(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) الرؤية هنا علمية و ( القرن ) من الناس القوم المقترنون في زمن واحد ، جمعه قرون ، وقد استعمل في القرآن بهذا المعنى مفردا وجمعا ، واختلف في الزمن المحدد للقرن ، فأوسط الأقوال أنه سبعون أو ثمانون سنة ، وقيل : مائة أو أكثر ، وقيل ستون أو أربعون ، والمعقول أنه مقدار متوسط أعمار الناس في كل زمن . وذهب بعضهم إلى تحديد القرن بالحالة الاجتماعية التي يكون عليها القوم . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : أنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم أو ملك من الملوك ، وهذا أقرب إلى استعمال القرآن ، فالظاهر أن قوم
نوح قرن وإن امتد زمنه فيهم زهاء ألف سنة وقوم
عاد قرن وقوم
صالح قرن ،
nindex.php?page=treesubj&link=28905_28910ويطلق القرن على الزمان نفسه ،
[ ص: 256 ] والمشهور في عرف الكتاب اليوم أن القرن مائة سنة . و ( التمكين ) يستعمل باللام وفي ، يقال : مكن له في الأرض جعل له مكانا فيها ونحوه أرض له ، ومنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=84إنا مكنا له في الأرض ) ( 18 : 84 ) ويقال : مكنه في الأرض أي أثبته فيها ، ومنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=26ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ) ( 46 : 26 ) كذا في الكشاف . قال ولتقارب المعنيين جمع بينهما في هذه الآية . وقيل إن " مكنه ومكن له كوهبه ووهب له " ، وقال
أبو علي اللام زائدة كردف له ، وسيأتي تحقيق معنى الاستعمالين .
والسماء المطر ، والمدرار المغزار فهو صيغة مبالغة من الدر ، وهو مصدر در اللبن درا أي كثر وغزر ، ويسمى اللبن الحليب درا كالمصدر .
والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاق الإرسال من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا ، وقال
الراغب : أصل الرسل الانبعاث على التؤدة ويقال ناقة رسلة سهلة السير ، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثا سهلا ، ومنه الرسول المنبعث ، ثم ذكر أن الإرسال يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل وبالتسخير كإرسال الريح والمطر وبترك المنع نحو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=83أرسلنا الشياطين على الكافرين ) ( 19 : 83 ) ويستعمل فيما يقابل الإمساك نحو (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=2وما يمسك فلا مرسل له ) ( 35 : 2 ) .
والكلام استئناف لبيان ما توعدهم به وكونه مما سبقت به سنته في المكذبين من أقوام الأنبياء ، والمعنى ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق كم أهلكنا من قبلهم من قوم أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم هم مثله ، ثم لم تكن تلك المواهب والنعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=43أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ) ( 54 : 43 ) ؟ لا هذا ولا ذاك ، فإما الإيمان وإما الهلاك .
وكان الظاهر أن يقال : مكناهم في الأرض أي القرون ما لم نمكنهم أي الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم ، فعدل عن ذلك بالالتفات عن الغيبة إلى الخطاب لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما وكون المثبت عين المنفي . فقيل : ما لم نمكن لكم : وإنما لم يقل : " ما لم نمكنكم " أو : " ومكنا لهم ما لم نمكن لكم " وهو مقتضى المطابقة لنكتة دقيقة لا يدركها إلا من فقه الفرق بين مكنه ومكن له ، وقد غفل عنه جماهير أهل اللغة والتفسير " والتحقيق أن معنى مكنه في الأرض أو في الشيء : جعله متمكنا من التصرف تام الاستقلال فيه . وأما مكن له فقد استعمل في القرآن مع التصريح بالمفعول به ومع حذفه ، فالأول كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=55وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) ( 24 : 55 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=57أولم نمكن لهم حرما آمنا ) ( 28 : 57 ) والثاني كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=21وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) ( 12 : 21 ) وقوله في
ذي القرنين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=84إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ) ( 18 : 84 ) فلا بد في مثل هذا من تقدير المفعول المحذوف مع مراعاة ما يناسب ذلك
[ ص: 257 ] من نكت الحذف ، ككون المفعول في هاتين الآيتين عاما يتناول كل ما يصلح للمقام ، كأن يقال : مكنا
ليوسف ولذي القرنين في الأرض جميع أسباب الاستقلال في التصرف .
إذا فقهت هذا فاعلم أن في هذه الآية احتباكا تقديره " مكناهم في الأرض ما لم نمكنكم ، ومكنا لهم ما لم نمكن لكم " ومعنى الأول أنهم كانوا أشد منكم قوة وتمكنا في أرضهم ، فلم يكن يوجد حولهم من يضارعهم في قوتهم ، ويقدر على سلب استقلالهم ، ومعنى الثاني أننا أعطيناهم من أسباب التمكن في الأرض وضروب التصرف وأنواع النعم ما لم نعطكم . فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر ، وهذا من أعلى فنون الإيجاز ، الذي وصل في القرآن إلى أوج الإعجاز ، ويصدق كل من التمكينين على قوم عاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم ، كما يعلم من قصص الرسل في القرآن ومن التاريخ العام .
ثم عطف على هذا ما امتازت به القرون على كفار قريش من النعم الإلهية الخاصة بمواقع بلادهم من الأرض فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) إرسال السماء عبارة عن إنزال المطر ، والمدرار الغزير كما تقدم (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) أي وسخرنا لهم الأنهار وهي مجاري المياه الفائضة وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجري دائما من تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافه ، أو في الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها ، فيتمتعون بالنظر إلى جمالها ، وبسائر ضروب الانتفاع من أمواهها .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) ( أي فكان عاقبة أمرهم لما كفروا بتلك النعم وكذبوا الرسل أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يقترفونها . وأنشأنا أي أوجدنا من بعد الهالكين من كل منهم قرنا آخرين يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكر نعم الله عليهم فيها . والذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان : ( أحدهما ) معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به . ( وثانيهما ) كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ، ومحاباة الأقوياء ، والإسراف في الفسق والفجور ، والغرور بالغنى والثروة ، فهذا كله من الكفر بنعم الله واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام ، والأيام الناطقة بتلك الذنوب مجتمعة ومتفرقة كثيرة كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=58وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=59وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) ( 28 : 58 ، 59 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) ( 11 : 102 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ( 16 : 112 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا 17 : 16 )
[ ص: 258 ] والعذاب الذي يعذب الله به الأمم ويهلك القرون ويديل الدول قسمان أيضا . الجوائح والاستئصال ، وفقد الاستقلال ، وقد بينا هذا وذاك في مواضع من هذا التفسير .
وفي هذه الآية رد على كفار
مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف عصبية النبي صلى الله عليه وسلم وفقره ، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=35وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 35 ) .
أما القوم أو القرن الآخرون الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله تعالى ، فهم لا بد أن يكونوا مخالفين لهم في صفاتهم ، وإن كانوا من جبلتهم وأبناء جيلهم ، فالشعوب التي نكبت بالحرب المشتعلة الآن في أوربا لا بد أن يخلف الهالكين فيها خلف يتركون كثيرا مما كانت عليه من الكفر بالله وكفر نعمه ، ويكونوا أقل منهم بطرا وقسوة وانغماسا في الترف والسرف وما ينشأ عنهما من الفسق والفجور ، قال تعالى في آخر سورة القتال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=38وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ( 47 : 38 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ وَ ( الْقَرْنُ ) مِنَ النَّاسِ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ، جَمْعُهُ قُرُونٌ ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُفْرَدًا وَجَمْعًا ، وَاخْتُلِفَ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدِّدِ لِلْقَرْنِ ، فَأَوْسَطُ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ سَنَةً ، وَقِيلَ : مِائَةٌ أَوْ أَكْثَرُ ، وَقِيلَ سِتُّونَ أَوْ أَرْبَعُونَ ، وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ مِقْدَارُ مُتَوَسِّطِ أَعْمَارِ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَنٍ . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَحْدِيدِ الْقَرْنِ بِالْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْقَوْمُ . فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ : أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَهْلِ عَصْرٍ فِيهِمْ نَبِيٌّ أَوْ فَائِقٌ فِي الْعِلْمِ أَوْ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَ
نُوحٍ قَرْنٌ وَإِنِ امْتَدَّ زَمَنُهُ فِيهِمْ زُهَاءَ أَلْفِ سَنَةٍ وَقَوْمُ
عَادٍ قَرْنٌ وَقَوْمُ
صَالِحٍ قَرْنٌ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28905_28910وَيُطْلَقُ الْقَرْنُ عَلَى الزَّمَانِ نَفْسِهِ ،
[ ص: 256 ] وَالْمَشْهُورُ فِي عُرْفِ الْكُتَّابِ الْيَوْمَ أَنَّ الْقَرْنَ مِائَةُ سَنَةٍ . وَ ( التَّمْكِينُ ) يُسْتَعْمَلُ بِاللَّامِ وَفِي ، يُقَالُ : مَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ جَعَلَ لَهُ مَكَانًا فِيهَا وَنَحْوَهُ أَرْضٌ لَهُ ، وَمِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=84إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) ( 18 : 84 ) وَيُقَالُ : مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَثْبَتَهُ فِيهَا ، وَمِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=26وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ) ( 46 : 26 ) كَذَا فِي الْكَشَّافِ . قَالَ وَلِتَقَارُبِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقِيلَ إِنَّ " مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ كَوَهَبَهُ وَوَهَبَ لَهُ " ، وَقَالَ
أَبُو عَلِيٍّ اللَّامُ زَائِدَةٌ كَرِدْفٍ لَهُ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْتِعْمَالَيْنِ .
وَالسَّمَاءُ الْمَطَرُ ، وَالْمِدْرَارُ الْمِغْزَارُ فَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الدَّرِّ ، وَهُوَ مَصْدَرُ دَرَّ اللَّبَنُ دَرًّا أَيْ كَثُرَ وَغَزُرَ ، وَيُسَمَّى اللَّبَنُ الْحَلِيبُ دَرًّا كَالْمَصْدَرِ .
وَالْإِرْسَالُ وَالْإِنْزَالُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ اشْتِقَاقَ الْإِرْسَالِ مِنْ رُسُل اللَّبَنِ وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الضَّرْعِ مُتَتَابِعًا ، وَقَالَ
الرَّاغِبُ : أَصْلُ الرِّسْلِ الِانْبِعَاثُ عَلَى التُّؤَدَةِ وَيُقَالُ نَاقَةٌ رَسْلَةٌ سَهْلَةُ السَّيْرِ ، وَإِبِلٌ مَرَاسِيلُ مُنْبَعِثَةٌ انْبِعَاثًا سَهْلًا ، وَمِنْهُ الرَّسُولُ الْمُنْبَعِثُ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْإِرْسَالَ يَكُونُ بِبَعْثِ مَنْ لَهُ اخْتِيَارٌ كَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَبِالتَّسْخِيرِ كَإِرْسَالِ الرِّيحِ وَالْمَطَرِ وَبِتَرْكِ الْمَنْعِ نَحْوَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=83أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( 19 : 83 ) وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُقَابِلُ الْإِمْسَاكَ نَحْوَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=2وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ ) ( 35 : 2 ) .
وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ وَكَوْنُهُ مِمَّا سَبَقَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الْمُكَذِّبِينَ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمَعْنَى أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَوْمٍ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ التَّمْكِينِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَابِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَا لَمْ نُعْطِهِمْ هُمْ مِثْلَهُ ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَوَاهِبُ وَالنِّعَمُ بِمَانِعَةٍ لَهُمْ مِنْ عَذَابِنَا لِمَا اسْتَحَقُّوهُ بِذُنُوبِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=43أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ) ( 54 : 43 ) ؟ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ ، فَإِمَّا الْإِيمَانُ وَإِمَّا الْهَلَاكُ .
وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ : مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيِ الْقُرُونَ مَا لَمْ نُمَكِّنْهُمْ أَيِ الْكَفَّارَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمُ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْ حَالِهِمْ ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ بِالِالْتِفَاتِ عَنِ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِمَا فِي إِيرَادِ الْفِعْلَيْنِ بِضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ مِنْ إِيهَامِ اتِّحَادِ مَرْجِعِهِمَا وَكَوْنِ الْمُثَبَتُ عَيْنَ الْمَنْفِيِّ . فَقِيلَ : مَا لَمْ نُمْكِنْ لَكُمْ : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ : " مَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ " أَوْ : " وَمَكَّنَا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ " وَهُوَ مُقْتَضَى الْمُطَابَقَةِ لِنُكْتَةٍ دَقِيقَةٍ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا مِنْ فَقُهَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَكَّنَهُ وَمَكَّنَ لَهُ ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ جَمَاهِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ " وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى مَكَّنَهُ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الشَّيْءِ : جَعَلَهُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّصَرُّفِ تَامَّ الِاسْتِقْلَالِ فِيهِ . وَأَمَّا مَكَّنَ لَهُ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمَفْعُولِ بِهِ وَمَعَ حَذْفِهِ ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=55وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ) ( 24 : 55 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=57أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا ) ( 28 : 57 ) وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=21وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) ( 12 : 21 ) وَقَوْلِهِ فِي
ذِي الْقَرْنَيْنِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=84إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) ( 18 : 84 ) فَلَا بُدَّ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ
[ ص: 257 ] مِنْ نُكَتِ الْحَذْفِ ، كَكَوْنِ الْمَفْعُولِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَامًّا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ ، كَأَنْ يُقَالُ : مَكَّنَا
لِيُوسُفَ وَلِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي الْأَرْضِ جَمِيعَ أَسْبَابِ الِاسْتِقْلَالِ فِي التَّصَرُّفِ .
إِذَا فَقِهْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ احْتِبَاكًا تَقْدِيرُهُ " مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ ، وَمَكَّنَا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ " وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَتَمَكُّنًا فِي أَرْضِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ يُوجَدُ حَوْلَهُمْ مَنْ يُضَارِعُهُمْ فِي قُوَّتِهِمْ ، وَيَقْدِرُ عَلَى سَلْبِ اسْتِقْلَالِهِمْ ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّنَا أَعْطَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَضُرُوبِ التَّصَرُّفِ وَأَنْوَاعِ النِّعَمِ مَا لَمْ نُعْطِكُمْ . فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا أَثْبَتَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ ، وَهَذَا مِنْ أَعْلَى فُنُونِ الْإِيجَازِ ، الَّذِي وَصَلَ فِي الْقُرْآنِ إِلَى أَوْجِ الْإِعْجَازِ ، وَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنَ التَّمْكِينَيْنِ عَلَى قَوْمِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي الْقُرْآنِ وَمِنَ التَّارِيخِ الْعَامِّ .
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا مَا امْتَازَتْ بِهِ الْقُرُونُ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنَ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِمَوَاقِعِ بِلَادِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ) إِرْسَالُ السَّمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ الْمَطَرِ ، وَالْمِدْرَارُ الْغَزِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ ) أَيْ وَسَخَّرَنَا لَهُمُ الْأَنْهَارَ وَهِيَ مَجَارِي الْمِيَاهِ الْفَائِضَةِ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِجَعْلِهَا تَجْرِي دَائِمًا مِنْ تَحْتِ مَسَاكِنِهِمُ الَّتِي يَبْنُونَهَا عَلَى ضِفَافِهِ ، أَوْ فِي الْجَنَّاتِ وَالْحَدَائِقِ الَّتِي تَتَفَجَّرُ خِلَالَهَا ، فَيَتَمَتَّعُونَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَمَالِهَا ، وَبِسَائِرِ ضُرُوبِ الِانْتِفَاعِ مِنْ أَمْوَاهِهَا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) ( أَيْ فَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ لَمَّا كَفَرُوا بِتِلْكَ النِّعَمِ وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ أَنْ أَهْلَكْنَا كُلَّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِفُونَهَا . وَأَنْشَأْنَا أَيْ أَوْجَدْنَا مِنْ بَعْدِ الْهَالِكِينَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ قَرْنًا آخَرِينَ يُعَمِّرُونَ الْبِلَادَ وَيَكُونُونَ أَجْدَرَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا . وَالذُّنُوبُ الَّتِي يُهْلِكُ اللَّهُ بِهَا الْقُرُونَ وَيُعَذِّبُ بِهَا الْأُمَمَ قِسْمَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) مُعَانَدَةُ الرُّسُلِ وَالْكُفْرُ بِمَا جَاءُوا بِهِ . ( وثَانِيهِمَا ) كُفْرُ النِّعَمِ بِالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَغَمْطُ الْحَقِّ وَاحْتِقَارُ النَّاسِ وَظُلْمُ الضُّعَفَاءِ ، وَمُحَابَاةُ الْأَقْوِيَاءِ ، وَالْإِسْرَافُ فِي الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ ، وَالْغُرُورُ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْكُفْرِ بِنِعَمِ اللَّهِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ مَا يُرْضِيهِ مِنْ نَفْعِ النَّاسِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ ، وَالْأَيَّامُ النَّاطِقَةُ بِتِلْكَ الذُّنُوبِ مُجْتَمِعَةٌ وَمُتَفَرِّقَةٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=58وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=59وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ( 28 : 58 ، 59 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=102وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) ( 11 : 102 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=112وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( 16 : 112 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا 17 : 16 )
[ ص: 258 ] وَالْعَذَابُ الَّذِي يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهِ الْأُمَمَ وَيُهْلِكُ الْقُرُونَ وَيُدِيلُ الدُّوَلَ قِسْمَانِ أَيْضًا . الْجَوَائِحُ وَالِاسْتِئْصَالُ ، وَفَقْدُ الِاسْتِقْلَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَذَاكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ رَدٌّ عَلَى كُفَّارِ
مَكَّةَ وَهَدْمٌ لِغَرُورِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ بِإِزَاءِ ضَعْفِ عَصَبِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَقْرِهِ ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=35وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) ( 34 : 35 ) .
أَمَّا الْقَوْمُ أَوِ الْقَرْنُ الْآخَرُونَ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ مَنْ نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي صِفَاتِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِبِلَّتِهِمْ وَأَبْنَاءِ جِيلِهِمْ ، فَالشُّعُوبُ الَّتِي نُكِبَتْ بِالْحَرْبِ الْمُشْتَعِلَةِ الْآنَ فِي أُورُبَّا لَا بُدَّ أَنْ يَخْلُفَ الْهَالِكِينَ فِيهَا خَلَفٌ يَتْرُكُونَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَكُفْرِ نِعَمِهِ ، وَيَكُونُوا أَقَلَّ مِنْهُمْ بَطَرًا وَقَسْوَةً وَانْغِمَاسًا فِي التَّرَفِ وَالسَّرَفِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ ، قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِتَالِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=38وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) ( 47 : 38 ) .