(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54nindex.php?page=treesubj&link=28973وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=56ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه ، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه : مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع ، ويوجه الفكر ويستميل القلب ، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم ، ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها ، فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم
آل فرعون ، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم - وهو قتل الأبناء - يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر ، وهو مع هذا لا ينفر بها عن الإصغاء والتدبر ؛ لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها ، ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها ، إذ لا يشوب الفخر بها تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها ، وهي فرق البحر بهم وإنجاؤهم ، وإغراق عدوهم .
[ ص: 265 ] لا جرم أن نفوس
الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عند ما تلا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله - تعالى - بهم ، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة ، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها ، وتتمادى في إبائها وزهوها ، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم ، هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم ، وهي اتخاذ العجل إلها ، وقدم على ذكرها خبر مواعدة
موسى وهي من النعم ، وختمها بذكر العفو ، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان ، وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعور اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف ، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف .
بعد هذا كله استعدت تلك النفوس ؛ لأن تسمع آيات مبدوءة بذكر سيئاتها من غير تمهيد ولا توطئة ، فانتقل الكلام إلى هذا الضرب من التذكير مبدوءا بقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54وإذ قال موسى لقومه ) أي واذكر أيها الرسول فيما تلقيه على
بني إسرائيل وغيرهم إذ قال
موسى لقومه الذين اتخذوا من حليهم عجلا عبدوه إذ كان يناجي ربه في الميقاتين : الزماني ، والمكاني (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54nindex.php?page=treesubj&link=28973_31927ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل ) إلها عبدتموه . والقصة مفصلة في سورتي الأعراف وطه المكيتين ؛ لأن قصة
موسى فيهما مقصودة بالذات ، وأما ما هنا فهو تذكير
لبني إسرائيل بما تقدم وجهه في سياق دعوتهم إلى الإسلام (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ) أي فتوبوا إلى خالقكم الذي لا يجوز أن تعبدوا معه إلها آخر هو أدنى منكم ، وهو من خلقكم ، أي تقديركم وصنعكم ، وذلك بأن يقتل بعضكم بعضا ، فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه ، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه ليبخع كل من عبد العجل نفسه انتحارا .
تكلم الأستاذ الإمام في
nindex.php?page=treesubj&link=19704التوبة وقال : إنها محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب ، والباعث عليها هو شعور التائب بعظمة من عصاه ، وما له من السلطان عليه في الحال ، وكون مصيره إليه في المآل ، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي بعد مقارفة الذنب يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية ، ويحدث في روحه انفعالا مما فعل ، وندما على صدوره عنه ، ويزيد هذا الحال في النفس تذكر الوعيد على ذلك الذنب ، وما رتبه الله عليه من العقوبة في الدنيا والآخرة . هذا أثر التوبة في النفس ، وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه وتمحو أثره السيئ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114إن الحسنات يذهبن السيئات ) ( 11 : 114 )
فمن
nindex.php?page=treesubj&link=29489علامة التوبة النصوح الإتيان بأعمال تشق على النفس ، وما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي يحدثه الذنب ، وهذه العلامة لا تتخلف عن التوبة ، سواء كان الذنب مع الله - تعالى - أو مع الناس ، ألا ترى أن أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر يباهي به أن يجيء معترفا بالذنب معتذرا عنه ؟ وهذا ذل يشق على النفس لا محالة ، وقد أمر
بنو إسرائيل بأشق الأعمال
[ ص: 266 ] في تحقيق التوبة من أكبر الذنوب ، وهو الرغبة عن عبادة من خلقهم وبرأهم إلى عبادة ما عملوا بأيديهم وقد قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فتوبوا إلى بارئكم ) لينبههم إلى أن الإله الحقيقي هو الخالق البارئ ليتضمن الأمر الاحتجاج عليهم والبرهان على جهلهم ، ذلك العمل الذي أمرهم به
موسى هو قتل أنفسهم ، والقصة في التوراة التي بين أيديهم إلى اليوم : دعا
موسى إليه من يرجع إلى الرب ، فأجابه بنو لاوى ، فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا ، وقتل في ذلك اليوم " نحو ثلاثة آلاف " ، وقال مفسرنا (
الجلال ) كغيره : إن الذين قتلوا سبعون ألفا والقرآن لم يعين العدد ، والعبرة المقصودة من القصة لا تتوقف على تعيينه فنمسك عنه ، كذا قال الأستاذ الإمام ، وهذا مذهبه في جميع مبهمات القرآن ، يقف عند النص القطعي لا يتعداه ، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه .
قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54ذلكم خير لكم عند بارئكم ) لأنه يطهركم من رجس الشرك الذي دنستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا لما وعدكم به في الدنيا ولمثوبته في الآخرة ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فتاب عليكم ) من كلام الله - تعالى - لا تتمة لكلام
موسى - عليه السلام - في الظاهر ، وهو معطوف على محذوف ، تقديره ففعلتم ما أمركم
موسى به ، فتاب عليكم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54إنه هو التواب الرحيم ) أي أنه هو وحده الكثير التوبة على عباده بتوفيقهم لها وقبولها منهم ، وإن تعددت قبلها جرائمهم ، الرحيم بهم ، ولولا رحمته لعجل بإهلاكهم ببعض ذنوبهم الكبرى ولا سيما الشرك به .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55nindex.php?page=treesubj&link=28973وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) أي واذكروا إذ قلتم لنبيكم : يا
موسى لن نصدق بما جئت به تصديق إذعان واتباع ، حتى نرى الله عيانا جهرة ، فيأمرنا بالإيمان لك ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) أي فأخذت القائلين ذلك منكم الصاعقة وأنتم تنظرون بأعينكم ، وسيأتي بيان هذا بالتفصيل في سورة الأعراف ، فالقصة هنالك مقصودة بكل ما فيها من فائدة وعبرة ، وإنما المراد بها هنا التذكير كما تقدم .
قال الأستاذ الإمام : سؤال
بني إسرائيل رؤية الله - تعالى - واقعة مستقلة لا تتصل بمسألة عبادة العجل ، وهي معروفة عند
بني إسرائيل ومنصوصة في كتابهم ، وذلك أن طائفة منهم قالوا : لماذا اختص
موسى وهارون بكلام الله - تعالى - من دوننا ؟ وانتشر هذا القول في
بني إسرائيل ، وتجرأ جماعة منهم بعد موت
هارون وهاجوا على
موسى وبني هارون وقالوا لهم : إن نعمة الله على
شعب إسرائيل هي لأجل
إبراهيم وإسحاق ، فتشمل جميع الشعب ، وقالوا
لموسى : لست أفضل منا ، فلا يحق لك أن تترفع وتسود علينا بلا مزية ، وإننا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذهم إلى خيمة العهد فانشقت الأرض وابتلعت طائفة منهم ، وجاءت نار من الجانب الآخر فأخذت الباقين ، وهذه النار هي المعبر عنها هنا بالصاعقة ، وهل ثمة من نار غير الاشتعال بالكهرباء ، وهو ما تحدثه الصاعقة التي تحدث الانشقاق في الأرض
[ ص: 267 ] أيضا ؟ . وقد أخذ هذا العذاب تلك الطائفة والآخرون ينظرون ، وهكذا
بنو إسرائيل يتمردون ويعاندون
موسى - عليه السلام - ، وكان سوط عذاب الله يصب عليهم ، فرموا بالأمراض والأوبئة ، وسلطت عليهم الهوام وغيرها حتى أماتت منهم خلقا كثيرا ، فمجاحدتهم ومعاندتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن بدعا من أعمالهم .
قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=56ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) ذهب الأستاذ الإمام إلى أن المراد بالبعث هو كثرة النسل ، أي أنه بعدما وقع فيهم الموت بالصاعقة وغيرها وظن أن سينقرضون بارك الله في نسلهم ؛ ليعد الشعب - بالبلاء السابق - للقيام بحق الشكر على النعم التي تمتع بها الآباء الذين حل بهم العذاب بكفرهم لها .
والعبرة الاجتماعية في الآيات أن الخطاب في كل ما تقدم كان موجها إلى الذين كانوا في عصر التنزيل ، وأن الكلام عن الأبناء والآباء واحد لم تختلف فيه الضمائر حتى كأن الذين قتلوا أنفسهم بالتوبة والذين صعقوا بعد ذلك هم المطالبون بالاعتبار وبالشكر ، وما جاء الخطاب بهذا الأسلوب إلا لبيان معنى وحدة الأمة ، واعتبار أن كل ما يبلوها الله به من الحسنات والسيئات ، وما يجازيها به من النعم والنقم ، إنما يكون لمعنى موجود فيها يصح أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق ، كأنه وقع به ؛ ليعلم الناس أن سنة الله - تعالى - في الاجتماع الإنساني أن تكون الأمم متكافلة ، يعتبر كل فرد منها سعادته بسعادة سائر الأفراد وشقاءه بشقائهم ، ويتوقع نزول العقوبة إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يواقعها هو (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=25واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( 8 : 25 ) وهذا التكافل في الأمم هو المعراج الأعظم لرقيها ؛ لأنه يحمل الأمة التي تعرفه على التعاون على الخير والمقاومة للشر فتكون من المفلحين .
بعد هذا ذكر الله - تعالى - نعمة أخرى ، بل نعمتين
nindex.php?page=treesubj&link=32419من النعم التي من بها على بني إسرائيل ، فكفروا بها ، ولكنه لم يذكر ما كان به الكفران ، بل طواه وأشار بما ختم به الآية من أنهم لم يظلموا الله - تعالى - بذلك الذنب المطوي وإنما ظلموا أنفسهم ، وهذا أسلوب آخر من أساليب البيان في التذكير ، وضرب من ضروب الإيجاز التي هي أقوى دعائم الإعجاز .
أما النعمة الأولى فقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57وظللنا عليكم الغمام ) قال الأستاذ الإمام : هذه نعمة مستقلة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى ، منفصلة عنها في الوقوع ، فإن التظليل استمر إلى دخولهم أرض الميعاد ، ولولا أن ساق الله إليهم الغمام يظللهم في التيه لسفعتهم الشمس ولفحت وجوههم . وقال : لا معنى لوصف الغمام بالرقيق كما قال المفسر (
الجلال ) وغيره ، بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل إلا بسحاب كثيف يمنع حر الشمس ووهجها ، وكذلك لا تتم النعمة التي بها المنة إلا بالكثيف ، وهو المنقول المعروف عند
الإسرائيليين أنفسهم .
[ ص: 268 ] وأما النعمة الثانية ففي قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57nindex.php?page=treesubj&link=28973وأنزلنا عليكم المن والسلوى ) ما منح من الله - تعالى - يسمى إيجاده إنزالا ومنة (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنزلنا الحديد ) ( 57 : 25 ) على أن المن ينزل كالندى ، وهو مادة لزجة حلوة تشبه العسل ، تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ، ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس ، ومنها الترنجبين وبه فسر المن مفسرنا وغيره . وأما السلوى فقد فسروها بالسماني ، وهو الطائر المعروف ، فمعنى النزول يصح فيه على حقيقته أيضا . وظاهر أن قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57كلوا من طيبات ما رزقناكم ) مقدر فيه القول . وفي ( سفر الخروج ) أن
بني إسرائيل أكلوا المن أربعين سنة وأن طعمه كالرقاق بالعسل ، وكان لهم بدلا من الخبز ، وليس المراد أنه لم يكن لهم أكل سواه إلا السلوى ، فقد كان معهم المواشي ، ولكنهم كانوا محرومين من النبات والبقول كما يعلم مما يأتي .
وفي قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) تقرير لقاعدة مهمة ، وهي أن كل ما يطلبه الدين من العبد فهو لمنفعته ، وكل ما ينهاه عنه فإنما يقصد به دفع الضرر عنه ، ولن يبلغ أحد نفع الله فينفعه ، ولن يبلغ أحد ضره فيضره ، كما ثبت في الحديث القدسي . فكل عمل ابن آدم له أو عليه (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ( 2 : 86 )
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54nindex.php?page=treesubj&link=28973وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=56ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّذْكِيرِ غَيْرُ مَا سَبَقَهُ ، وَمِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْحِكْمَةِ أَنْ يَجِيءَ تَالِيًا لَهُ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ : مَهَدَّ أَوَّلًا لِلتَّذْكِيرِ تَمْهِيدًا يَسْتَرْعِي السَّمْعَ ، وَيُوَجِّهُ الْفِكْرَ وَيَسْتَمِيلُ الْقَلْبَ ، وَهُوَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ مُجْمَلَةً وَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَلَا يَرْتَاحُ الْإِنْسَانُ لِحَدِيثٍ كَحَدِيثِ مَنَاقِبِ قَوْمِهِ وَمَفَاخِرِهِمْ ، ثُمَّ طَفِقَ يُفَصِّلُ النِّعْمَةَ وَيَشْرَحُهَا ، فَبَدَأَ بِذِكْرِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ ذِكْرُ سَيِّئَةٍ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهُوَ تَنْجِيَتُهُمْ مِنْ ظُلْمِ
آلِ فِرْعَوْنَ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مَعَهُ أَكْبَرَ ضُرُوبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ - وَهُوَ قَتْلُ الْأَبْنَاءِ - يُخَفِّضُ مِنْ عُتُوِّ تِلْكَ النُّفُوسِ الْمُعْجَبَةِ الْمُتَكَبِّرَةِ الَّتِي تَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يُسَوِّدُ عَلَيْهِمْ شَعْبًا آخَرَ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يُنَفِّرُ بِهَا عَنِ الْإِصْغَاءِ وَالتَّدَبُّرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَاجِئْهَا بِشَيْءٍ فِيهِ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ وَعَمَلُ السُّوءِ إِلَيْهَا ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ نِعْمَةٍ خَاصَّةٍ خَالِصَةٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَى ذِكْرِهَا ، إِذْ لَا يَشُوبُ الْفَخْرَ بِهَا تَنْغِيصٌ مِنْ تَذَكُّرِ غَضَاضَةٍ تَتَّصِلُ بِوَاقِعَتِهَا ، وَهِيَ فَرْقُ الْبَحْرِ بِهِمْ وَإِنْجَاؤُهُمْ ، وَإِغْرَاقُ عَدُوِّهِمْ .
[ ص: 265 ] لَا جَرَمَ أَنَّ نُفُوسَ
الْإِسْرَائِيلِيِّينَ كَانَتْ تَهْتَزُّ وَتَأْخُذُهَا الْأَرْيَحِيَّةُ عِنْدَ مَا تَلَا عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ الشَّهَادَةِ بِعِنَايَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِمْ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَارَنُوا بَيْنَ هَذَا التَّذْكِيرِ وَبَيْنَ تَذْكِيرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِتِلْكَ الْقَوَارِعِ الشَّدِيدَةِ ، لَمْ يَتْرُكْهَا بَعْدَ هَذِهِ الْهَزَّةِ تَجْمَحُ فِي عُجْبِهَا وَفَخْرِهَا ، وَتَتَمَادَى فِي إِبَائِهَا وَزَهْوِهَا ، بَلْ عَقَّبَ عَلَيْهَا فَذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ سَيِّئَةً لَهُمْ ، هِيَ كُبْرَى السَّيِّئَاتِ الَّتِي ظَلَمُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ ، وَهِيَ اتِّخَاذُ الْعِجْلِ إِلَهًا ، وَقَدَّمَ عَلَى ذِكْرِهَا خَبَرَ مُوَاعَدَةِ
مُوسَى وَهِيَ مِنَ النِّعَمِ ، وَخَتَمَهَا بِذِكْرِ الْعَفْوِ ، ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهَا بِذِكْرِ نِعْمَةِ إِيتَائِهِمُ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ، وَهَذَا مَا يَجْعَلُ أَنْفُسَ السَّامِعِينَ الْوَاعِينَ قَلِقَةً يَتَنَازَعُهَا شُعُورُ اعْتِرَافِ الْمُذَكِّرِ الْوَاعِظِ لَهَا بِالشَّرَفِ ، وَشُعُورُ رَمْيِهِ إِيَّاهَا بِالظُّلْمِ وَالسَّرَفِ .
بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَعَدَّتْ تِلْكَ النُّفُوسُ ؛ لِأَنْ تَسَمَعَ آيَاتٍ مَبْدُوءَةٍ بِذِكْرِ سَيِّئَاتِهَا مِنْ غَيْرِ تَمْهِيدٍ وَلَا تَوْطِئَةٍ ، فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنَ التَّذْكِيرِ مَبْدُوءًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيمَا تُلْقِيهِ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا عَبَدُوهُ إِذْ كَانَ يُنَاجِي رَبَّهُ فِي الْمِيقَاتَيْنِ : الزَّمَانِيِّ ، وَالْمَكَانِيِّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54nindex.php?page=treesubj&link=28973_31927يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) إِلَهًا عَبَدْتُمُوهُ . وَالْقِصَّةُ مُفَصَّلَةٌ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ وَطَهَ الْمَكِّيَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ قِصَّةَ
مُوسَى فِيهِمَا مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ ، وَأَمَّا مَا هُنَا فَهُوَ تَذْكِيرٌ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا تَقَدَّمَ وَجْهُهُ فِي سِيَاقِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) أَيْ فَتُوبُوا إِلَى خَالِقِكُمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تَعْبُدُوا مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ هُوَ أَدْنَى مِنْكُمْ ، وَهُوَ مِنْ خَلْقِكُمْ ، أَيْ تَقْدِيرِكُمْ وَصُنْعِكُمْ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْتُلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، فَإِنَّ قَتْلَ الْمَرْءِ لِأَخِيهِ كَقَتْلِهِ لِنَفْسِهِ ، وَيَحْتَمِلُ اللَّفْظُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِيَبْخَعَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ نَفْسَهُ انْتِحَارًا .
تَكَلَّمَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=19704التَّوْبَةِ وَقَالَ : إِنَّهَا مَحْوُ أَثَرِ الرَّغْبَةِ فِي الذَّنْبِ مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهَا هُوَ شُعُورُ التَّائِبِ بِعَظَمَةِ مَنْ عَصَاهُ ، وَمَا لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَكَوْنِ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ فِي الْمَآلِ ، لَا جَرَمَ أَنَّ الشُّعُورَ بِهَذَا السُّلْطَانِ الْإِلَهِيِّ بَعْدَ مُقَارَفَةِ الذَّنْبِ يَبْعَثُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الْهَيْبَةَ وَالْخَشْيَةَ ، وَيُحْدِثُ فِي رُوحِهِ انْفِعَالًا مِمَّا فَعَلَ ، وَنَدَمًا عَلَى صُدُورِهِ عَنْهُ ، وَيُزِيدُ هَذَا الْحَالَ فِي النَّفْسِ تَذَكُّرُ الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ ، وَمَا رَتَّبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . هَذَا أَثَرُ التَّوْبَةِ فِي النَّفْسِ ، وَهَذَا الْأَثَرُ يُزْعِجُ التَّائِبَ إِلَى الْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ تُضَادُّ ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي تَابَ مِنْهُ وَتَمْحُو أَثَرَهُ السَّيِّئَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) ( 11 : 114 )
فَمِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29489عَلَامَةِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْإِتْيَانُ بِأَعْمَالٍ تَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ ، وَمَا كَانَتْ لِتَأْتِيَهَا لَوْلَا ذَلِكَ الشُّعُورُ الَّذِي يُحْدِثُهُ الذَّنْبُ ، وَهَذِهِ الْعَلَامَةُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنِ التَّوْبَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ مَعَ النَّاسِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْوَنَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْسَانٍ يُذْنِبُ مَعَ آخَرَ يُبَاهِي بِهِ أَنْ يَجِيءَ مُعْتَرِفًا بِالذَّنْبِ مُعْتَذِرًا عَنْهُ ؟ وَهَذَا ذُلٌّ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ أُمِرَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ بِأَشَقِّ الْأَعْمَالِ
[ ص: 266 ] فِي تَحْقِيقِ التَّوْبَةِ مِنْ أَكْبَرِ الذُّنُوبِ ، وَهُوَ الرَّغْبَةُ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ خَلَقَهُمْ وَبَرَأَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ مَا عَمِلُوا بِأَيْدِيَهُمْ وَقَدْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) لِيُنَبِّهَهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ لِيَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِمْ وَالْبُرْهَانَ عَلَى جَهْلِهِمْ ، ذَلِكَ الْعَمَلُ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ
مُوسَى هُوَ قَتْلُ أَنْفُسِهِمْ ، وَالْقِصَّةُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى الْيَوْمِ : دَعَا
مُوسَى إِلَيْهِ مَنْ يَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ ، فَأَجَابَهُ بَنُو لَاوَى ، فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَأْخُذُوا السُّيُوفَ وَيَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفَعَلُوا ، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ " نَحْوُ ثَلَاثَةِ آلَافٍ " ، وَقَالَ مُفَسِّرُنَا (
الْجَلَالُ ) كَغَيْرِهِ : إِنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا سَبْعُونَ أَلْفًا وَالْقُرْآنُ لَمْ يُعَيِّنِ الْعَدَدَ ، وَالْعِبْرَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْقِصَّةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْيِينِهِ فَنُمْسِكُ عَنْهُ ، كَذَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ، وَهَذَا مَذْهَبُهُ فِي جَمِيعِ مُبْهَمَاتِ الْقُرْآنِ ، يَقِفُ عِنْدَ النَّصِّ الْقَطْعِيِّ لَا يَتَعَدَّاهُ ، وَيُثْبِتُ أَنَّ الْفَائِدَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى سِوَاهُ .
قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ) لِأَنَّهُ يُطَهِّرُكُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ الَّذِي دَنَّسْتُمْ بِهِ أَنْفُسَكُمْ وَيَجْعَلُكُمْ أَهْلًا لِمَا وَعَدَكُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَلِمَثُوبَتِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا تَتِمَّةٍ لِكَلَامِ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الظَّاهِرِ ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ ، تَقْدِيرُهُ فَفَعَلْتُمْ مَا أَمَرَكُمْ
مُوسَى بِهِ ، فَتَابَ عَلَيْكُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=54إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) أَيْ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْكَثِيرُ التَّوْبَةِ عَلَى عِبَادِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لَهَا وَقَبُولِهَا مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ قَبْلَهَا جَرَائِمُهُمْ ، الرَّحِيمُ بِهِمْ ، وَلَوْلَا رَحْمَتُهُ لَعَجَّلَ بِإِهْلَاكِهِمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمُ الْكُبْرَى وَلَا سِيَّمَا الشِّرْكُ بِهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55nindex.php?page=treesubj&link=28973وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) أَيْ وَاذْكُرُوا إِذْ قُلْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ : يَا
مُوسَى لَنْ نُصَدِّقَ بِمَا جِئْتَ بِهِ تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاتِّبَاعٍ ، حَتَّى نَرَى اللَّهَ عِيَانًا جَهْرَةً ، فَيَأْمُرُنَا بِالْإِيمَانِ لَكَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=55فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) أَيْ فَأَخَذَتِ الْقَائِلِينَ ذَلِكَ مِنْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ بِأَعْيُنِكُمْ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ ، فَالْقِصَّةُ هُنَالِكَ مَقْصُودَةٌ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ فَائِدَةٍ وَعِبْرَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا هُنَا التَّذْكِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : سُؤَالُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ رُؤْيَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاقِعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَا تَتَّصِلُ بِمَسْأَلَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابِهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَالُوا : لِمَاذَا اخْتُصَّ
مُوسَى وَهَارُونُ بِكَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ دُونِنَا ؟ وَانْتَشَرَ هَذَا الْقَوْلُ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَتَجَرَّأَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ
هَارُونَ وَهَاجُوا عَلَى
مُوسَى وَبَنِي هَارُونَ وَقَالُوا لَهُمْ : إِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَى
شَعْبِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِأَجْلِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ، فَتَشْمَلُ جَمِيعَ الشَّعْبِ ، وَقَالُوا
لِمُوسَى : لَسْتَ أَفْضَلَ مِنَّا ، فَلَا يَحِقُّ لَكَ أَنْ تَتَرَفَّعَ وَتَسُودَ عَلَيْنَا بِلَا مَزِيَّةٍ ، وَإِنَّنَا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ، فَأَخَذَهُمْ إِلَى خَيْمَةِ الْعَهْدِ فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ وَابْتَلَعَتْ طَائِفَةً مِنْهُمْ ، وَجَاءَتْ نَارٌ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَخَذَتِ الْبَاقِينَ ، وَهَذِهِ النَّارُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا هُنَا بِالصَّاعِقَةِ ، وَهَلْ ثَمَّةَ مِنْ نَارٍ غَيْرُ الِاشْتِعَالِ بِالْكَهْرَبَاءِ ، وَهُوَ مَا تُحْدِثُهُ الصَّاعِقَةُ الَّتِي تُحْدِثُ الِانْشِقَاقَ فِي الْأَرْضِ
[ ص: 267 ] أَيْضًا ؟ . وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْعَذَابُ تِلْكَ الطَّائِفَةَ وَالْآخَرُونَ يَنْظُرُونَ ، وَهَكَذَا
بَنُو إِسْرَائِيلَ يَتَمَرَّدُونَ وَيُعَانِدُونَ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَكَانَ سَوْطُ عَذَابِ اللَّهِ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ ، فَرُمُوا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْهَوَامُّ وَغَيْرُهَا حَتَّى أَمَاتَتْ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا ، فَمُجَاحَدَتُهُمْ وَمُعَانَدَتُهُمْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَكُنْ بِدْعًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ .
قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=56ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْثِ هُوَ كَثْرَةُ النَّسْلِ ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَمَا وَقَعَ فِيهِمُ الْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ وَغَيْرِهَا وَظُنَّ أَنْ سَيَنْقَرِضُونَ بَارَكَ اللَّهُ فِي نَسْلِهِمْ ؛ لِيُعِدَّ الشَّعْبَ - بِالْبَلَاءِ السَّابِقِ - لِلْقِيَامِ بِحَقِّ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا الْآبَاءُ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ لَهَا .
وَالْعِبْرَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ فِي الْآيَاتِ أَنَّ الْخِطَابَ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ ، وَأَنَّ الْكَلَامَ عَنِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ وَاحِدٌ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الضَّمَائِرُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالَّذِينَ صُعِقُوا بَعْدَ ذَلِكَ هُمُ الْمُطَالَبُونَ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالشُّكْرِ ، وَمَا جَاءَ الْخِطَابُ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ إِلَّا لِبَيَانِ مَعْنَى وِحْدَةِ الْأُمَّةِ ، وَاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ مَا يَبْلُوهَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، وَمَا يُجَازِيهَا بِهِ مِنَ النِّعَمِ وَالنِّقَمِ ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِيهَا يَصِحُّ أَنْ يُخَاطَبَ اللَّاحِقُ مِنْهَا بِمَا كَانَ لِلسَّابِقِ ، كَأَنَّهُ وَقَعَ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الِاجْتِمَاعِ الْإِنْسَانِيِّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَمُ مُتَكَافِلَةً ، يَعْتَبِرُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا سَعَادَتَهُ بِسَعَادَةِ سَائِرِ الْأَفْرَادِ وَشَقَاءَهُ بِشَقَائِهِمْ ، وَيَتَوَقَّعُ نُزُولَ الْعُقُوبَةِ إِذَا فَشَتِ الذُّنُوبُ فِي الْأُمَّةِ وَإِنْ لَمْ يُوَاقِعْهَا هُوَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=25وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) ( 8 : 25 ) وَهَذَا التَّكَافُلُ فِي الْأُمَمِ هُوَ الْمِعْرَاجُ الْأَعْظَمُ لِرُقِيِّهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الْأُمَّةَ الَّتِي تَعْرِفُهُ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمُقَاوَمَةِ لِلشَّرِّ فَتَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ .
بَعْدَ هَذَا ذَكَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - نِعْمَةً أُخْرَى ، بَلْ نِعْمَتَيْنِ
nindex.php?page=treesubj&link=32419مِنَ النِّعَمِ الَّتِي مَنَّ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَكَفَرُوا بِهَا ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَا كَانَ بِهِ الْكُفْرَانُ ، بَلْ طَوَاهُ وَأَشَارَ بِمَا خَتَمَ بِهِ الْآيَةَ مِنْ أَنَّهُمْ لَمْ يَظْلِمُوا اللَّهَ - تَعَالَى - بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْمَطْوِيِّ وَإِنَّمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ آخَرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْبَيَانِ فِي التَّذْكِيرِ ، وَضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِيجَازِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى دَعَائِمِ الْإِعْجَازِ .
أَمَّا النِّعْمَةُ الْأُولَى فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ) قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فِي سِيَاقِ الذِّكْرَى ، مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا فِي الْوُقُوعِ ، فَإِنَّ التَّظْلِيلَ اسْتَمَرَّ إِلَى دُخُولِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ ، وَلَوْلَا أَنْ سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الْغَمَامَ يُظَلِّلُهُمْ فِي التِّيهِ لَسَفَعَتْهُمُ الشَّمْسُ وَلَفَحَتْ وُجُوهَهُمْ . وَقَالَ : لَا مَعْنَى لِوَصْفِ الْغَمَامِ بِالرَّقِيقِ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ (
الْجَلَالُ ) وَغَيْرُهُ ، بَلِ السِّيَاقُ يَقْتَضِي كَثَافَتَهُ إِذْ لَا يَحْصُلُ الظِّلُّ الظَّلِيلُ الَّذِي يُفِيدُهُ حَرْفُ التَّظْلِيلِ إِلَّا بِسَحَابٍ كَثِيفٍ يَمْنَعُ حَرَّ الشَّمْسِ وَوَهَجَهَا ، وَكَذَلِكَ لَا تَتِمُّ النِّعْمَةُ الَّتِي بِهَا الْمِنَّةُ إِلَّا بِالْكَثِيفِ ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ
الْإِسْرَائِيلِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ .
[ ص: 268 ] وَأَمَّا النِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57nindex.php?page=treesubj&link=28973وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) مَا مُنِحَ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - يُسَمَّى إِيجَادُهُ إِنْزَالًا وَمِنَّةً (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) ( 57 : 25 ) عَلَى أَنَّ الْمَنَّ يَنْزِلُ كَالنَّدَى ، وَهُوَ مَادَّةٌ لَزِجَةٌ حُلْوَةٌ تُشْبِهُ الْعَسَلَ ، تَقَعُ عَلَى الْحَجَرِ وَوَرَقِ الشَّجَرِ مَائِعَةً ، ثُمَّ تُجَمَّدُ وَتَجِفُّ فَيَجْمَعُهَا النَّاسُ ، وَمِنْهَا التَّرَنْجَبِينُ وَبِهِ فَسَّرَ الْمَنَّ مُفَسِّرُنَا وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا السَّلْوَى فَقَدْ فَسَّرُوهَا بِالسُّمَّانِيِّ ، وَهُوَ الطَّائِرُ الْمَعْرُوفُ ، فَمَعْنَى النُّزُولِ يَصِحُّ فِيهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَيْضًا . وَظَاهِرٌ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) مُقَدَّرٌ فِيهِ الْقَوْلُ . وَفِي ( سِفْرِ الْخُرُوجِ ) أَنَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكَلُوا الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَنَّ طَعْمَهُ كَالرُّقَاقِ بِالْعَسَلِ ، وَكَانَ لَهُمْ بَدَلًا مِنَ الْخُبْزِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَكْلٌ سِوَاهُ إِلَّا السَّلْوَى ، فَقَدْ كَانَ مَعَهُمُ الْمَوَاشِي ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنَ النَّبَاتِ وَالْبُقُولِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي .
وَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=57وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) تَقْرِيرٌ لِقَاعِدَةٍ مُهِمَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا يَطْلُبُهُ الدِّينُ مِنَ الْعَبْدِ فَهُوَ لِمَنْفَعَتِهِ ، وَكُلُّ مَا يَنْهَاهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ دَفَعَ الضَّرَرِ عَنْهُ ، وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ نَفْعَ اللَّهِ فَيَنْفَعَهُ ، وَلَنْ يَبْلُغَ أَحَدٌ ضَرَّهُ فَيَضُرَّهُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ . فَكُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ( 2 : 86 )