nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=36nindex.php?page=treesubj&link=28974_31979فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى قالوا : إن هذا خبر لا يقصد به الإخبار ، بل التحسر والتحزن والاعتذار . فهو بمعنى الإنشاء وذلك أنها نذرت تحرير ما في بطنها لخدمة بيت الله والانقطاع لعبادته فيه ، والأنثى لا تصلح لذلك عادة لا سيما في أيام الحيض . قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=36والله أعلم بما وضعت أي بمكانة الأنثى التي وضعتها وأنها خير من كثير من الذكور ; ففيه دفع لما يوهمه قولها من خسة المولودة وانحطاطها عن مرتبة الذكور وقد بين ذلك بقوله : وليس الذكر الذي طلبت أو تمنت كالأنثى التي وضعت ، بل هذه الأنثى خير مما كانت ترجو من الذكر . وقرأ
ابن عامر وأبو بكر عن
عاصم ويعقوب ( وضعت ) على أنه من كلامها ، وعليه يكون المعنى : وليس الذكر كالأنثى فيما يصلح له كل منهما .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=36وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم العوذ : الالتجاء إلى الغير والتعلق به ، فمعنى أعوذ بالله من الشيطان ، ألجأ إليه وأعتصم به منه ، وأعاذه به منه جعله معاذا له يمنعه ويعصمه منه ،
nindex.php?page=treesubj&link=24456والإعاذة بالله تكون بالدعاء والرجاء ، والرجيم : المطرود عن الخير . وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما واللفظ هنا
لمسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=918877كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها وفسر
البيضاوي المس هنا : بالطمع في الإغواء ، وقال الأستاذ الإمام : إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة . ولعل
البيضاوي يرمي إلى ذلك . والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف ، ويشهد له من وجه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه ، وهو أظهر في التمثيل ، ولعل
[ ص: 239 ] معناه أنه
nindex.php?page=treesubj&link=31065_11467لم يبق للشيطان نصيب من قلبه - صلى الله عليه وسلم - ولا بالوسوسة ، كما يدل على ذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=918878قوله - صلى الله عليه وسلم - في شيطانه: إلا أن الله أعانني عليه فأسلم رواه
مسلم . وفي رواية زيادة
nindex.php?page=hadith&LINKID=918879فلا يأمر إلا بخير .
فإن قيل : إن حديث استخراج حظ الشيطان منه ونحوه يدل على أنه كان له حظ منه قبل ذلك ، وهذا ينافي قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [ 15 : 42 ] وهو - صلى الله عليه وسلم - صفوة عباده وخاتم رسله المصطفين الأخيار ، فإن الآية تنفي سلطة الشيطان عن عباد الرحمن في كل آن . فالجواب : أن الآية تنفي السلطان عليهم لا أصل الوسوسة ، فإذا وسوس الشيطان ولم تطع وسوسته لم يكن له سلطان ، ومعنى الحديث أنه لم يعد له طريق إلى الوسوسة ولا إلى الأمر بالشر قط ، وهذه مرتبة عليا لا يرتقي إليها كل عباد الله ، وقد ذكر أهل الحديث من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - إسلام شيطانه ، وجملة القول أن الشيطان لم يكن له عليه سلطان ما ، ولكن كان له حظ وطمع ، فزال وغلبه نور النبوة حتى يئس وزال حظه فلم يعد يأمر إلا بخير أو أسلم كما ورد .
فإن قيل : إن ما فسر به
البيضاوي حديث
مريم وعيسى يقتضي أن يكونا أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ممتازين عليه إذ كان يطمع فيه ولم يطمع فيهما ، وهذا ما يشاغب به دعاة النصرانية عوام المسلمين مستدلين بالحديث على
nindex.php?page=treesubj&link=29638_31994تفضيل عيسى على محمد - عليهما الصلاة والسلام - ، أو على أنه فوق البشر . فالجواب أن كتاب هؤلاء الدعاة حجة عليهم ، ففي الإصحاح الرابع من إنجيل لوقا ما نصه:
" [ 1 ] أما يسوع فرجع من
الأردن ممتلئا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية [ 2 ] أربعين يوما يجرب من إبليس ، ولم يأكل شيئا في تلك الأيام ولما تمت جاع أخيرا [ 3 ] وقال له إبليس إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزا [ 4 ] فأجابه يسوع قائلا مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة من الله [ 5 ] ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان [ 6 ] وقال له إبليس لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إلي قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد [ 7 ] فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع [ 8 ] فأجابه يسوع وقال اذهب يا شيطان إنه مكتوب للرب إلهك تسجد ، وإياه وحده تعبد [ 9 ] ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل [ 10 ] لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك [ 11 ] وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك [ 12 ] فأجاب يسوع وقال له إنه قيل لا تجرب الرب إلهك [ 13 ] ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين " . اهـ .
فهذا صريح كان يوسوس للمسيح - عليه السلام - حتى يحمله ويأخذه
[ ص: 240 ] من مكان إلى مكان ، وقصارى الأمر أنه لم يكن يطيعه فيما أمر به من السجود له ، ومن امتحان الرب إلهه ( أي إله المسيح ) وقوله : ( لا تجرب الرب إلهك ) يراد به ما ورد في سفر التثنية آخر أسفار التوراة ( 6 : 16 ) ومثله قوله : ( ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ) وقوله : ( للرب إلهك تسجد ) إلخ . وذلك مما يدل على أنه كان متبعا للتوراة .
هذا وقد تقدم تحقيق القول في الشيطان ووسوسته في سورة البقرة والمحقق عندنا أنه
nindex.php?page=treesubj&link=28751ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين ، وخيرهم الأنبياء والمرسلون ، وأما ما ورد في حديث
مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسسهما وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث إزالة حظ الشيطان من قلبه فهو من الأخبار الظنية لأنه من رواية الآحاد . ولما كان موضوعها عالم الغيب ، والإيمان بالغيب من قسم العقائد ، وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=28وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 : 28 ] كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا . وقال بعضهم : يؤخذ فيها بأحاديث الآحاد لمن صحت عنده ، ومذهب السلف في هذه الأحاديث تفويض العلم بكيفيتها إلى الله - تعالى - فلا نتكلم في كيفية مس الشيطان ولا في كيفية إخراج حظه من القلب ، وإنما نقول : إن ما قاله الرسول حق وإنه يدل على مزية
لمريم وابنها وللنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركهم فيها سواهم من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، وهذه المزية لا تقتضي وحدها أن يكون كل واحد منهم أفضل من سائر عباد الله المخلصين ; إذ قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد في الفاضل ، فليست مريم أفضل من
إبراهيم وموسى - عليهما الصلاة والسلام - ; لأن اختصاص الله إياهما بالنبوة والرسالة والخلة والتكليم يعلو كون الشيطان لم يمسهما عند الولادة ; على أن الحديث ورد في تفسير كونه - تعالى - تقبل من أمها إعاذتها وذريتها من الشيطان ، وهذه الإعاذة قد كانت بعد ولادتها والعلم بأنها أنثى ، وظاهر الحديث أن المس يكون عند الوضع ، والله ورسوله أعلم بمرادهما .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=36nindex.php?page=treesubj&link=28974_31979فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى قَالُوا : إِنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِخْبَارُ ، بَلِ التَّحَسُّرُ وَالتَّحَزُّنُ وَالِاعْتِذَارُ . فَهُوَ بِمَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهَا نَذَرَتْ تَحْرِيرَ مَا فِي بَطْنِهَا لِخِدْمَةِ بَيْتِ اللَّهِ وَالِانْقِطَاعِ لِعِبَادَتِهِ فِيهِ ، وَالْأُنْثَى لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ عَادَةً لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ . قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=36وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ أَيْ بِمَكَانَةِ الْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْهَا وَأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّكُورِ ; فَفِيهِ دَفْعٌ لِمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهَا مِنْ خِسَّةِ الْمَوْلُودَةِ وَانْحِطَاطِهَا عَنْ مَرْتَبَةِ الذُّكُورِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَلَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي طَلَبَتْ أَوْ تَمَنَّتْ كَالْأُنْثَى الَّتِي وَضَعَتْ ، بَلْ هَذِهِ الْأُنْثَى خَيْرٌ مِمَّا كَانَتْ تَرْجُو مِنَ الذَّكَرِ . وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ ( وَضَعْتُ ) عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهَا ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمَعْنَى : وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=36وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الْعَوْذُ : الِالْتِجَاءُ إِلَى الْغَيْرِ وَالتَّعَلُّقُ بِهِ ، فَمَعْنَى أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ، أَلْجَأُ إِلَيْهِ وَأَعْتَصِمُ بِهِ مِنْهُ ، وَأَعَاذَهُ بِهِ مِنْهُ جَعَلَهُ مُعَاذًا لَهُ يَمْنَعُهُ وَيَعْصِمُهُ مِنْهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24456وَالْإِعَاذَةُ بِاللَّهِ تَكُونُ بِالدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ ، وَالرَّجِيمُ : الْمَطْرُودُ عَنِ الْخَيْرِ . وَفِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَاللَّفْظُ هُنَا
لْمُسْلِمٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=918877كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا وَفَسَّرَ
الْبَيْضَاوِيُّ الْمَسَّ هُنَا : بِالطَّمَعِ فِي الْإِغْوَاءِ ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ . وَلَعَلَّ
الْبَيْضَاوِيَّ يَرْمِي إِلَى ذَلِكَ . وَالْحَدِيثُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَدِيثُ شَقِّ الصَّدْرِ وَغَسْلِ الْقَلْبِ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي التَّمْثِيلِ ، وَلَعَلَّ
[ ص: 239 ] مَعْنَاهُ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=31065_11467لَمْ يَبْقَ لِلشَّيْطَانِ نَصِيبٌ مِنْ قَلْبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بِالْوَسْوَسَةِ ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=918878قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْطَانِهِ: إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ . وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ
nindex.php?page=hadith&LINKID=918879فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ حَدِيثَ اسْتِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَنَحْوَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَظٌّ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَهَذَا يُنَافِي قَوْلَهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=42إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [ 15 : 42 ] وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَفْوَةُ عِبَادِهِ وَخَاتَمُ رُسُلِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ، فَإِنَّ الْآيَةَ تَنْفِي سُلْطَةَ الشَّيْطَانِ عَنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ آنٍ . فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْآيَةَ تَنْفِي السُّلْطَانَ عَلَيْهِمْ لَا أَصْلَ الْوَسْوَسَةِ ، فَإِذَا وَسْوَسَ الشَّيْطَانُ وَلَمْ تُطَعْ وَسْوَسَتُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُلْطَانٌ ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْوَسْوَسَةِ وَلَا إِلَى الْأَمْرِ بِالشَّرِّ قَطُّ ، وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عُلْيَا لَا يَرْتَقِي إِلَيْهَا كُلُّ عِبَادِ اللَّهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِسْلَامُ شَيْطَانِهِ ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ مَا ، وَلَكِنْ كَانَ لَهُ حَظٌّ وَطَمَعٌ ، فَزَالَ وَغَلَبَهُ نُورُ النُّبُوَّةِ حَتَّى يَئِسَ وَزَالَ حَظُّهُ فَلَمْ يَعُدْ يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ أَوْ أَسْلَمَ كَمَا وَرَدَ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ مَا فَسَّرَ بِهِ
الْبَيْضَاوِيُّ حَدِيثَ
مَرْيَمَ وَعِيسَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مُمْتَازَيْنِ عَلَيْهِ إِذْ كَانَ يَطْمَعُ فِيهِ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيهِمَا ، وَهَذَا مَا يُشَاغِبُ بِهِ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَدِلِّينَ بِالْحَدِيثِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=29638_31994تَفْضِيلِ عِيسَى عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْبَشَرِ . فَالْجَوَابُ أَنَّ كِتَابَ هَؤُلَاءِ الدُّعَاةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ، فَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا مَا نَصُّهُ:
" [ 1 ] أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ
الْأُرْدُنِّ مُمْتَلِئًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَكَانَ يَقْتَادُ بِالرُّوحِ فِي الْبَرِّيَّةِ [ 2 ] أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنْ إِبْلِيسَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ وَلَمَّا تَمَّتْ جَاعَ أَخِيرًا [ 3 ] وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ لِهَذَا الْحَجَرِ أَنْ يَصِيرَ خُبْزًا [ 4 ] فَأَجَابَهُ يَسُوعُ قَائِلًا مَكْتُوبٌ أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [ 5 ] ثُمَّ أَصْعَدَهُ إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْمَسْكُونَةِ فِي لَحْظَةٍ مِنَ الزَّمَانِ [ 6 ] وَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ لَكَ أُعْطِي هَذَا السُّلْطَانَ كُلَّهُ وَمَجْدَهُنَّ لِأَنَّهُ إِلَيَّ قَدْ دُفِعَ وَأَنَا أُعْطِيهِ لِمَنْ أُرِيدُ [ 7 ] فَإِنْ سَجَدْتَ أَمَامِي يَكُونُ لَكَ الْجَمِيعُ [ 8 ] فَأَجَابَهُ يَسُوعُ وَقَالَ اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلَهَكَ تَسْجُدُ ، وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ [ 9 ] ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أُورْشَلِيمَ وَأَقَامَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكْ مِنْ هُنَا إِلَى أَسْفَلَ [ 10 ] لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ [ 11 ] وَأَنَّهُمْ عَلَى أَيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لَا تُصْدَمَ بِحَجْرٍ رِجْلُكَ [ 12 ] فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ إِنَّهُ قِيلَ لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ [ 13 ] وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ " . اهـ .
فَهَذَا صَرِيحٌ كَانَ يُوَسْوِسُ لِلْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى يَحْمِلَهُ وَيَأْخُذَهُ
[ ص: 240 ] مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، وَقُصَارَى الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُطِيعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ السُّجُودِ لَهُ ، وَمِنَ امْتِحَانِ الرَّبِّ إِلَهِهِ ( أَيْ إِلَهِ الْمَسِيحِ ) وَقَوْلُهُ : ( لَا تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ ) يُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ آخِرِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ ( 6 : 16 ) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : ( لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ ) وَقَوْلُهُ : ( لِلرَّبِ إِلَهَكَ تَسْجُدُ ) إِلَخْ . وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِلتَّوْرَاةِ .
هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْمُحَقَّقُ عِنْدَنَا أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28751لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ، وَخَيْرُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ
مَرْيَمَ وَعِيسَى مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَمْسَسْهُمَا وَحَدِيثِ إِسْلَامِ شَيْطَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَحَدِيثِ إِزَالَةِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْ قَلْبِهِ فَهُوَ مِنَ الْأَخْبَارِ الظَّنِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ . وَلَمَّا كَانَ مَوْضُوعُهَا عَالَمَ الْغَيْبِ ، وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ مِنْ قِسْمِ الْعَقَائِدِ ، وَهِيَ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا بِالظَّنِّ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=28وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [ 53 : 28 ] كُنَّا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ الْإِيمَانَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ فِي عَقَائِدِنَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُؤْخَذُ فِيهَا بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ لِمَنْ صَحَّتْ عِنْدَهُ ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا نَتَكَلَّمُ فِي كَيْفِيَّةِ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَلَا فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِ حَظِّهِ مِنَ الْقَلْبِ ، وَإِنَّمَا نَقُولُ : إِنَّ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ حَقٌّ وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةٍ
لِمَرْيَمَ وَابْنِهَا وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ، وَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ لَا تَقْتَضِي وَحْدَهَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ; إِذْ قَدْ يُوجَدُ فِي الْمَفْضُولِ مِنَ الْمَزَايَا مَا لَا يُوجَدُ فِي الْفَاضِلِ ، فَلَيْسَتْ مَرْيَمُ أَفْضَلَ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ; لِأَنَّ اخْتِصَاصَ اللَّهِ إِيَّاهُمَا بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْخِلَّةِ وَالتَّكْلِيمِ يَعْلُو كَوْنَ الشَّيْطَانِ لَمْ يَمَسَّهُمَا عِنْدَ الْوِلَادَةِ ; عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ كَوْنِهِ - تَعَالَى - تَقَبَّلَ مِنْ أُمِّهَا إِعَاذَتَهَا وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَهَذِهِ الْإِعَاذَةُ قَدْ كَانَتْ بَعْدَ وِلَادَتِهَا وَالْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُنْثَى ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَسَّ يَكُونُ عِنْدَ الْوَضْعِ ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِمَا .