[ ص: 240 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40nindex.php?page=treesubj&link=28973يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين )
لا يزال الكلام في الكتاب وكونه لا ريب فيه وبيان أحوال الناس وأصنافهم في أمره ، وقد قلنا : إن
nindex.php?page=treesubj&link=28914التفنن في مسائل مختلفة منتظمة في سلك موضوع واحد هو من أنواع بلاغة القرآن وخصائصه المدهشة التي لم تسبق لبليغ ، ولن يبلغ شأوه فيها بليغ ، ذكر الكتاب أنه لا ريب فيه ، ثم ذكر اختلاف الناس فيه فابتدأ بالمستعدين للإيمان به المنتظرين للهدى الذي يضئ نوره منه ، وثنى بالمؤمنين ، وثلث بالكافرين ، وقفى عليهم بالمنافقين ، ثم ضرب الأمثال لفرق الصنف الرابع ، ثم طالب الناس كلهم بعبادته ، ثم أقام البرهان على كون الكتاب منزلا من الله على عبده
محمد - صلى الله - تعالى - عليه وسلم - ، وتحدى المرتابين بما أعجزهم ، ثم حذر وأنذر ، وبشر ووعد ، ثم ذكر المثل والقدوة وهو الرسول ، وذكر اختلاف الناس فيه كما ذكر اختلافهم في الكتاب ، ثم حاج الكافرين ، وجاءهم بأنصع البراهين ، وهو إحياؤهم مرتين وإماتتهم مرتين ، وخلق السماوات والأرض لمنافعهم ، ثم ذكر خلق الإنسان وبين أطواره ، ثم طفق يخاطب الأمم والشعوب الموجودة في البلاد التي ظهرت فيها النبوة تفصيلا ، فبدأ في هذه الآيات بذكر
اليهود للمعنى الذي نذكره ، والكلام لم يخرج بهذا التنويع عن انتظامه في سلكه ، وحسن اتساقه في سبكه ، فهو دائر على قطب واحد في فلكه ، وهو الكتاب ، والمرسل به ، وحاله مع المرسل إليهم ، قال - تعالى - :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) ( أقول ) :
إسرائيل لقب نبي الله
يعقوب ابن نبيه
إسحاق ابن نبيه وخليله
إبراهيم ( عليهم الصلاة والسلام ) قيل : معناه الأمير المجاهد مع الله . والمراد ببنيه ذريته من أسباطه الاثني عشر ، وأطلق عليهم لقبه في كتبهم وتواريخهم ، كما تسمي العرب القبيلة كلها باسم جدها الأعلى . ولما كانت سورة البقرة أول السور المدنية الطول ، وكان جل
يهود بلاد العرب في جوارها دعاهم الله - تعالى - فيها إلى الإسلام ، وأقام
[ ص: 241 ] عليهم الحجج والبراهين وبين لهم من حقيقة دينهم وتاريخ سلفهم ما لم يكن يعلمه أحد من قومه المجاورين لهم ، فضلا عن أهل وطنه
بمكة المكرمة . قال شيخنا في سياق درسه ما مثاله : ( ( اختص
بني إسرائيل بالخطاب اهتماما بهم ؛ لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية والمؤمنة بالأنبياء المعروفين ؛ ولأنهم كانوا أشد الناس على المؤمنين ؛ ولأن في دخولهم في الإسلام من الحجة على
النصارى وغيرهم أقوى مما في دخول
النصارى من الحجة عليهم ، وهذه النعمة التي أطلقها في التذكير لعظم شأنها هي نعمة جعل النبوة فيهم زمنا طويلا ( أو أعم ) ولذلك كانوا يسمون شعب الله كما في كتبهم ، وفي القرآن إن الله اصطفاهم وفضلهم ، ولا شك أن هذه المنقبة نعمة عظيمة من الله منحهم إياها بفضله ورحمته فكانوا بها مفضلين على العالمين من الأمم والشعوب ، وكان الواجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس لله شكرا ، وأشدهم لنعمته ذكرا ، وذلك بأن يؤمنوا بكل نبي يرسله لهدايتهم ، ولكنهم جعلوا النعمة حجة الإعراض عن الإيمان ، وسبب إيذاء النبي - عليه السلام - ؛ لأنهم زعموا أن فضل الله - تعالى - محصور فيهم ، وأنه لا يبعث نبيا إلا منهم ؛ ولذلك بدأ الله - تعالى - خطابهم بالتذكير بنعمته ، وقفى عليه بالأمر بالوفاء بعده ، فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) عهد الله - تعالى - إليهم يعرف من الكتاب الذي نزله إليهم ، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأن يؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم ، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه ، وعهد إليهم أن يرسل إليهم نبيا من بني إخوتهم ؛ أي
بني إسماعيل يقيم شعبا جديدا . هذا هو العهد الخاص المنصوص ، ويدخل في عموم العهد
nindex.php?page=treesubj&link=29642عهد الله الأكبر الذي أخذه على جميع البشر بمقتضى الفطرة وهو التدبر والتروي ، ووزن كل شيء بميزان العقل والنظر الصحيح ، لا بميزان الهوى والغرور ، ولو التفت
بنو إسرائيل إلى هذا العهد الإلهي العام ، أو إلى تلك العهود الخاصة المنصوصة في كتابهم ، لآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعوا النور الذي أنزل معه وكانوا من المفلحين ، ولا حاجة إلى تخصيص العهد بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما فعل مفسرنا ( الجلال ) فإن الإيمان داخل في العهد العام وهو من أفراد العهد الخاص فلا دليل على قصر عموم العهد المضاف عليه .
هذا هو عهد الله وأما عهدهم فهو التمكين في الأرض المقدسة والنصر على الأمم الكافرة والرفعة في الدنيا وخفض العيش فيها ، هذا هو الشائع في التوراة التي بين أيديهم ، ولا شك أن الله - تعالى - قد وعدهم أيضا بسعادة الآخرة ، ولكن لا دليل على هذا في التوراة إلا الإشارات ولذلك ظن بعض الباحثين أن
اليهود لا يؤمنون بالبعث ومع هذا يقول ( الجلال ) كغيره :
إن هذا العهد هو دخول الجنة ويقتصر عليه .
ولما كان من موانع الوفاء بالعهد الذي فشا تركه في
شعب إسرائيل خوف بعضهم من
[ ص: 242 ] بعض لما بين الرؤساء والمرءوسين من المنافع المشتركة عقب الأمر بالوفاء بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40وإياي فارهبون ) أي إن كنتم تخافون فوت بعض المنافع ونزول بعض المضار بكم إذا خالفتم الجماهير واتبعتم الحق فالأولى ألا تخافوا ولا ترهبوا إلا من بيده أزمة المنافع كلها ، وهو الله الذي أنعم عليكم بتلك النعمة الكبرى أو النعم كلها ، وهو وحده القادر على سلبها ، وعلى العقوبة على ترك الشكر عليها ، فارهبوه وحده لا ترهبوا سواه .
ثم انتقل من الأمر بالوفاء بعموم العهد إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال - تعالى - جل شأنه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41nindex.php?page=treesubj&link=28973وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ) من تعليم التوراة وكتب الأنبياء كالتوحيد والنهي عن الفواحش والمنكرات ، والأمر بالمعروف وما يتصل بهذا من الإرشاد الموصل إلى السعادة ، فإذا نظرتم في القرآن ووجدتموه مصدقا لما معكم من مقاصد الدين الإلهي وأصوله ووعود الأنبياء وعهودهم ، تعلمون أن الروح الذي نزل به هو عين الروح الذي نزل بما سبقه ، وتعلمون أنه لا غرض لهذا النبي الذي يدعوكم إلى مثل ما دعاكم إليه
موسى والأنبياء إلا تقرير الحق ، وهداية الخلق ، بعدما طرأ من ضلالة التأويل وجهالة التقليد ، فبادروا إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي قامت به الحجة عليكم من وجهين ، ( أحدهما ) إعجازه ( وثانيهما ) كونه مصدقا لما معكم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41ولا تكونوا أول كافر به ) أي ولا تبادروا إلى الكفر به والجحود له مع جدارتكم بالسبق إليه ، وهذا الاستعمال معروف في الكلام البليغ لهذا المعنى لا يقصد بالأولية فيه حقيقتها . والخطاب عام
لليهود في كل عصر وزمان ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) الآيات هي الدلائل التي أيد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعظمها القرآن فهو كقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16اشتروا الضلالة بالهدى ) ( 2 : 16 ) أي لا تعرضوا عن الإيمان بهذا النبي وما جاء به ، وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل ، وهو ما يستفيده رؤساؤكم من المرءوسين من مال وجاه أوقعاهم في الكبر ، وما يتوقعه المرءوسين من الزلفى والحظوة بتقليد الرؤساء واتباعهم وما يخشونه إذا خالفوهم من المهانة والذلة ، وإنما سمي هذا الجزاء قليلا ؛ لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير بالنسبة إليه ، وكيف لا يكون قليلا وصاحبه يخسر عقله وروحه قبل كل شيء لإعراضه عن الآيات البينات ، والبراهين الواضحات ؟ ثم إنه يخسر عز الحق وما يكون له من الشأن العظيم وحسن العافية ، ثم إنه يخسر مرضاة الله - تعالى - وتحل به نقمه في الدنيا وعقوبته في الآخرة . وختم هذه الآية بشبه ما ختم به ما قبلها وذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وإياي فاتقون ) وليس في هذه مع سابقتها تكرار ولا شبه تكرار كما يتوهم ، فقد حل كل من القولين محله ، ولا مندوحة عن واحد منهما ؛ لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان منهم لاتقاء الرئيس فوت المنفعة من المرءوس ، واتقاء المرءوس غضب الرئيس ، فدحض هذه الشبهة بالأمر بتقوى الله وحده الذي بيده قلوب العباد وجوارحهم ، وهو المسخر لهم في أعمالهم ، وبيده الخير كله ، وهو على كل شيء قدير .
[ ص: 243 ] ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42nindex.php?page=treesubj&link=32428_28973ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) بينت هذه الآية مسلكهم في الغواية والإغواء في سياق النهي عنه . فقد جاء في كتبهم التحذير من أنبياء كذبة يبعثون فيهم ويعملون العجائب ، وجاء فيها أيضا أنه - تعالى - يبعث فيهم نبيا من
ولد إسماعيل يقيم به أمة ، وأنه يكون من ولد الجارية (
هاجر ) وبين علاماته بما لا لبس فيه ولا اشتباه ، ولكن الأحبار والرؤساء كانوا يلبسون على العامة الحق بالباطل فيوهمونهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء الذين نعتتهم الكتب بالكذبة ( حاشاه ) ويكتمون ما يعرفون من نعوته التي لا تنطبق على سواه ، وما يعلمون من صفات الأنبياء الصادقين وما يدعون إليه ، وكله ظاهر فيه - عليه الصلاة والسلام - بأكمل المظاهر .
ومن اللبس أيضا ما يفتريه الرؤساء والأحبار فيكون صادا لهم عن سبيل الله وعن الإيمان بنبيه عن ضلال وجهل ، وهو لبس أصول الدين بالمحدثات والتقاليد التي زادوها على الكتب المنزلة بضروب من التأويل والاستنباط من كلام بعض المتقدمين وأفعالهم ، فكانوا يحكمون هذه الزيادات في الدين حتى في كتب الأنبياء ، ويعتذرون بأن الأقدمين أعلم بكلام الأنبياء وأشد اتباعا لهم ، فهم الواسطة بينهم وبين الأنبياء ، وعلى من بعدهم الأخذ بما يقولون دون ما يقول الأنبياء الذين يصعب عليهم فهم كلامهم بزعمهم ، ولكن الله لم يقبل هذا العذر منهم فأسند إليهم ذلك اللبس وكتمان الحق الموجود في التوراة إلى اليوم ، وكذلك لا يقبل الله ممن بعدهم ترك كتابه لكلام الرؤساء بحجة أنهم أكثر علما وفهما ، فكل ما يعلم من كتاب الله - تعالى - يجب العمل به ، وإنما يسأل الإنسان أهل الفهم عما لا يعلم منه ليعلم فيعمل .
ثم قال - جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43nindex.php?page=treesubj&link=32416_28973_25353وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) فبعد الدعوة إلى الإيمان اليقيني دعاهم إلى العمل الصالح على الوجه النافع المرضي لله - تعالى - ، وكانوا ضلوا عنه بالتمسك بالظواهر والوقوف عند الرسوم ، فقد كانوا يصلون ولكنهم ما كانوا يقيمون الصلاة ؛ لأن الإقامة هي الإتيان بالشيء مقوما كاملا وهي في الصلاة التوجه إلى الله - تعالى - بالقلب والخشوع بين يديه ، والإخلاص له في الذكر والدعاء والثناء ، فهذا هو روح الصلاة الذي شرعت لأجله ولم تشرع لهذه الصورة ؛ فإن الصورة تتغير في حكم الله - تعالى - على ألسنة أنبيائه ؛ لأنها رابطة مذكرة ، فلم تكن للأنبياء صورة واحدة للصلاة ، ولكن هذا الروح لا يتغير فهو واحد لم يختلف فيه نبي ولم ينسخ في دين .
ثم أمر بعد الصلاة التي تطهر الروح وتقربها من الله - تعالى - بالزكاة التي هي عنوان الإيمان ومظهر شكر الله على نعمه والصلة العظيمة بين الناس ، وقد عهد في القرآن قرن الأمر بإتيان الزكاة بالأمر بإقامة الصلاة ،
nindex.php?page=treesubj&link=24589ومن أقام الصلاة لا ينسى الله - تعالى - ولا يغفل عن فضله ، ومن كان كذلك فهو جدير ببذل المال في سبيله . مواساة لعياله ، ومساعدة على مصالحهم التي هي ملاك مصلحته ، فإن الإنسان إنما يكتسب المال من الناس بحذقه وعمله معهم فهو لم يكن
[ ص: 244 ] غنيا إلا بهم ومنهم ، فإذا عجز بعضهم عن الكسب لآفة في فكره ونفسه أو علة في بدنه فيجب على الآخرين الأخذ بيده ، وأن يكونوا عونا له حفظا للمجموع الذي ترتبط مصالح بعضه بمصالح البعض الآخر ، وشكرا لله على ما ميزهم به من النعمة ، وظاهر أن الغني في حاجة دائمة إلى الفقير كما أن الفقير في حاجة إليه ، ولكن النفوس تمرض فتغفل عن المصلحة في بذل المال ومساعدة الفقير والضعيف مبالغة وغلوا في حب المال الذي هو شقيق الروح كما يقولون ؛ لهذا جعل الله بذل المال والإنفاق في سبل الخير علامة من علامات الإيمان وجعل البخل من آيات النفاق والكفر ، كما سيأتي في بعض الآيات .
قال الأستاذ الإمام : إن البخل - ومنبعه القسوة على عباد الله - تعالى - ، والحرص على المال استرسالا في الشهوات وميلا مع الأهواء - لا يجتمع مع الإيمان الصحيح في قلب واحد قط ، وليس لأحد أن يزعم أنه يؤمن بالله وبما أنزل على رسله من الأوامر والنواهي حتى يقوم بما أمر الله فيما طلب منه على ما يحب الله ويرضى .
ثم أمر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالركوع مع الراكعين ، والركوع صورة الصلاة أو جزء من أجزائها ، وقد أخره ولم يصله بالصلاة لحكمة جليلة لا رعاية للفاصلة كما زعم بعض المفسرين ، فليس من الجائز أن يكون في القرآن ما يعرض فيه إخلال بالمعنى لأجل رعاية الفاصلة ، بل هذا لا يرتضيه البلغاء من الناس فكيف يقع في كلام الله - تعالى - ؟
وإنما وردت هذه الأوامر الثلاثة مرتبة كما يحب الله - تعالى - ؛ فإقامة الصلاة في المرتبة الأولى من عبادة الله - تعالى - لأنها روح العبادة والإخلاص له ، ويليها إيتاء الزكاة لأنها تدل أيضا على زكاة الروح وقوة الإيمان ، وأما الركوع وهو صورة الصلاة البدنية أو بعض صورتها أشير به إليها فهو في المرتبة الثالثة فرض للتذكير بسابقيه وما هو بعباده لذاته ، وإنما كان عبادة لأنه يؤدى امتثالا لأمر الله - تعالى - وإظهارا لخشيته ، والخشوع لعظمته ، ولكنه قد يصير عادة لا يلاحظ فيها امتثال ولا إخلاص فلا يعد عند الله شيئا ، وإن عده أهل الرسوم كل شيء ، بخلاف إقامة الصلاة الذي ذكرناه وإيتاء الزكاة ، ولا يخفى أن الفصل بين معنى الصلاة وصورتها بالزكاة فيه تعظيم لشأن الزكاة . وسنتكلم على الزكاة والإنفاق في سبيل الله بالتفصيل في تفسير آية أخرى إن شاء الله - تعالى .
[ ص: 240 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40nindex.php?page=treesubj&link=28973يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ )
لَا يَزَالُ الْكَلَامُ فِي الْكِتَابِ وَكَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَبَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأَصْنَافِهِمْ فِي أَمْرِهِ ، وَقَدْ قُلْنَا : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28914التَّفَنُّنَ فِي مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ مُنْتَظِمَةٍ فِي سِلْكِ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ هُوَ مِنْ أَنْوَاعِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَخَصَائِصِهِ الْمُدْهِشَةِ الَّتِي لَمْ تَسْبِقُ لِبَلِيغٍ ، وَلَنْ يَبْلُغَ شَأْوَهُ فِيهَا بَلِيغٌ ، ذَكَرَ الْكِتَابَ أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ فَابْتَدَأَ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ بِهِ الْمُنْتَظِرِينَ لِلْهُدَى الَّذِي يُضِئُ نُورُهُ مِنْهُ ، وَثَنَّى بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَثَلَّثَ بِالْكَافِرِينَ ، وَقَفَّى عَلَيْهِمْ بِالْمُنَافِقِينَ ، ثُمَّ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ لِفِرَقِ الصِّنْفِ الرَّابِعِ ، ثُمَّ طَالَبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِعِبَادَتِهِ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى كَوْنِ الْكِتَابِ مُنَزَّلًا مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَتَحَدَّى الْمُرْتَابِينَ بِمَا أَعْجَزَهُمْ ، ثُمَّ حَذَّرَ وَأَنْذَرَ ، وَبَشَّرَ وَوَعَدَ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَثَلَ وَالْقُدْوَةَ وَهُوَ الرَّسُولُ ، وَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْكِتَابِ ، ثُمَّ حَاجَّ الْكَافِرِينَ ، وَجَاءَهُمْ بِأَنْصَعِ الْبَرَاهِينِ ، وَهُوَ إِحْيَاؤُهُمْ مَرَّتَيْنِ وَإِمَاتَتُهُمْ مَرَّتَيْنِ ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِمَنَافِعِهِمْ ، ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَبَيَّنَ أَطْوَارَهُ ، ثُمَّ طَفِقَ يُخَاطِبُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْبِلَادِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا النُّبُوَّةُ تَفْصِيلًا ، فَبَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ
الْيَهُودِ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَذْكُرُهُ ، وَالْكَلَامُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا التَّنْوِيعِ عَنِ انْتِظَامِهِ فِي سِلْكِهِ ، وَحُسْنِ اتِّسَاقِهِ فِي سَبْكِهِ ، فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ فِي فَلَكِهِ ، وَهُوَ الْكِتَابُ ، وَالْمُرْسَلُ بِهِ ، وَحَالُهُ مَعَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ ، قَالَ - تَعَالَى - :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) ( أَقُولُ ) :
إِسْرَائِيلُ لَقَبُ نَبِيِّ اللَّهِ
يَعْقُوبَ ابْنِ نَبِيِّهِ
إِسْحَاقَ ابْنِ نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ
إِبْرَاهِيمَ ( عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) قِيلَ : مَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْمُجَاهِدُ مَعَ اللَّهِ . وَالْمُرَادُ بِبَنِيهِ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ أَسْبَاطِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَقَبُهُ فِي كُتُبِهِمْ وَتَوَارِيخِهِمْ ، كَمَا تُسَمِّي الْعَرَبُ الْقَبِيلَةَ كُلَّهَا بِاسْمِ جَدِّهَا الْأَعْلَى . وَلَمَّا كَانَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ أَوَّلَ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطُّوَلِ ، وَكَانَ جُلُّ
يَهُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ فِي جِوَارِهَا دَعَاهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهَا إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَأَقَامَ
[ ص: 241 ] عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَتَارِيخِ سَلَفِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ ، فَضْلًا عَنْ أَهْلِ وَطَنِهِ
بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ . قَالَ شَيْخُنَا فِي سِيَاقِ دَرْسِهِ مَا مِثَالُهُ : ( ( اخْتَصَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالْخِطَابِ اهْتِمَامًا بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْدَمُ الشُّعُوبِ الْحَامِلَةِ لِلْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْمُؤْمِنَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلِأَنَّ فِي دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى
النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ أَقْوَى مِمَّا فِي دُخُولِ
النَّصَارَى مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَطْلَقَهَا فِي التَّذْكِيرِ لِعِظَمِ شَأْنِهَا هِيَ نِعْمَةُ جَعْلِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ زَمَنًا طَوِيلًا ( أَوْ أَعَمُّ ) وَلِذَلِكَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ شَعْبَ اللَّهِ كَمَا فِي كُتُبِهِمْ ، وَفِي الْقُرْآنِ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَنْقَبَةَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللَّهِ مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ فَكَانُوا بِهَا مُفَضَّلِينَ عَلَى الْعَالَمِينَ مِنَ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ النَّاسِ لِلَّهِ شُكْرًا ، وَأَشَدَّهُمْ لِنِعْمَتِهِ ذِكْرًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ نَبِيٍّ يُرْسِلُهُ لِهِدَايَتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا النِّعْمَةَ حُجَّةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ ، وَسَبَبَ إِيذَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ؛ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ - تَعَالَى - مَحْصُورٌ فِيهِمْ ، وَأَنَّهُ لَا يَبْعَثُ نَبِيًّا إِلَّا مِنْهُمْ ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ اللَّهُ - تَعَالَى - خِطَابَهُمْ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَتِهِ ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بَعْدَهُ ، فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) عَهْدُ اللَّهِ - تَعَالَى - إِلَيْهِمْ يُعْرَفُ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ إِلَيْهِمْ ، فَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِرُسُلِهِ مَتَى قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِهِمْ ، وَأَنْ يَخْضَعُوا لِأَحْكَامِهِ وَشَرَائِعِهِ ، وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا مِنْ بَنِي إِخْوَتِهِمْ ؛ أَيْ
بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ شَعْبًا جَدِيدًا . هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الْخَاصُّ الْمَنْصُوصُ ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْعَهْدِ
nindex.php?page=treesubj&link=29642عَهْدُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى جَمِيعِ الْبَشَرِ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَهُوَ التَّدَبُّرُ وَالتَّرَوِّي ، وَوَزْنُ كُلِّ شَيْءٍ بِمِيزَانِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ ، لَا بِمِيزَانِ الْهَوَى وَالْغُرُورِ ، وَلَوِ الْتَفَتَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَذَا الْعَهْدِ الْإِلَهِيِّ الْعَامِّ ، أَوْ إِلَى تِلْكَ الْعُهُودِ الْخَاصَّةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي كِتَابِهِمْ ، لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أَنْزَلَ مَعَهُ وَكَانُوا مِنَ الْمُفْلِحِينَ ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ الْعَهْدِ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فَعَلَ مُفَسِّرُنَا ( الْجَلَالُ ) فَإِنَّ الْإِيمَانَ دَاخِلٌ فِي الْعَهْدِ الْعَامِّ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَهْدِ الْخَاصِّ فَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْرِ عُمُومِ الْعَهْدِ الْمُضَافِ عَلَيْهِ .
هَذَا هُوَ عَهْدُ اللَّهِ وَأَمَّا عَهْدُهُمْ فَهُوَ التَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَالنَّصْرُ عَلَى الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ وَالرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَخَفْضُ الْعَيْشِ فِيهَا ، هَذَا هُوَ الشَّائِعُ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ وَعَدَهُمْ أَيْضًا بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ ، وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا فِي التَّوْرَاةِ إِلَّا الْإِشَارَاتِ وَلِذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ أَنَّ
الْيَهُودَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَمَعَ هَذَا يَقُولُ ( الْجَلَالُ ) كَغَيْرِهِ :
إِنَّ هَذَا الْعَهْدَ هُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ .
وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَوَانِعِ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي فَشَا تَرْكُهُ فِي
شَعْبِ إِسْرَائِيلَ خَوْفُ بَعْضِهِمْ مِنْ
[ ص: 242 ] بَعْضٍ لِمَا بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْمَرْءُوسِينَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=40وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَخَافُونَ فَوْتَ بَعْضِ الْمَنَافِعِ وَنُزُولَ بَعْضِ الْمَضَارِّ بِكُمْ إِذَا خَالَفْتُمُ الْجَمَاهِيرَ وَاتَّبَعْتُمُ الْحَقَّ فَالْأَوْلَى أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَرْهَبُوا إِلَّا مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْمَنَافِعِ كُلِّهَا ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى أَوِ النِّعَمِ كُلِّهَا ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى سَلْبِهَا ، وَعَلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهَا ، فَارْهَبُوهُ وَحْدَهُ لَا تَرْهَبُوا سِوَاهُ .
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِعُمُومِ الْعَهْدِ إِلَى الْعَهْدِ الْخَاصِّ الْمَقْصُودِ مِنَ السِّيَاقِ فَقَالَ - تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41nindex.php?page=treesubj&link=28973وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ ) مِنْ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ كَالتَّوْحِيدِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَذَا مِنَ الْإِرْشَادِ الْمُوصِلِ إِلَى السَّعَادَةِ ، فَإِذَا نَظَرْتُمْ فِي الْقُرْآنِ وَوَجَدْتُمُوهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَأُصُولِهِ وَوُعُودِ الْأَنْبِيَاءِ وَعُهُودِهِمْ ، تَعْلَمُونَ أَنَّ الرُّوحَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ هُوَ عَيْنُ الرُّوحِ الَّذِي نَزَلَ بِمَا سَبَقَهُ ، وَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لِهَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ
مُوسَى وَالْأَنْبِيَاءُ إِلَّا تَقْرِيرَ الْحَقِّ ، وَهِدَايَةَ الْخَلْقِ ، بَعْدَمَا طَرَأَ مِنْ ضَلَالَةِ التَّأْوِيلِ وَجَهَالَةِ التَّقْلِيدِ ، فَبَادِرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ ، ( أَحَدُهُمَا ) إِعْجَازُهُ ( وَثَانِيهُمَا ) كَوْنُهُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) أَيْ وَلَا تُبَادِرُوا إِلَى الْكُفْرِ بِهِ وَالْجُحُودِ لَهُ مَعَ جَدَارَتِكُمْ بِالسَّبْقِ إِلَيْهِ ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْرُوفٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقْصَدُ بِالْأَوَّلِيَّةِ فِيهِ حَقِيقَتُهَا . وَالْخِطَابُ عَامٌّ
لِلْيَهُودِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ) الْآيَاتُ هِيَ الدَّلَائِلُ الَّتِي أُيِّدَ بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْظَمُهَا الْقُرْآنُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ) ( 2 : 16 ) أَيْ لَا تُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ بِهَذَا النَّبِيِّ وَمَا جَاءَ بِهِ ، وَتَسْتَبْدِلُوا بِهِدَايَتِهِ هَذَا الثَّمَنَ الْقَلِيلَ ، وَهُوَ مَا يَسْتَفِيدُهُ رُؤَسَاؤُكُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ مِنْ مَالٍ وَجَاهٍ أَوْقَعَاهُمْ فِي الْكِبْرِ ، وَمَا يَتَوَقَّعُهُ الْمَرْءُوسِينَ مِنَ الزُّلْفَى وَالْحُظْوَةِ بِتَقْلِيدِ الرُّؤَسَاءِ وَاتِّبَاعِهِمْ وَمَا يَخْشَوْنَهُ إِذَا خَالَفُوهُمْ مِنَ الْمَهَانَةِ وَالذِّلَّةِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْجَزَاءُ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عَدَا الْحَقَّ قَلِيلٌ وَحَقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ قَلِيلًا وَصَاحِبُهُ يَخْسَرُ عَقْلَهُ وَرُوحَهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ لِإِعْرَاضِهِ عَنِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ ، وَالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَاتِ ؟ ثُمَّ إِنَّهُ يَخْسَرُ عِزَّ الْحَقِّ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الشَّأْنِ الْعَظِيمِ وَحُسْنِ الْعَافِيَةِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَخْسَرُ مَرْضَاةَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَحُلُّ بِهِ نِقَمُهُ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ . وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِشِبْهِ مَا خَتَمَ بِهِ مَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) وَلَيْسَ فِي هَذِهِ مَعَ سَابِقَتِهَا تَكْرَارٌ وَلَا شِبْهَ تَكْرَارٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ ، فَقَدْ حَلَّ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَحِلَّهُ ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَ الْبَاطِلِ بِالْحَقِّ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُمْ لِاتِّقَاءِ الرَّئِيسِ فَوْتَ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الْمَرْءُوسِ ، وَاتِّقَاءِ الْمَرْءُوسِ غَضَبَ الرَّئِيسِ ، فَدَحَضَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ الَّذِي بِيَدِهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَجَوَارِحُهُمْ ، وَهُوَ الْمُسَخِّرُ لَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
[ ص: 243 ] ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42nindex.php?page=treesubj&link=32428_28973وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَسْلَكَهُمْ فِي الْغَوَايَةِ وَالْإِغْوَاءِ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ عَنْهُ . فَقَدْ جَاءَ فِي كُتُبِهِمُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةٍ يُبْعَثُونَ فِيهِمْ وَيَعْمَلُونَ الْعَجَائِبَ ، وَجَاءَ فِيهَا أَيْضًا أَنَّهُ - تَعَالَى - يَبْعَثُ فِيهِمْ نَبِيًّا مَنْ
وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ يُقِيمُ بِهِ أُمَّةً ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ وَلَدِ الْجَارِيَةِ (
هَاجَرَ ) وَبَيَّنَ عَلَامَاتِهِ بِمَا لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ ، وَلَكِنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَلْبِسُونَ عَلَى الْعَامَّةِ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ نَعَتَتْهُمُ الْكُتُبُ بِالْكَذَبَةِ ( حَاشَاهُ ) وَيَكْتُمُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ نُعُوتِهِ الَّتِي لَا تَنْطَبِقُ عَلَى سِوَاهُ ، وَمَا يَعْلَمُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ وَمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ ، وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَكْمَلِ الْمَظَاهِرِ .
وَمِنَ اللَّبْسِ أَيْضًا مَا يَفْتَرِيهِ الرُّؤَسَاءُ وَالْأَحْبَارُ فَيَكُونُ صَادًّا لَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِنَبِيِّهِ عَنْ ضَلَالٍ وَجَهْلٍ ، وَهُوَ لَبْسُ أُصُولِ الدِّينِ بِالْمُحْدَثَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي زَادُوهَا عَلَى الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ بِضُرُوبٍ مِنَ التَّأْوِيلِ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالِهِمْ ، فَكَانُوا يُحَكِّمُونَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ فِي الدِّينِ حَتَّى فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَيَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ الْأَقْدَمِينَ أَعْلَمُ بِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَشَدُّ اتِّبَاعًا لَهُمْ ، فَهُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمُ الْأَخْذُ بِمَا يَقُولُونَ دُونَ مَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ فَهْمُ كَلَامِهِمْ بِزَعْمِهِمْ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبَلْ هَذَا الْعُذْرَ مِنْهُمْ فَأَسْنَدَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ اللَّبْسَ وَكِتْمَانَ الْحَقِّ الْمَوْجُودِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى الْيَوْمِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ترْكَ كِتَابِهِ لِكَلَامِ الرُّؤَسَاءِ بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَفَهْمًا ، فَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْفَهْمِ عَمَّا لَا يَعْلَمُ مِنْهُ لِيَعْلَمَ فَيَعْمَلَ .
ثُمَّ قَالَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43nindex.php?page=treesubj&link=32416_28973_25353وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) فَبَعْدَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ دَعَاهُمْ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْوَجْهِ النَّافِعِ الْمُرْضِي لِلَّهِ - تَعَالَى - ، وَكَانُوا ضَلُّوا عَنْهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالظَّوَاهِرِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الرُّسُومِ ، فَقَدْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ هِيَ الْإِتْيَانُ بِالشَّيْءِ مُقَوَّمًا كَامِلًا وَهِيَ فِي الصَّلَاةِ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْقَلْبِ وَالْخُشُوعُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَالْإِخْلَاصُ لَهُ فِي الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ ، فَهَذَا هُوَ رُوحُ الصَّلَاةِ الَّذِي شُّرِعَتْ لِأَجْلِهِ وَلَمْ تُشْرَعْ لِهَذِهِ الصُّورَةِ ؛ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَتَغَيَّرُ فِي حُكْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ ؛ لِأَنَّهَا رَابِطَةٌ مُذَكِّرَةٌ ، فَلَمْ تَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ لِلصَّلَاةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الرُّوحَ لَا يَتَغَيَّرُ فَهُوَ وَاحِدٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ نَبِيٌّ وَلَمْ يُنْسَخْ فِي دِينٍ .
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُطَهِّرُ الرُّوحَ وَتُقَرِّبُهَا مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِيمَانِ وَمَظْهَرُ شُكْرِ اللَّهِ عَلَى نِعَمِهِ وَالصِّلَةُ الْعَظِيمَةُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ قَرْنُ الْأَمْرِ بِإِتْيَانِ الزَّكَاةِ بِالْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24589وَمَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ لَا يَنْسَى اللَّهَ - تَعَالَى - وَلَا يَغْفُلُ عَنْ فَضْلِهِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي سَبِيلِهِ . مُوَاسَاةً لِعِيَالِهِ ، وَمُسَاعَدَةً عَلَى مَصَالِحِهِمُ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ مَصْلَحَتِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنَ النَّاسِ بِحِذْقِهِ وَعَمَلِهِ مَعَهُمْ فَهُوَ لَمْ يَكُنْ
[ ص: 244 ] غَنِيًّا إِلَّا بِهِمْ وَمِنْهُمْ ، فَإِذَا عَجَزَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْكَسْبِ لِآفَةٍ فِي فِكْرِهِ وَنَفْسِهِ أَوْ عِلَّةٍ فِي بَدَنِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ الْأَخْذُ بِيَدِهِ ، وَأَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُ حِفْظًا لِلْمَجْمُوعِ الَّذِي تَرْتَبِطُ مَصَالِحُ بَعْضِهِ بِمَصَالِحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى مَا مَيَّزَهُمْ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْغَنِيَّ فِي حَاجَةٍ دَائِمَةٍ إِلَى الْفَقِيرِ كَمَا أَنَّ الْفَقِيرَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَمْرَضُ فَتَغْفُلُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ فِي بَذْلِ الْمَالِ وَمُسَاعَدَةِ الْفَقِيرِ وَالضَّعِيفِ مُبَالَغَةً وَغُلُوًّا فِي حُبِّ الْمَالِ الَّذِي هُوَ شَقِيقُ الرُّوحِ كَمَا يَقُولُونَ ؛ لِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ بَذْلَ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقَ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَجَعَلَ الْبُخْلَ مِنْ آيَاتِ النِّفَاقَ وَالْكُفْرِ ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَعْضِ الْآيَاتِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ الْبُخْلَ - وَمَنْبَعُهُ الْقَسْوَةُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ اسْتِرْسَالًا فِي الشَّهَوَاتِ وَمَيْلًا مَعَ الْأَهْوَاءِ - لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ قَطُّ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِمَا أَنْزَلَ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي حَتَّى يَقُومَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَيَرْضَى .
ثُمَّ أَمَرَ بَعْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِالرُّكُوعِ مَعَ الرَّاكِعِينَ ، وَالرُّكُوعُ صُورَةُ الصَّلَاةِ أَوْ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا ، وَقَدْ أَخَّرَهُ وَلَمْ يَصِلْهُ بِالصَّلَاةِ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ لَا رِعَايَةَ لِلْفَاصِلَةِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، فَلَيْسَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْرَضُ فِيهِ إِخْلَالٌ بِالْمَعْنَى لِأَجْلِ رِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ ، بَلْ هَذَا لَا يَرْتَضِيهِ الْبُلَغَاءُ مِنَ النَّاسِ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - ؟
وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ الثَّلَاثَةُ مُرَتَّبَةً كَمَا يُحِبُّ اللَّهُ - تَعَالَى - ؛ فَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهَا رُوحُ الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ ، وَيَلِيهَا إِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى زَكَاةِ الرُّوحِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَهُوَ صُورَةُ الصَّلَاةِ الْبَدَنِيَّةِ أَوْ بَعْضُ صُورَتِهَا أُشِيرَ بِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ فَرْضٌ لِلتَّذْكِيرِ بِسَابِقَيْهِ وَمَا هُوَ بِعِبَادِهٍ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ عِبَادَةً لِأَنَّهُ يُؤَدَّى امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِظْهَارًا لِخَشْيَتِهِ ، وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَصِيرُ عَادَةً لَا يُلَاحَظُ فِيهَا امْتِثَالٌ وَلَا إِخْلَاصٌ فَلَا يُعَدُّ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَإِنْ عَدَّهُ أَهَّلُ الرُّسُومِ كُلَّ شَيْءٍ ، بِخِلَافِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَصُورَتِهَا بِالزَّكَاةِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الزَّكَاةِ . وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى الزَّكَاةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أُخْرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى .