[ ص: 385 ] باب الحكم في المهادنين والمعاهدين وما أتلف من خمرهم وخنازيرهم وما يحل منه وما يرد
قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل
المدينة وادع يهود كافة على غير جزية ، وأن قول الله عز وجل
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، إنما نزلت فيهم ولم يقروا أن يجري عليهم الحكم ، وقال بعضهم : نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وهذا أشبه بقول الله عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=43وكيف يحكمونك وعندهم التوراة الآية ( قال : ) وليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجرى عليهم الحكم إذا جاءوه في حد لله تعالى ، وعليه أن يقيمه لما وصفت من قول الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29وهم صاغرون ( قال
المزني ) - رحمه الله - : هذا أشبه من قوله في كتاب الحدود لا يحدون وأرفعهم إلى أهل دينهم " .
قال
الماوردي : وقد مضت هذه المسألة في مواضع شتى .
وجملته أن من خالف دين الإسلام من أهل الأمان صنفان : أهل ذمة وأهل عهد ، فأما
nindex.php?page=treesubj&link=25567أهل العهد إذا تحاكموا إلينا ، فحاكمنا بالخيار بين أن يحكم بينهم ، وبين أن يمتنع : لقول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم [ المائدة : 42 ] . فلم يختلف أهل العلم أنها نزلت فيمن وادعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهود
المدينة قبل فرض الجزية ، فكانوا أهل عهد لا ذمة لهم ، واختلف فيها هل نزلت عامة أو على سبب ، فالذي عليه قول الأكثرين أنها نزلت عامة : لغير سبب .
وقال بعضهم : بل نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، فكان سببها خاصا وحكمها عاما ، فإن حكما حاكمنا بينهم كانوا مخيرين بين التزامه ، وبين رده .
فإن قيل : فقد رجم اليهوديين الزانيين بغير اختيارهما : لأنهما أنكرا الرجم .
قيل لهم : كان الإنكار لوجوب الرجم في الشرع ، ولم يكن ذلك امتناعا من التزام حكمه .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=25567أهل الذمة ، ففي وجوب الحكم إذا تحاكموا إلينا قولان :
أحدهما : أنهم كأهل العهد يكون حاكمنا في الحكم بينهم مخيرا ، وهم في
[ ص: 386 ] التزامه إذا حكم بينهم مخيرين : لعموم الآية ، لاشتراك الفريقين في المخالفة .
والقول الثاني : وهو أصح اختاره
المزني : أنه يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم ، ويجب إذا حكم أن يلتزموا حكمه عليهم : لقول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] . والصغار أن يجري عليهم أحكام الإسلام : ولأنهم قد صاروا بالذمة تبعا للمسلمين فجرت عليهم أحكامهم .
فإن
nindex.php?page=treesubj&link=25567كان التحاكم بين مسلم ومعاهد ، أو بين مسلم وذمي ، وجب الحكم بينهما ، سواء كان المسلم طالبا أو مطلوبا : لأن كل واحد منهما يدعو إلى دينه ، ودين الإسلام هو الحق المطاع .
ولو
nindex.php?page=treesubj&link=25567كان التحاكم بين ذمي ومعاهد لم يجز قولا واحدا تغليبا لحكم الإسقاط .
ولو
nindex.php?page=treesubj&link=25567كان بين ذميين من دينين كيهودي ونصراني فعلى وجهين :
أحدهما : أنهما فيه سواء : لأن جميع الكفر ملة واحدة ، فيكون على الوجهين .
والقول الثاني : وهو قول
أبي هريرة : أنه يجب الحكم بينهما قولا واحدا ، ويجب عليهما التزامه : لأن اختلاف معتقدهما يوجب قطع التنازع بينهما بالحق .
فأما إن كان المتحاكمان من ملة واحدة على مذهبين مختلفين : أحدهما نسطوري ، والآخر يعقوبي ، فالمعتبر فيه اجتماعهما على أصل الدين ، وهو واحد ، فصارا فيه كالمذهب الواحد : لأن دينهما واحد .
فلو قلد الإمام على أهل الذمة حاكما منهم كان حكمه غير لازم لهم ، وكان فيه كالمتوسط بينهم .
وقال
أبو حنيفة : ينفذ حكمه عليهم : لأنهم يلتزمون أحكام شرعهم ، وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أن صحة المعتقد شرط في نفوذ الحكم ، ومعتقده باطل .
والثاني : أن صحة الحكم شرط في نفوذه ، وحكمهم باطل .
[ ص: 385 ] بَابُ الْحُكْمِ فِي الْمُهَادَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ وَمَا أُتْلِفَ مِنْ خَمْرِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ وَمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يُرَدُّ
قَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : " لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ
الْمَدِينَةَ وَادَعَ يَهُودَ كَافَّةً عَلَى غَيْرِ جِزْيَةٍ ، وَأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيهِمْ وَلَمْ يُقَرُّوا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=43وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ الْآيَةَ ( قَالَ : ) وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ الْخِيَارُ فِي أَحَدٍ مِنَ الْمُعَاهَدِينَ الَذِينَ يُجْرَى عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ إِذَا جَاءُوهُ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَهُ لِمَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29وَهُمْ صَاغِرُونَ ( قَالَ
الْمُزَنِيُّ ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - : هَذَا أَشْبَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ لَا يُحَدُّونَ وَأَرْفَعُهُمْ إِلَى أَهْلِ دِينِهِمْ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانِ صِنْفَانِ : أَهْلُ ذِمَّةٍ وَأَهْلُ عَهْدٍ ، فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=25567أَهْلُ الْعَهْدِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا ، فَحَاكِمُنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [ الْمَائِدَةِ : 42 ] . فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَادْعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَهُودِ
الْمَدِينَةَ قَبْلَ فَرْضِ الْجِزْيَةِ ، فَكَانُوا أَهْلَ عَهْدٍ لَا ذِمَّةَ لَهُمْ ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ نَزَلَتْ عَامَّةً أَوْ عَلَى سَبَبٍ ، فَالَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَّةً : لِغَيْرِ سَبَبٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا ، فَكَانَ سَبَبُهَا خَاصًّا وَحُكْمُهَا عَامًّا ، فَإِنْ حَكَّمَا حَاكِمَنَا بَيْنَهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الْتِزَامِهِ ، وَبَيْنَ رَدِّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ الزَّانِيَيْنِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمَا : لِأَنَّهُمَا أَنْكَرَا الرَّجْمَ .
قِيلَ لَهُمْ : كَانَ الْإِنْكَارُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فِي الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ امْتِنَاعًا مِنَ الْتِزَامِ حُكْمِهِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=25567أَهْلُ الذِّمَّةِ ، فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ إِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ كَأَهْلِ الْعَهْدِ يَكُونُ حَاكِمُنَا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرًا ، وَهُمْ فِي
[ ص: 386 ] الْتِزَامِهِ إِذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ مُخَيَّرِينَ : لِعُمُومِ الْآيَةِ ، لِاشْتِرَاكِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمُخَالَفَةِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَصَحُّ اخْتَارَهُ
الْمُزَنِيُّ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى حَاكِمِنَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَيَجِبُ إِذَا حَكَمَ أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهُ عَلَيْهِمْ : لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=29حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ : 29 ] . وَالصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ : وَلِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِالذِّمَّةِ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُهُمْ .
فَإِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=25567كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُعَاهَدٍ ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْعُو إِلَى دِينِهِ ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَاعُ .
وَلَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=25567كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَمُعَاهَدٍ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ .
وَلَوْ
nindex.php?page=treesubj&link=25567كَانَ بَيْنَ ذِمِّيَّيْنِ مِنْ دِينَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ : لِأَنَّ جَمِيعَ الْكُفْرِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُهُ : لِأَنَّ اخْتِلَافَ مُعْتَقَدِهِمَا يُوجِبُ قَطْعَ التَّنَازُعِ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ .
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَحَاكِمَانِ مِنْ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَذْهَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا نَسْطُورِيٌّ ، وَالْآخَرُ يَعْقُوبِيٌّ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى أَصْلِ الدِّينِ ، وَهُوَ وَاحِدٌ ، فَصَارَا فِيهِ كَالْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ : لِأَنَّ دِينَهُمَا وَاحِدٌ .
فَلَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ حَاكِمًا مِنْهُمْ كَانَ حُكْمُهُ غَيْرَ لَازِمٍ لَهُمْ ، وَكَانَ فِيهِ كَالْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمْ .
وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ : لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ شَرْعِهِمْ ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ صِحَّةَ الْمُعْتَقَدِ شَرْطٌ فِي نُفُوذِ الْحُكْمِ ، وَمُعْتَقَدُهُ بَاطِلٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ صِحَّةَ الْحُكْمِ شَرْطٌ فِي نُفُوذِهِ ، وَحُكْمُهُمْ بَاطِلٌ .