لَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ ، فَعُلِمَ انْتِفَاءُ هَذَا مِمَّا يَدَّعُونَهُ .
[ ص: 387 ] وَأَيْضًا فَالْأَئِمَّةُ الِاثْنَا عَشَرَ لَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَمِيعُ مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ .
أَمَّا مَنْ دُونَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ فَإِنَّمَا كَانَ يَحْصُلُ لِلنَّاسِ
[12] مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ نُظَرَائِهِ . وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=16600عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَابْنُهُ
أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15639جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ ، كَمَا عَلَّمَهُ عُلَمَاءُ زَمَانِهِمْ ، وَكَانَ فِي زَمَنِهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَأَنْفَعُ لِلْأُمَّةِ .
وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَأَدْيَنَ ، فَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا يَحْصُلُ
[13] مِنْ ذَوِي الْوِلَايَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَإِلْزَامِ النَّاسِ بِالْحَقِّ ، وَمَنْعِهِمْ بِالْيَدِ عَنِ الْبَاطِلِ .
وَأَمَّا مَنْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ كَالْعَسْكَرِيِّينَ ، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ عِلْمٌ تَسْتَفِيدُهُ الْأُمَّةُ ، وَلَا كَانَ لَهُمْ يَدٌ تَسْتَعِينُ بِهِ الْأُمَّةُ ، بَلْ كَانُوا كَأَمْثَالِهِمْ
[14] مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ لَهُمْ حُرْمَةٌ وَمَكَانَةٌ ، وَفِيهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ مَا فِي أَمْثَالِهِمْ ، وَهُوَ مَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعِلْمِ ، فَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ . وَلِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ، كَمَا أَخَذُوا عَنْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ . وَلَوْ وَجَدُوا مَا يُسْتَفَادُ لَأَخَذُوا ، وَلَكِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَعْرِفُ مَقْصُودَهُ .
وَإِذَا
[15] كَانَ لِلْإِنْسَانِ نَسَبٌ شَرِيفٌ ، كَانَ
[16] ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُهُ عَلَى قَبُولِ
[ ص: 388 ] النَّاسِ مِنْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا كَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ عَرَفَتِ
[17] الْأُمَّةُ لَهُ ذَلِكَ ، وَاسْتَفَادَتْ مِنْهُ ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ .
وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ
[18] ، عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ لَهُ ذَلِكَ ، وَاسْتَفَادُوا ذَلِكَ مِنْهُ ، وَظَهَرَ ذِكْرُهُ بِالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ .
وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِنْسَانُ مَقْصُودَهُ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْهُ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ عَنْ أَحَدٍ : إِنَّهُ طَبِيبٌ أَوْ نَحْوِيٌّ ، وَعَظُمَ حَتَّى جَاءَ إِلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ أَوِ النُّحَاةُ ، فَوَجَدُوهُ لَا يَعْرِفُ مِنَ الطِّبِّ وَالنَّحْوِ مَا يَطْلُبُونَ ، أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ مُجَرَّدُ دَعْوَى الْجُهَّالِ وَتَعْظِيمِهِمْ .
وَهَؤُلَاءِ
الْإِمَامِيَّةُ أَخَذُوا عَنِ
الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِقْدَارُ وَالتَّمْكِينُ وَاللُّطْفُ ، بِمَا يَكُونُ الْمُكَلَّفُ
[19] عِنْدَهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّلَاحِ ، وَأَبْعَدُ عَنِ الْفَسَادِ ، مَعَ تَمَكُّنِهِ فِي الْحَالَيْنِ .
ثُمَّ قَالُوا :
nindex.php?page=treesubj&link=28833وَالْإِمَامَةُ وَاجِبَةٌ ، وَهِيَ أَوْجَبُ عِنْدَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ ، لِأَنَّ بِهَا لُطْفًا فِي التَّكَالِيفِ . قَالُوا : إِنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا بِالْعَادَاتِ
[20] وَاسْتِمْرَارِ الْأَوْقَاتِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَتَى كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ كَانُوا بِوُجُودِهِ أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْفَسَادِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَئِيسٌ
[21] وَقَعَ الْهَرْجُ وَالْمَرْجُ بَيْنَهُمْ ، وَكَانُوا عَنِ الصَّلَاحِ أَبْعَدَ ، وَمِنَ الْفَسَادِ أَقْرَبَ .
وَهَذِهِ الْحَالُ مُشْعِرَةٌ بِقَضِيَّةِ الْعَقْلِ مَعْلُومَةٌ لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مَنْ جَهِلَ
[ ص: 389 ] الْعَادَاتِ وَلَمْ يَعْلَمِ اسْتِمْرَارَ الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الْعَقْلِ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ هَذَا لُطْفًا فِي التَّكْلِيفِ لَزِمَ وُجُوبُهُ . ثُمَّ ذَكَرُوا صِفَاتِهِ مِنَ الْعِصْمَةِ وَغَيْرِهَا .
ثُمَّ أَوْرَدَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ سُؤَالًا ، فَقَالُوا : إِذَا قُلْتُمْ : إِنَّ الْإِمَامَ لُطْفٌ ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْكُمْ فَأَيْنَ اللُّطْفُ الْحَاصِلُ مَعَ غَيْبَتِهِ ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لُطْفُهُ حَاصِلًا مَعَ الْغَيْبَةِ وَجَازَ التَّكْلِيفُ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ لُطْفًا فِي الدِّينِ وَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْقَوْلُ بِإِمَامَةِ الْمَعْصُومِ .
وَقَالُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ : إِنَّا نَقُولُ : إِنَّ لُطْفَ الْإِمَامِ حَاصِلٌ فِي حَالَةِ الْغَيْبَةِ لِلْعَارِفِينَ بِهِ فِي حَالِ الظُّهُورِ وَإِنَّمَا فَاتَ اللُّطْفُ لِمَنْ لَمْ يَقُلْ بِإِمَامَتِهِ . كَمَا أَنَّ لُطْفَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى ، وَحَصَلَ لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِهِ . قَالُوا : وَهَذَا يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ ، وَيُوجِبُ الْقَوْلَ بِإِمَامَةِ الْمَعْصُومِينَ .
فَقِيلَ لَهُمْ : لَوْ كَانَ اللُّطْفُ حَاصِلًا فِي حَالِ الْغَيْبَةِ كَحَالِ الظُّهُورِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَغْنُوا عَنْ ظُهُورِهِ ، وَيَتَّبِعُوهُ
[22] إِلَى أَنْ يَمُوتُوا . وَهَذَا خِلَافُ مَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ .
فَأَجَابُوا بِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّ اللُّطْفَ فِي غَيْبَتِهِ عِنْدَ الْعَارِفِ بِهِ مِنْ بَابِ التَّنْفِيرِ وَالتَّبْعِيدِ عَنِ الْقَبَائِحِ مِثْلُ حَالِ الظُّهُورِ ، لَكِنْ نُوجِبُ ظُهُورَهُ لِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ رَفْعُ أَيْدِي الْمُتَغَلِّبِينَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ وَوَضْعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ ، وَرَفْعُ مَمَالِكِ الظُّلْمِ
[23] الَّتِي لَا يُمْكِنُنَا رَفْعُهَا إِلَّا بِطَرِيقِهِ
[24] وَجِهَادُ الْكُفَّارِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ ظُهُورِهِ .
[ ص: 390 ] فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي جَعَلْتُمُوهُ لُطْفًا ، هُوَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْعُقُولُ وَالْعَادَاتُ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ . قُلْتُمْ : إِنَّ الْجَمَاعَةَ مَتَى كَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ ، كَانُوا بِوُجُودِهِ أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْفَسَادِ ، وَاشْتَرَطْتُمْ فِيهِ الْعِصْمَةَ . قُلْتُمْ لِأَنَّ مَقْصُودَ الِانْزِجَارِ
[25] لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهَا . وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْمُنْتَظَرِ ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُنْبَسِطَ الْيَدِ وَلَا مُتَصَرِّفًا .
nindex.php?page=showalam&ids=8وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوَلَّى الْخِلَافَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُ وَانْبِسَاطُهُ تَصَرُّفَ مَنْ قَبْلَهُ وَانْبِسَاطَهُمْ وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَلَمْ تَكُنْ أَيْدِيهِمْ مُنْبَسِطَةً وَلَا مُتَصَرِّفُونَ بَلْ كَانَ يَحْصُلُ بِأَحَدِهِمْ مَا يَحْصُلُ بِنُظَرَائِهِ
[26] .
وَأَمَّا الْغَائِبُ فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ شَيْءٌ ، فَإِنَّ الْمُعْتَرِفَ بِوُجُودِهِ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ غَابَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً ، وَأَنَّهُ خَائِفٌ لَا يُمْكِنُهُ الظُّهُورُ ، فَضْلًا عَنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا وَلَا يَنْهَاهُ - لَمْ يَزَلْ
[27] الْهَرْجُ وَالْفَسَادُ بِهَذَا .
وَلِهَذَا يُوجَدُ
[28] طَوَائِفُ
الرَّافِضَةِ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ هَرْجًا وَفَسَادًا ، وَاخْتِلَافًا بِالْأَلْسُنِ وَالْأَيْدِي ، وَيُوجَدُ مِنَ الِاقْتِتَالِ وَالِاخْتِلَافِ وَظُلْمِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مَا لَا يُوجَدُ فِيمَنْ لَهُمْ مُتَوَلٍّ كَافِرٍ ، فَضْلًا عَنْ مُتَوَلٍّ مُسْلِمٍ ، فَأَيُّ لُطْفٍ حَصَلَ لِمُتَّبِعِيهِ بِهِ ؟ .
[ ص: 391 ] وَاعْتَبِرِ
[29] الْمَدَائِنَ وَالْقُرَى الَّتِي يُقِرُّ أَهْلُهَا بِإِمَامَةِ الْمُنْتَظَرِ ، مَعَ الْقُرَى الَّتِي لَا يُقِرُّونَ بِهِ . تَجِدْ حَالَ
[30] هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ انْتِظَامًا وَصَلَاحًا فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، حَتَّى أَنَّ الْخَبِيرَ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ يَجِدُ بِلَادَ الْكُفَّارِ ، لِوُجُودِ رُؤَسَائِهِمْ يُقِيمُونَ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُمْ أَكْثَرَ انْتِظَامًا مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَرْضِ
[31] الَّتِي يُنْسَبُونَ فِيهَا إِلَى مُتَابَعَةِ الْمُنْتَظَرِ ، لَا يُقِيمُ لَهُمْ سَبَبًا مِنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ بِوُجُودِهِ يَخَافُونَ مَعَهُ أَنْ يَظْهَرَ فَيُعَاقِبَهُمْ عَلَى الذُّنُوبِ ، كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَوْفَ النَّاسِ مِنْ وُلَاةِ أُمُورِهِمُ الْمَشْهُورِينَ أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ ، أَعْظَمُ مِنْ خَوْفِ هَؤُلَاءِ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنْتَظَرِ لَهُمْ .
ثُمَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21480الذُّنُوبُ قِسْمَانِ : مِنْهَا ذُنُوبٌ ظَاهِرَةٌ ، كَظُلْمِ النَّاسِ وَالْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ ، فَهَذِهِ تَخَافُ النَّاسُ
[32] فِيهَا مِنْ عُقُوبَةِ وُلَاةِ أُمُورِهِمْ ، أَعَظَمَ مِمَّا يَخَافُهُ
الْإِمَامِيَّةُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنْتَظَرِ . فَعُلِمَ أَنَّ اللُّطْفَ الَّذِي
nindex.php?page=treesubj&link=28833أَوْجَبُوهُ لَا يَحْصُلُ بِالْمُنْتَظَرِ أَصْلًا لِلْعَارِفِ بِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ اللُّطْفَ بِهِ يَحْصُلُ لِلْعَارِفِينَ بِهِ ، كَمَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الظُّهُورِ ، فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ ظَاهِرَةٌ ; فَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَ حَصَلَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْوَعْظِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ لُطْفٌ لَا يَحْصُلُ مَعَ عَدَمِ الظُّهُورِ .
[ ص: 392 ] وَتَشْبِيهُهُمْ مَعْرِفَتَهُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ فِي بَابِ اللُّطْفِ وَأَنَّ اللُّطْفَ بِهِ يَحْصُلُ لِلْعَارِفِ دُونَ غَيْرِهِ ، قِيَاسٌ فَاسِدٌ . فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ حَيٌّ قَادِرٌ ، يَأْمُرُ بِالطَّاعَةِ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا ، وَيَنْهَى عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا ، مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ مِنْهُ ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ دَاعِيَةً إِلَى الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ ، بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ ، وَالرَّهْبَةِ مِنْ عِقَابِهِ إِذَا عَصَى ، لِعِلْمِ الْعَبْدِ بِأَنَّهُ عَالِمٌ قَادِرٌ ، وَأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِإِثَابَةِ الْمُطِيعِينَ وَعُقُوبَةِ الْعَاصِينَ .
وَأَمَّا شَخْصٌ يَعْرِفُ النَّاسُ أَنَّهُ
[33] مَفْقُودٌ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا ، وَأَنَّهُ لَمْ يُثِبْ أَحَدًا بَلْ هُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا ظَهَرَ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ بِهِ
[34] دَاعِيَةٌ إِلَى فِعْلِ مَا أَمَرَ وَتَرْكِ مَا حَظَرَ
[35] ، بَلِ الْمَعْرِفَةُ بِعَجْزِهِ وَخَوْفِهِ تُوجِبُ الْإِقْدَامَ عَلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ ، لَا سِيَّمَا مَعَ طُولِ الزَّمَانِ وَتَوَالِي الْأَوْقَاتِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ ، وَهُوَ لَمْ يُعَاقِبْ أَحَدًا وَلَمْ يُثِبْ أَحَدًا .
بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَظْهَرُ فِي [ كُلِّ ]
[36] مِائَةِ سَنَةٍ مَرَّةً فَيُعَاقِبُ ، لَمْ يَكُنْ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِآحَادِ وُلَاةِ الْأَمْرِ ، بَلْ وَلَوْ قِيلَ : إِنَّهُ يَظْهَرُ فِي كُلِّ عَشْرِ سِنِينَ ، بَلْ وَلَوْ ظَهَرَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً ، فَإِنَّهُ [ لَا ] تَكُونُ
[37] مَنْفَعَتُهُ كَمَنْفَعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ الظَّاهِرِينَ لِلنَّاسِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، بَلْ هَؤُلَاءِ - مَعَ
[ ص: 393 ] ذُنُوبِهِمْ وَظُلْمِهِمْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ - شَرْعُ اللَّهِ بِهِمْ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ ، وَمَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الرَّغَبَاتِ فِي الطَّاعَاتِ ، أَضْعَافُ مَا يُقَامُ بِمَنْ يَظْهَرُ بَعْدَ كُلِّ مُدَّةٍ ، فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ مَفْقُودٌ ، يَعْلَمُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ ، وَالْمُقِرُّونَ بِهِ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ عَاجِزٌ خَائِفٌ لَمْ يَفْعَلْ قَطُّ مَا يَفْعَلُهُ
[38] آحَادُ النَّاسِ ، فَضْلًا عَنْ وُلَاةِ أَمْرِهِمْ .
وَأَيُّ هَيْبَةٍ لِهَذَا ؟ وَأَيُّ طَاعَةٍ ، وَأَيُّ تَصَرُّفٍ ، وَأَيُّ يَدٍ مُنْبَسِطَةٍ ؟ حَتَّى إِذَا كَانَ لِلنَّاسِ رَئِيسٌ مَهِيبٌ مُطَاعٌ مُتَصَرِّفٌ مُنْبَسِطُ الْيَدِ ، كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ بِوُجُودِهِ .
وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالْمُكَابَرَةِ وَالسَّفْسَطَةِ ، حَيْثُ جَعَلُوا اللُّطْفَ بِهِ فِي حَالِ عَجْزِهِ وَغَيْبَتِهِ ، مِثْلَ اللُّطْفِ بِهِ فِي حَالِ ظُهُورِهِ ، وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِهِ مَعَ عَجْزِهِ وَخَوْفِهِ وَفَقْدِهِ لُطْفٌ ، كَمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرًا قَادِرًا آمِنًا ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ لُطْفٌ ، كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لُطْفٌ .