[ ص: 480 ] الباب السادس
في سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري
( وفيه 7 أصول )
( 1 )
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30531إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها ، كما في الآيتين 4 و5 ومصداقه في خلق
آدم الذي هو عنوان البشرية ، وجعله تعالى المعصية بالأكل من الشجرة ظلما للنفس في الآية 19 واعتراف
آدم وحواء في دعاء توبتهما بذلك في قولهما :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=23ربنا ظلمنا أنفسنا ( 23 ) وبأن شأن المعصية من الأفراد أن تغفر بالتوبة فيعفى عن عقابها ، وهو خسران النفس كما في قولهما :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=23وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وأما خسارة الأمم فهي إضاعة استقلالها ، وسلطان أمة أخرى عليها تستذلها ، وجملة ذلك أن العقوبة أثر طبيعي لازم للعمل ، وأن ذنوب الأمم لا بد من العقاب عليها في الدنيا قبل الآخرة ، وأما ظلم الأفراد وعقابهم عليه في الآخرة فيراجع في الأصل 4 من الباب الثالث .
( 2 ) بيان أن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عن أسبابها التي اقتضتها السنن الإلهية العامة ، وهو نص الآية 34 ، وكونها إذا كانت جاهلة بهذه السنن تؤخذ بغتة ، وعلى غفلة ليلا أو نهارا كما يؤخذ من الآيات 94 - 100 وهذه الآيات وردت في عقاب الأمم التي عاندت الرسل ، وكان عقابها وضعيا لا اجتماعيا - وقد سبق لنا في هذا التفسير أن العقاب الإلهي للأفراد وللأمم نوعان : ( أحدهما ) العقاب بما توعد تعالى به على مخالفة رسله ومعاندتهم ، وهو من قبيل عقاب الحكام لرعاياهم على مخالفة شرائع أمتهم وقوانينها ونظمها . ( وثانيهما ) العقاب الذي هو أثر طبيعي للجرائم ، وهو من قبيل ما يعاقب به المريض على مخالفة أمر طبيبه في معالجته له من الحمية والاقتصار على كذا من الغذاء ، والتزام كذا من الدواء . ( راجع ص257 وما بعدها ج 7 ط الهيئة ) .
( 3 ) ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة ، وبضدها من الرخاء والنعماء تارة أخرى . فإما أن تعتبر فيكون تربية لها ، وإما أن تغبى وتغفل فيكون مهلكة لها كما في الآيات 94 وما بعدها مما تقدم الكلام عليه في السنة الثانية من وجه آخر .
( 4 ) بيان أن الإيمان بما دعا الله إليه ، والتقوى في العمل بشرعه فعلا وتركا ، سبب اجتماعي طبيعي لسعة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=96ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ( 96 ) وهو موافق لآيات أخرى في سور أخرى ( منها ) الآية 52 من سورة هود ( 11 ) ، والآيات 123 - 127 من سياق بيان سنته تعالى في النشأة البشرية من سورة طه ، ومثله في الآيات 10 - 12 من سورة نوح ، والآيتين 16 و17 من سورة الجن بعدها وغيرها ، وقد بينا وجه ذلك في التفسير والمنار .
[ ص: 481 ] ومنه تحقيق معنى التقوى واختلافها باختلاف مواضعها من أمور الدين والدنيا في مقالة ، عنوانها ( عاقبة الحرب المدنية ) نشرت في ( ج 7 م 21 من المنار ) .
( 5 )
nindex.php?page=treesubj&link=30550استدراجه تعالى للمكذبين والمجرمين وإملاؤه لهم كما في الآيتين 182 : 183 وهو في معنى ما سبقه من سنة أخذ الله للأمم بذنوبها ، ومن سنة ابتلائها بالحسنات والسيئات ، فإن من لا يعتبر بذلك ، ولا يتربى يصر على ذنبه ، ولا يرجع عنه ، وذنوب الأمم لا بد من العقاب عليها - راجع تفسير الآيتين في موضعهما من هذا الجزء . ففيه بيان هذه السنة موضحا .
( 6 )
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30531_19886_32016سنة الله في إرث الأرض واستخلاف الأمم فيها ، والاستيلاء والسيادة على الأمم والشعوب . فقد بين الله تعالى لنا في قصة
موسى مع قومه أن وطأة
فرعون وقومه اشتدت على
بني إسرائيل ، وصرح بوجوب الاستمرار على تقتيل أبنائهم ، واستحياء نسائهم; لأجل أن تنقرض الأمة بعد استذلال من يبقى من النساء إلى أن ينقرض الرجال ، وما ازدادوا إلا ذلا وخنوعا - وهم مئات الألوف - كما هو شأن الشعوب الجاهلة المستضعفة ، ولكن الله تعالى أمر رسوله
موسى أن يمتلخ ذلك اليأس من قلوبهم بقوة الإيمان بما حكاه عنه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=128قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( 128 ) أي بين لهم أن الأرض ليست رهن تصرف الملوك والدول بقدرتهم الذاتية فتدوم لهم ، وإنما هي لله ، وله سبحانه وتعالى سنة في سلبها من قوم ، وجعلها إرثا لقوم آخرين بمحض مشيئته وسلطانه ، ومدار هذه السنة على أن العاقبة في التنازع بين الأمم على الأرض التي تعيش فيها أو تستعمرها للمتقين ، أي الذين يتقون أسباب الضعف والخذلان والهلاك ، كاليأس من روح الله والتخاذل والتنازع والفساد في الأرض والظلم والفسق ، ويتلبسون بضدها ، وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال ، وأعلاها الاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شيء ، والصبر على المكاره مهما عظمت ، وهذان الأمران هما أعظم ما تتفاضل به الأمم من القوى المعنوية باتفاق الملاحدة والمليين من علماء الاجتماع وقواد الحروب .
وقد تكررت هذه القاعدة في القرآن الحكيم ، وفي معناها قوله تعالى من سورة الأنبياء :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=105ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( 21 : 105 ) وإنما الصالحون هم الذين يصلحون لإقامة الحق والعدل وسائر شرائع الله وسننه في العمران ، وهي بمعنى ما يسميه علماء الاجتماع " بقاء الأصلح أو الأمثل في كل تنازع " ويدل عليه المثل المشهور في سورة الرعد :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17أنزل من السماء ماء إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( 13 : 17 ) .
ومن العجيب أن ترى بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة في هذا العصر بسيادة الأجانب عليها يائسة من استقلالها وعزتها ، بل من حياتها الملية والقومية بما ترى من خفة موازينها
[ ص: 482 ] ورجحان موازين السائدين عليها في القوى المادية والآلية ، واستذلال هؤلاء السائدين عليها لها ، جهلا منها بسنة الله تعالى التي بينها في هذه الآية ، وغفلتها عن كون رجحان قوى
فرعون وقومه على
بني إسرائيل وقهره لهم كانا فوق رجحان قوى سائديها عليها وقهرهم إياها ، وفي هذا العصر من العبر التاريخية بسقوط بعض الدول القوية ما لا يقل عن العبرة بأحداث التاريخ القديم .
ثم بين لنا تعالى في الآية التالية لتلك الآية ( 129 ) أن
موسى عليه السلام شكا له قومه إيذاء
فرعون وقومه لهم قبل مجيئه وبعده على سواء ، فذكر لهم ما عنده من الرجاء بإهلاك ربهم لعدوهم ، واستخلافهم في الأرض الموعودين بها; ليختبرهم فينظر كيف يعملون ، ويكون ثبات ملكهم وسلطانهم على حسب عملهم الذي تصلح به الأرض وأهلها أو تفسد . وهو ما فصله تعالى لنا بعد ذلك في آيات أخرى منها في إفسادهم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض ( 17 : 4 ) إلى تتمة الآية الثامنة .
ثم بين لنا تعالى في الآية 137 من هذا السياق أنه أورثهم الأرض المباركة ، وتمت كلمته الحسنى عليهم بما صبروا ، أي لا بمجرد آيات الله
لموسى ، وما أيده به ، فعلم منه بالفعل أن الأمة المستضعفة مهما يكن عدوها الظالم لها قويا فليس لها أن تيأس من الحياة ، وهو تحقيق لرجاء
موسى هنا ، ولوعد الله إياه بذلك صريحا في قوله من سورة القصص :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=5ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=6ونمكن لهم في الأرض ( 28 : 5 ، 6 ) الآية .
ترى شعوب المسلمين يجهلون هذه السنن الإلهية ، وما ضاع ملكهم وعزهم إلا بجهلها الذي كان سببا لعدم الاهتداء بها في العمل ، وما كان سبب هذا الجهل إلا الإعراض عن القرآن ، ودعوى الاستغناء عن هدايته بما كتبه لهم المتكلمون من كتب العقائد المبنية على القواعد الكلامية المبتدعة ، وما كتبه الفقهاء من أحكام العبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب وما يتعلق بها ، وهذه السورة الجليلة الكبيرة القدر والفوائد ( الأعراف ) خالية من هذه الأحكام كلها ، ومن نظريات المتكلمين في العقائد وتقريرهم لها ، وكذلك غيرها من السور المكية . فهل أنزل الله تعالى هذه السور كلها للتعبد بتجويد ألفاظها بدون فهم ، أو لاتخاذها رقى وتمائم ، وكسبا لقراء المآتم ؟ .
وأعجب من هذا كله أن الجهل بلغ بهم بعد ذلك أن ظهر فيهم فريق خصم لهذا الفريق المقلد المحافظ على كتب القرون الوسطى دون هدي السلف ، خصم يقول : إن دين الإسلام هو السبب في جهل المسلمين وضعفهم ، ولا حياة لنا إلا باقتباس علم الاجتماع وسنن العمران من الأمم غير الإسلامية التي سادتنا بهذه العلوم ، وما يؤيدها من الفنون والصناعات ، وهؤلاء
[ ص: 483 ] أجهل بالإسلام من أولئك ، فكتاب الإسلام هو المرشد الأول لسنن الاجتماع والعمران ، ولكن المسلمين قصروا في طور حياتهم العلمية عن تفصيل ذلك بالتدوين لعدم شعورهم بالحاجة إليه ، وكان حقهم في هذا العصر أن يكونوا أوسع الناس به علما; لأن كتاب الله مؤيد للحاجة بل الضرورة التي تدعو إليه .
( 7 ) إن سنة الله في الأمم التي ترث الأرض من بعد أهلها الأصلاء هي سنته تعالى في أهلها ، فإذا كان هؤلاء قد غلبوا عليها; بسبب ظلمهم وفسادهم وجهلهم وعمى قلوبهم ، فكذلك يكون شأن الوارثين لها من بعدهم إذا صاروا مثلهم في ذلك ، وذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=100أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ( 100 ) وكنا نرى الذين ورثوا ممالك المسلمين متعظين بمعنى هذه الآية من بعض الوجوه ، فهم على كثرة ذنوبهم بالظلم وإفساد العقائد والأخلاق وسلب الأموال يتحرون أن يكون ظلمهم دون ظلم حكام أهل البلاد الذين أضاعوها ، وعقولهم تبحث دائما في الأسباب التي يخشى أن تكون سببا لسلبها منهم; لأجل اتقائها ، وآذانهم مرهفة مصيخة لاستماع كل خبر يتعلق بأمرها وأمر أهلها وشئون الطامعين فيها حذرا منهم أن يسلبوهم إياها .
وقد قلنا في تفسير هذه الآية : قد كان ينبغي للمسلمين ، وهذا كتابهم من عند الله عز وجل ، أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه عليهم من ذنوب الأمم التي هلك بها من كان قبلهم ، وزال ملكهم ، ودالت بسببها الدولة لأعدائهم إلى آخر ما تراه في 28 وما بعدها ج 9 ط الهيئة .
هذا ما فتح الله به علينا من أصول وأمهات هداية السورة الجليلة بمراجعتها المرة بعد المرة ، مرورا على الآيات بالنظر ، ولو أعدنا قراءتها مع قراءة تفسيرها بالتدبر لظهر لنا أكثر من ذلك ، وإنما أردنا التلخيص ، ونسأله تعالى أن يجعلها هي وسائر كتابه المجيد حجة لنا لا علينا ، ويوفق أمتنا للرجوع إلى الاهتداء به بالتوبة إليه كما تاب أبوهم وأمهم عليهما السلام .
[ ص: 480 ] الْبَابُ السَّادِسُ
فِي سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ الْبَشَرِيِّ
( وَفِيهِ 7 أُصُولٍ )
( 1 )
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30531إِهْلَاكُ اللَّهِ الْأُمَمَ بِظُلْمِهَا لِنَفْسِهَا وَلِغَيْرِهَا ، كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 4 و5 وَمِصْدَاقُهُ فِي خَلْقِ
آدَمَ الَّذِي هُوَ عُنْوَانُ الْبَشَرِيَّةِ ، وَجَعْلُهُ تَعَالَى الْمَعْصِيَةَ بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمًا لِلنَّفْسِ فِي الْآيَةِ 19 وَاعْتِرَافُ
آدَمَ وَحَوَّاءَ فِي دُعَاءِ تَوْبَتِهِمَا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=23رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ( 23 ) وَبِأَنَّ شَأْنَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْأَفْرَادِ أَنْ تُغْفَرَ بِالتَّوْبَةِ فَيُعْفَى عَنْ عِقَابِهَا ، وَهُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِمَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=23وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَأَمَّا خَسَارَةُ الْأُمَمِ فَهِيَ إِضَاعَةُ اسْتِقْلَالِهَا ، وَسُلْطَانُ أُمَّةٍ أُخْرَى عَلَيْهَا تَسْتَذِلُّهَا ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لَازِمٌ لِلْعَمَلِ ، وَأَنَّ ذُنُوبَ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا ظُلْمُ الْأَفْرَادِ وَعِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ فَيُرَاجَعُ فِي الْأَصْلِ 4 مِنَ الْبَابِ الثَّالِثِ .
( 2 ) بَيَانُ أَنَّ لِلْأُمَمِ آجَالًا لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْ أَسْبَابِهَا الَّتِي اقْتَضَتْهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ ، وَهُوَ نَصُّ الْآيَةِ 34 ، وَكَوْنُهَا إِذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهَذِهِ السُّنَنِ تُؤْخَذُ بَغْتَةً ، وَعَلَى غَفْلَةٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْآيَاتِ 94 - 100 وَهَذِهِ الْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي عَانَدَتِ الرُّسُلَ ، وَكَانَ عِقَابُهَا وَضْعِيًّا لَا اجْتِمَاعِيًّا - وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ الْعِقَابَ الْإِلَهِيَّ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْأُمَمِ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْعِقَابُ بِمَا تَوَعَّدَ تَعَالَى بِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ رُسُلِهِ وَمُعَانَدَتِهِمْ ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عِقَابِ الْحُكَّامِ لِرَعَايَاهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرَائِعِ أُمَّتِهِمْ وَقَوَانِينِهَا وَنُظُمِهَا . ( وَثَانِيهِمَا ) الْعِقَابُ الَّذِي هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْجَرَائِمِ ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمَرِيضُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ طَبِيبِهِ فِي مُعَالَجَتِهِ لَهُ مِنَ الْحَمِيَّةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى كَذَا مِنَ الْغِذَاءِ ، وَالْتِزَامِ كَذَا مِنَ الدَّوَاءِ . ( رَاجِعْ ص257 وَمَا بَعْدَهَا ج 7 ط الْهَيْئَةِ ) .
( 3 ) ابْتِلَاءُ اللَّهِ الْأُمَمَ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ تَارَةً ، وَبِضِدِّهَا مِنَ الرَّخَاءِ وَالنَّعْمَاءِ تَارَةً أُخْرَى . فَإِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ فَيَكُونَ تَرْبِيَةً لَهَا ، وَإِمَّا أَنْ تَغْبَى وَتَغْفُلَ فَيَكُونَ مَهْلَكَةً لَهَا كَمَا فِي الْآيَاتِ 94 وَمَا بَعْدَهَا مِمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .
( 4 ) بَيَانُ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ ، وَالتَّقْوَى فِي الْعَمَلِ بِشَرْعِهِ فِعْلًا وَتَرَكًا ، سَبَبٌ اجْتِمَاعِيٌّ طَبِيعِيٌّ لِسَعَةِ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَيْرَاتِهَا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=96وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ( 96 ) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِآيَاتٍ أُخْرَى فِي سُوَرٍ أُخْرَى ( مِنْهَا ) الْآيَةُ 52 مِنْ سُورَةِ هُودٍ ( 11 ) ، وَالْآيَاتُ 123 - 127 مِنْ سِيَاقِ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي النَّشْأَةِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ سُورَةِ طه ، وَمِثْلُهُ فِي الْآيَاتِ 10 - 12 مِنْ سُورَةِ نُوحٍ ، وَالْآيَتَيْنِ 16 و17 مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ بَعْدَهَا وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ .
[ ص: 481 ] وَمِنْهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى التَّقْوَى وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي مَقَالَةٍ ، عُنْوَانُهَا ( عَاقِبَةُ الْحَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ ) نُشِرَتْ فِي ( ج 7 م 21 مِنَ الْمَنَارِ ) .
( 5 )
nindex.php?page=treesubj&link=30550اسْتِدْرَاجُهُ تَعَالَى لِلْمُكَذِّبِينَ وَالْمُجْرِمِينَ وَإِمْلَاؤُهُ لَهُمْ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ 182 : 183 وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا سَبَقَهُ مِنْ سُنَّةِ أَخْذِ اللَّهِ لِلْأُمَمِ بِذُنُوبِهَا ، وَمِنْ سُنَّةِ ابْتِلَائِهَا بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ ، وَلَا يَتَرَبَّى يُصِرُّ عَلَى ذَنْبِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَنْهُ ، وَذُنُوبُ الْأُمَمِ لَا بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ عَلَيْهَا - رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ هَذَا الْجُزْءِ . فَفِيهِ بَيَانُ هَذِهِ السُّنَّةِ مُوَضَّحًا .
( 6 )
nindex.php?page=treesubj&link=29494_30531_19886_32016سُنَّةُ اللَّهِ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ وَاسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ فِيهَا ، وَالِاسْتِيلَاءِ وَالسِّيَادَةِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ . فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِي قِصَّةِ
مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ أَنَّ وَطْأَةَ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ اشْتَدَّتْ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَصَرَّحَ بِوُجُوبِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى تَقْتِيلِ أَبْنَائِهِمْ ، وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ; لِأَجْلِ أَنْ تَنْقَرِضَ الْأُمَّةُ بَعْدَ اسْتِذْلَالِ مَنْ يَبْقَى مِنَ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ يَنْقَرِضَ الرِّجَالُ ، وَمَا ازْدَادُوا إِلَّا ذُلًّا وَخُنُوعًا - وَهُمْ مِئَاتُ الْأُلُوفِ - كَمَا هُوَ شَأْنُ الشُّعُوبِ الْجَاهِلَةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ
مُوسَى أَنْ يَمْتَلِخَ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ قُلُوبِهِمْ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ بِمَا حَكَاهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=128قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 128 ) أَيْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ رَهْنَ تَصَرُّفِ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ بِقُدْرَتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ فَتَدُومُ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلَّهِ ، وَلَهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى سُنَّةٌ فِي سَلْبِهَا مِنْ قَوْمٍ ، وَجَعْلِهَا إِرْثًا لِقَوْمٍ آخَرِينَ بِمَحْضِ مَشِيئَتِهِ وَسُلْطَانِهِ ، وَمَدَارُ هَذِهِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي التَّنَازُعِ بَيْنَ الْأُمَمِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي تَعِيشُ فِيهَا أَوْ تَسْتَعْمِرُهَا لِلْمُتَّقِينَ ، أَيِ الَّذِينَ يَتَّقُونَ أَسْبَابَ الضَّعْفِ وَالْخِذْلَانِ وَالْهَلَاكِ ، كَالْيَأْسِ مِنْ رُوحِ اللَّهِ وَالتَّخَاذُلِ وَالتَّنَازُعِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ ، وَيَتَلَبَّسُونَ بِضِدِّهَا ، وَبِسَائِرِ مَا تَقْوَى بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ ، وَأَعْلَاهَا الِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَكَارِهِ مَهْمَا عَظُمَتْ ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا أَعْظَمُ مَا تَتَفَاضَلُ بِهِ الْأُمَمُ مِنَ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمِلِّيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحُرُوبِ .
وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=105وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( 21 : 105 ) وَإِنَّمَا الصَّالِحُونَ هُمُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَسَائِرِ شَرَائِعِ اللَّهِ وَسُنَنِهِ فِي الْعُمْرَانِ ، وَهِيَ بِمَعْنَى مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الِاجْتِمَاعِ " بَقَاءَ الْأَصْلَحِ أَوِ الْأَمْثَلِ فِي كُلِّ تَنَازُعٍ " وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَثَلُ الْمَشْهُورُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ( 13 : 17 ) .
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ تَرَى بَعْضَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُسْتَضْعَفَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِسِيَادَةِ الْأَجَانِبِ عَلَيْهَا يَائِسَةً مِنِ اسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا ، بَلْ مِنْ حَيَاتِهَا الْمِلِّيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ بِمَا تَرَى مِنْ خِفَّةِ مَوَازِينِهَا
[ ص: 482 ] وَرُجْحَانِ مَوَازِينِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا فِي الْقُوَى الْمَادِّيَّةِ وَالْآلِيَّةِ ، وَاسْتِذْلَالِ هَؤُلَاءِ السَّائِدِينَ عَلَيْهَا لَهَا ، جَهْلًا مِنْهَا بِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي بَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَغَفْلَتَهَا عَنْ كَوْنِ رُجْحَانِ قُوَى
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَهْرِهِ لَهُمْ كَانَا فَوْقَ رُجْحَانِ قُوَى سَائِدِيهَا عَلَيْهَا وَقَهْرِهِمْ إِيَّاهَا ، وَفِي هَذَا الْعَصْرِ مِنَ الْعِبَرِ التَّارِيخِيَّةِ بِسُقُوطِ بَعْضِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مَا لَا يَقِلُّ عَنِ الْعِبْرَةِ بِأَحْدَاثِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ .
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِتِلْكَ الْآيَةِ ( 129 ) أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شَكَا لَهُ قَوْمُهُ إِيذَاءَ
فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى سَوَاءٍ ، فَذَكَرَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الرَّجَاءِ بِإِهْلَاكِ رَبِّهِمْ لِعَدُوِّهِمْ ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ الْمَوْعُودِينَ بِهَا; لِيَخْتَبِرَهُمْ فَيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ ، وَيَكُونُ ثَبَاتُ مُلْكِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِمُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْأَرْضُ وَأَهْلُهَا أَوْ تَفْسُدُ . وَهُوَ مَا فَصَّلَهُ تَعَالَى لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا فِي إِفْسَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ( 17 : 4 ) إِلَى تَتِمَّةِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ .
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا تَعَالَى فِي الْآيَةِ 137 مِنْ هَذَا السِّيَاقِ أَنَّهُ أَوْرَثَهُمُ الْأَرْضَ الْمُبَارَكَةَ ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُهُ الْحُسْنَى عَلَيْهِمْ بِمَا صَبَرُوا ، أَيْ لَا بِمُجَرَّدِ آيَاتِ اللَّهِ
لِمُوسَى ، وَمَا أَيَّدَهُ بِهِ ، فَعُلِمَ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَنَّ الْأُمَّةَ الْمُسْتَضْعَفَةَ مَهْمَا يَكُنْ عَدُوُّهَا الظَّالِمُ لَهَا قَوِيًّا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِرَجَاءِ
مُوسَى هُنَا ، وَلِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=5وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=6وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ( 28 : 5 ، 6 ) الْآيَةَ .
تَرَى شُعُوبَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ ، وَمَا ضَاعَ مُلْكُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا بِجَهْلِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا فِي الْعَمَلِ ، وَمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الْجَهْلِ إِلَّا الْإِعْرَاضَ عَنِ الْقُرْآنِ ، وَدَعْوَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هِدَايَتِهِ بِمَا كَتَبَهُ لَهُمُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ ، وَمَا كَتَبَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْحَرْبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَهَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الْكَبِيرَةُ الْقَدْرِ وَالْفَوَائِدِ ( الْأَعْرَافُ ) خَالِيَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا ، وَمِنْ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعَقَائِدِ وَتَقْرِيرِهِمْ لَهَا ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ . فَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّوَرَ كُلَّهَا لِلتَّعَبُّدِ بِتَجْوِيدِ أَلْفَاظِهَا بِدُونِ فَهْمٍ ، أَوْ لِاتِّخَاذِهَا رُقًى وَتَمَائِمَ ، وَكَسْبًا لِقُرَّاءِ الْمَآتِمِ ؟ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْجَهْلَ بَلَغَ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ فَرِيقٌ خَصْمٌ لِهَذَا الْفَرِيقِ الْمُقَلِّدِ الْمُحَافِظِ عَلَى كُتُبِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى دُونَ هَدْيِ السَّلَفِ ، خَصْمٌ يَقُولُ : إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ السَّبَبُ فِي جَهْلِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ ، وَلَا حَيَاةَ لَنَا إِلَّا بِاقْتِبَاسِ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ الْعُمْرَانِ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي سَادَتْنَا بِهَذِهِ الْعُلُومِ ، وَمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ ، وَهَؤُلَاءِ
[ ص: 483 ] أَجْهَلُ بِالْإِسْلَامِ مِنْ أُولَئِكَ ، فَكِتَابُ الْإِسْلَامِ هُوَ الْمُرْشِدُ الْأَوَّلُ لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَصَّرُوا فِي طَوْرِ حَيَاتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ عَنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِالتَّدْوِينِ لِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، وَكَانَ حَقُّهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنْ يَكُونُوا أَوْسَعَ النَّاسِ بِهِ عِلْمًا; لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُؤَيِّدٌ لِلْحَاجَةِ بَلِ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهِ .
( 7 ) إِنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَرِثُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا الْأُصَلَاءِ هِيَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي أَهْلِهَا ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ قَدْ غُلِبُوا عَلَيْهَا; بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَعَمَى قُلُوبِهِمْ ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُ الْوَارِثِينَ لَهَا مِنْ بَعْدِهِمْ إِذَا صَارُوا مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=100أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( 100 ) وَكُنَّا نَرَى الَّذِينَ وَرِثُوا مَمَالِكَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّعِظِينَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ، فَهُمْ عَلَى كَثْرَةِ ذُنُوبِهِمْ بِالظُّلْمِ وَإِفْسَادِ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ يَتَحَرَّوْنَ أَنْ يَكُونَ ظُلْمُهُمْ دُونَ ظُلْمِ حُكَّامِ أَهْلِ الْبِلَادِ الَّذِينَ أَضَاعُوهَا ، وَعُقُولُهُمْ تَبْحَثُ دَائِمًا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي يُخْشَى أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَلْبِهَا مِنْهُمْ; لِأَجْلِ اتِّقَائِهَا ، وَآذَانُهُمْ مُرْهَفَةٌ مُصِيخَةٌ لِاسْتِمَاعِ كُلِّ خَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِهَا وَأَمْرِ أَهْلِهَا وَشُئُونِ الطَّامِعِينَ فِيهَا حَذَرًا مِنْهُمْ أَنْ يَسْلُبُوهُمْ إِيَّاهَا .
وَقَدْ قُلْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا كِتَابُهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَنْ يَتَّقُوهُ تَعَالَى بِاتِّقَاءِ كُلِّ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذُنُوبِ الْأُمَمِ الَّتِي هَلَكَ بِهَا مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ ، وَزَالَ مُلْكُهُمْ ، وَدَالَتْ بِسَبَبِهَا الدَّوْلَةُ لِأَعْدَائِهِمْ إِلَى آخِرِ مَا تَرَاهُ فِي 28 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ .
هَذَا مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ أُصُولِ وَأُمَّهَاتِ هِدَايَةِ السُّورَةِ الْجَلِيلَةِ بِمُرَاجَعَتِهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ ، مُرُورًا عَلَى الْآيَاتِ بِالنَّظَرِ ، وَلَوْ أَعَدْنَا قِرَاءَتَهَا مَعَ قِرَاءَةِ تَفْسِيرِهَا بِالتَّدَبُّرِ لَظَهَرَ لَنَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا التَّلْخِيصَ ، وَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا هِيَ وَسَائِرَ كِتَابِهِ الْمَجِيدِ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا ، وَيُوَفِّقَ أُمَّتَنَا لِلرُّجُوعِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِ بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا تَابَ أَبُوهُمْ وَأُمُّهُمْ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .