(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=154ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=157أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )
ذهب الذين ينظرون من القرآن في جمله وآياته مفككة منفصلا بعضها عن بعض ; التماسا لسبب النزول في كل آية أو جملة أو كلمة ، ولا ينظرون إليه في سياق جمله وكمال نظمه إلى أن الأمر بالاستعانة في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153nindex.php?page=treesubj&link=28973_28680يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ) هو للاستعانة على أمر الآخرة والاستعداد لها ، وأن المراد بالصبر فيه الصبر عن المعاصي وحظوظ النفس ، واعتمده
البيضاوي وغيره ، أو على الطاعات ، وبهذا صرح (
الجلال ) ، وقد أورد قوله الأستاذ الإمام وسأل الله تعالى الصبر على احتمال مثل هذا الكلام . والتحقيق أنه عام في كل عمل نفسي أو بدني أو ترك يشق على النفس ، كما يدل عليه حذف متعلقه ، والمعنى : استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه وعلى سائر ما يشق عليكم من مصائب الحياة بالصبر وتوطين النفس على احتمال المكاره ، وبالصلاة التي تكبر بها الثقة بالله عز وجل وتصغر بمناجاته فيها كل المشاق وأعمها المصائب المذكورة في الآيات بعده ، ولا سيما الأعمال العامة النفع كالجهاد المشار إليه في الآية التالية . وقد بين شيخنا أهم مواضعه التي يدل عليها السياق مع بيان التناسب بين الآيات ووجه الاتصال بما مثاله موضحا .
[ ص: 28 ] ذكر الله تعالى
nindex.php?page=treesubj&link=29376افتتان الناس بتحويل القبلة ، وتقدم شرح ما دلت عليه الآيات من عظم أمر تلك الفتنة ، وإزالة شبه الفاتنين والمفتونين ، وإقامة الحجج على المشاغبين ، وحكم التحويل وفوائده للمؤمنين ، ومنها إتمام النعمة ، والبشارة بالاستيلاء على
مكة ، وكون ذلك طرقا للهداية ، لما في الفتن من التمحيص الذي يتميز به المؤمن الصادق من المسلم المنافق ، فهي تظهر الثابت على الحق المطمئن به ، وتفضح المنافق المرائي فيه بما تظهر من زلزاله واضطرابه فيما لديه ، أو انقلابه ناكصا على عقبيه ، ثم شبه هذه النعمة التامة بالنعمة الكبرى وهي إرسال الرسول فيهم ، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ، وفي ذلك من التثبيت في مقاومة الفتنة ، وتأكيد أمر القبلة ما يليق بتلك الحالة . وقفى ذلك بالأمر بذكره وشكره على هذه النعم ; للإيذان بأن تحويل القبلة الذي صوره السفهاء من الناس بصورة النقمة هو في نفسه أجل منة وأكبر نعمة .
لا جرم أن تلك النعم التي يجب ذكرها وشكرها للمنعم جل شأنه كانت تقرن بضروب من البلاء وأنواع من المصائب ، أكبرها
nindex.php?page=treesubj&link=19576_32025ما يلاقيه أهل الحق من مقاومة الباطل وأحزابه ، وأصغرها ما لا يسلم منه أحد في ماله وأهله وأحبابه ، أليس من النسب القريب بين الكلام ومن كمال الإرشاد في هذا المقام ، أن يرد بعد الأمر بالشكر أمر آخر بالصبر ، وأن يعد الله المؤمنين بالجزاء على هذا كما وعدهم بالجزاء على ذاك ؟ بلى إن هذه الآيات متصلة بما قبلها ، متممة للإرشاد فيها ، وقد هدى سبحانه بلطفه إلى علاج الداء قبل بيانه ، فأمر بالاستعانة على ما يلاقيه المؤمنون بالصبر والصلاة ، ووعد على ذلك بمعونته الإلهية ، ثم أشعرهم بما يلاقونه في سبيل الحق والدعوة إلى الدين والمدافعة عنه وعن أنفسهم ، فهو سبحانه وتعالى يأمرهم بالصبر على ذلك كله ، لا أن الآية في الانقطاع إلى العبادة والصبر على الطاعة مطلقا بحيث يكون القاعد عن الجهاد بنفسه وماله ، أو السعي لعياله - اعتكافا في مسجد أو انزواء في خلوة - عاملا بها .
كان المؤمنون في قلة من العدد والعدد ، وكانت الأمم كلها مناوئة لهم ، فالمشركون أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وما فتئوا يغيرون عليهم ، ويصدون الناس عنهم ، ثم كانوا يلاقون في مهاجرهم ما يلاقون من عداوة
أهل الكتاب ومكرهم ، ومن مراوغة المنافقين وكيدهم ، فأمرهم الله تعالى أن يستعينوا في مقاومة ذلك كله وفي سائر ما يعرض لهم من المصائب بالصبر والصلاة . أما
nindex.php?page=treesubj&link=19571_19572الصبر فقد ذكر في القرآن سبعين مرة ولم تذكر فضيلة أخرى فيه بهذا المقدار ، وهذا يدل على عظم أمره ، وقد جعل التواصي به في سورة العصر مقرونا بالتواصي بالحق ; إذ لا بد للداعي إلى الحق منه ، والمراد بالصبر في هذه الآيات كلها ملكة الثبات والاحتمال التي تهون على صاحبها كل ما يلاقيه في سبيل تأييد الحق ونصر الفضيلة .
[ ص: 29 ] فضيلة هي أم الفضائل التي تربي ملكات الخير في النفس ، فما من فضيلة إلا وهي محتاجة إليها ، وإنما يظهر الصبر في ثبات الإنسان على عمل اختياري يقصد به إثبات حق أو إزالة باطل أو الدعوة إلى عقيدة ، أو تأييد فضيلة ، أو إيجاد وسيلة إلى عمل عظيم ; لأن أمثال هذه الكليات التي تتعلق بالمصالح العامة هي التي تقابل من الناس بالمقاومة والمحادة ; التي يعوز فيها الصبر ، ويعز معها الثبات على احتمال المكاره ، ومصارعة الشدائد ، فالثابت على العمل في مثل هذه الحال هو الصابر وإن كان في أول الأمر متكلفا ، ومتى رسخت الملكة يسمى صاحبها صبورا وصبارا ، وليس كل محتمل للمكروه من الصابرين الذين أخبر الله في هذه الآية أنه معهم وبشرهم في الآية الآتية وأثنى عليهم في آيات كثيرة ; بل لا بد من العمل للحق والثبات فيه كما قدمنا ; لأن الفضائل لا تتحقق إلا بما يصدر عنها من الأعمال الاختيارية التي هي مناط الجزاء ، بل الصبر نفسه ملكة اكتسابية ; ولذلك أمر الله تعالى به ، وإنما يكون الامتثال بتعويد النفس احتمال المكاره والشدائد في سبيل الحق ، وعلى ذلك جرى النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه عليهم الرضوان ، حتى فازوا بعاقبة الصبر المحمودة ونصرهم الله تعالى مع قلتهم وضعفهم على جميع الأمم مع قوتها وكثرتها ، وإنما كان ذلك بالصبر ; لأن الله تعالى جعله سببا للنجاة من الخسر ، كما جاء في سورة العصر .
nindex.php?page=treesubj&link=19571_32495المتحمل للمكروه مع السآمة والضجر لا يعد صابرا ، وهذا هو شأن منتحلي العلم ومدعي الصلاح في هذا الزمان ، تراهم أضعف الناس قلوبا وأشدهم اضطرابا إذا عرض لهم شيء على غير ما يهوون ، على أن عنوان صلاحهم واستمساكهم بعروة الدين هو جرس الذكر وحركات الأعضاء في الصلاة ، وما كان للمصلي ولا للذاكر أن يكون ضعيف القلب عادم الثقة بالله تعالى ، وهو
nindex.php?page=treesubj&link=24589جل ثناؤه يبريء المصلين من الجزع الذي هو ضد الصبر بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=19إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) إلخ ، وقد جعل ذكره مع الثبات في البأساء في قرن ، إذ قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=45يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) ( 8 : 45 ) وقد قرن في الآية التي نفسرها الصلاة بالصبر وجعل الأمرين معا ذريعة الاستعانة على ما يلاقي المؤمنون في طريق الحق من الشدائد .
ولو كان هؤلاء الأدعياء مصلين لكانوا من الصابرين ، وإنما تلك حركات تعودوها فهم يكررونها ساهين عنها ، أو يقصدون بها قلوب الناس يبتغون عندها المكانة الرفيعة بالدين لما يترتب على ذلك من المنافع والفوائد الدنيوية التي لا يعقلون سواها ، فيجب
nindex.php?page=treesubj&link=19576_19572على كل مؤمن أن يعود نفسه احتمال المكاره ، ويحاول تحصيل ملكة الصبر عندما تعرض له أسبابه ، فمن لم يستعن على عمله بالصبر لا يتم له أمر ، ولا يثبت على عمل ، ولا سيما الأعمال العظيمة كتربية الأمم والانتقال بها من حال إلى حال ; لذلك ترى كثيرين يشرعون في الأعمال العظيمة
[ ص: 30 ] فيعوزهم الصبر فيقفون عند الخطوة الثانية . ومن يزعم أنه عاجز عن تحصيل هذه الملكة فهو خائن لنفسه جاهل بما أودع الله فيه من الاستعداد ، فهو باحتقاره لنفسه محتقر نعمة الله تعالى عليه ، وهو بهذا الإحساس بالعجز قد سجل على نفسه الحرمان من جميع الفضائل .
وجه الحاجة إلى الاستعانة بالصبر على تأييد الحق والقيام بأعبائه ظاهر جلي ، وأما الحاجة إلى الاستعانة بالصلاة فوجهها محجوب لا يكاد ينكشف إلا للمصلين الذين هم في صلاتهم خاشعون . تلك الصلاة التي أكثر من ذكرها الكتاب العزيز ، ووصف ذويها بفضلى الصفات وهي التوجه إلى الله تعالى ومناجاته ، وحضور القلب معه سبحانه واستغراقه في الشعور بهيبته وجلاله وكمال سلطانه . تلك الصلاة التي قال فيها جل ذكره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) ( 2 : 45 ) وقال فيها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ( 29 : 45 ) وليست هي الصورة المعهودة من القيام والركوع والسجود والتلاوة باللسان خاصة ، التي يسهل على كل صبي مميز أن يتعودها ، والتي نشاهد من المعتادين لها الإصرار على الفواحش والمنكرات ، واجتراح الآثام والسيئات ، وأي قيمة لتلك الحركات الخفيفة في نفسها حتى يصفها رب العزة والجلال بالكبر إلا على الخاشعين ، إنما جعلت تلك الحركات والأقوال صورة للصلاة لتكون وسيلة لتذكير الغافلين ، وتنبيه الذاهلين ، ودافعا يدفع المصلي إلى ذلك التوجه المقصود الذي يملأ القلب بعظمة الله وسلطانه حتى يستسهل في سبيله كل صعب ، ويستخف بكل كرب ، ويسهل عليه عند ذلك احتمال كل بلاء ، ومقاومة كل عناء ، فإنه لا يتصور شيئا يعترض في سبيله إلا ويرى سيده ومولاه أكبر منه ، فهو لا يزال يقول : الله أكبر ، حتى لا يبقى في نفسه شيء كبير ، إلا ما كان مرضيا لله العلي الكبير ، الذي يلجأ إليه في الحوادث ، ويفزع إليه عند الكوارث .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153nindex.php?page=treesubj&link=19572_28973إن الله مع الصابرين ) ولم يقل معكم ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم ، وقالوا : إن المعية هنا معية المعونة ، فالصابرون موعودون من الله تعالى بالمعونة والظفر ، ومن كان الله معينه وناصره فلا يغلبه شيء .
وقال الأستاذ الإمام : إن من سنة الله تعالى أن
nindex.php?page=treesubj&link=30509الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار ، وهذا إنما يكون بالصبر ، فمن صبر فهو على سنة الله ، والله معه بما جعل هذا الصبر سببا للظفر ; لأنه يولد الثبات والاستمرار الذي هو شرط النجاح ، ومن لم يصبر فليس الله معه ; لأنه تنكب سنته ، ولن يثبت فيبلغ غايته .
علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته من المقاومات وتثبيط الهمم ، وما يقوله لهم الناس في ذلك ، وما يقول الضعفاء في أنفسهم : كيف تبذل هذه النفوس وتستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها ؟ وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل
[ ص: 31 ] تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك مما كانوا يسمعونه من المنافقين والكافرين ، وربما أثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطئوا النصر ، فعلمهم الله سبحانه وتعالى ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس ، ومقاومة الشبهات والوساوس . فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=154وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=156الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=157أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ )
ذَهَبَ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي جُمَلِهِ وَآيَاتِهِ مُفَكَّكَةً مُنْفَصِلًا بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ ; الْتِمَاسًا لِسَبَبِ النُّزُولِ فِي كُلِّ آيَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ ، وَلَا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ جُمَلِهِ وَكَمَالِ نَظْمِهِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِعَانَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153nindex.php?page=treesubj&link=28973_28680يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ) هُوَ لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّبْرِ فِيهِ الصَّبْرُ عَنِ الْمَعَاصِي وَحُظُوظِ النَّفْسِ ، وَاعْتَمَدَهُ
الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ ، أَوْ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَبِهَذَا صَرَّحَ (
الْجَلَالُ ) ، وَقَدْ أَوْرَدَ قَوْلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الصَّبْرَ عَلَى احْتِمَالِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ عَمَلٍ نَفْسِيٍّ أَوْ بَدَنِيٍّ أَوْ تَرْكٍ يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ ، وَالْمَعْنَى : اسْتَعِينُوا عَلَى إِقَامَةِ دِينِكُمْ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ وَعَلَى سَائِرِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكُمْ مِنْ مَصَائِبِ الْحَيَاةِ بِالصَّبْرِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ ، وَبِالصَّلَاةِ الَّتِي تَكْبُرُ بِهَا الثِّقَةُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْغُرُ بِمُنَاجَاتِهِ فِيهَا كُلُّ الْمَشَاقِّ وَأَعَمُّهَا الْمَصَائِبُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ بَعْدَهُ ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالُ الْعَامَّةُ النَّفْعِ كَالْجِهَادِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ . وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا أَهَمَّ مَوَاضِعِهِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا السِّيَاقُ مَعَ بَيَانِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيَاتِ وَوَجْهِ الِاتِّصَالِ بِمَا مِثَالُهُ مُوَضَّحًا .
[ ص: 28 ] ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=treesubj&link=29376افْتِتَانَ النَّاسِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ ، وَإِزَالَةُ شُبَهِ الْفَاتِنِينَ وَالْمَفْتُونِينَ ، وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشَاغِبِينَ ، وَحِكَمُ التَّحْوِيلِ وَفَوَائِدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَمِنْهَا إِتْمَامُ النِّعْمَةِ ، وَالْبِشَارَةُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى
مَكَّةَ ، وَكَوْنُ ذَلِكَ طُرُقًا لِلْهِدَايَةِ ، لِمَا فِي الْفِتَنِ مِنَ التَّمْحِيصِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُنَافِقِ ، فَهِيَ تُظْهِرُ الثَّابِتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُطَمْئِنَ بِهِ ، وَتَفْضَحُ الْمُنَافِقَ الْمُرَائِي فِيهِ بِمَا تُظْهِرُ مِنْ زِلْزَالِهِ وَاضْطِرَابِهِ فِيمَا لَدَيْهِ ، أَوِ انْقِلَابِهِ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ ، ثُمَّ شَبَّهَ هَذِهِ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ بِالنِّعْمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ إِرْسَالُ الرَّسُولِ فِيهِمْ ، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّثْبِيتِ فِي مُقَاوَمَةِ الْفِتْنَةِ ، وَتَأْكِيدِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ . وَقَفَّى ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ ; لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ الَّذِي صَوَّرَهُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ بِصُورَةِ النِّقْمَةِ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَجَلُّ مِنَّةٍ وَأَكْبَرُ نِعْمَةٍ .
لَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي يَجِبُ ذِكْرُهَا وَشُكْرُهَا لِلْمُنْعِمِ جَلَّ شَأْنُهُ كَانَتْ تُقْرَنُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَصَائِبِ ، أَكْبَرُهَا
nindex.php?page=treesubj&link=19576_32025مَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْبَاطِلِ وَأَحْزَابِهِ ، وَأَصْغُرُهَا مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ ، أَلَيْسَ مِنَ النَّسَبِ الْقَرِيبِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَمِنْ كَمَالِ الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، أَنْ يَرِدَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ أَمْرٌ آخَرُ بِالصَّبْرِ ، وَأَنْ يَعِدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا كَمَا وَعَدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى ذَاكَ ؟ بَلَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا ، مُتَمِّمَةٌ لِلْإِرْشَادِ فِيهَا ، وَقَدْ هَدَى سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ إِلَى عِلَاجِ الدَّاءِ قَبْلَ بَيَانِهِ ، فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ ، ثُمَّ أَشْعَرَهُمْ بِمَا يُلَاقُونَهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُ وَعَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ، لَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَاعِدُ عَنِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ، أَوِ السَّعْيِ لِعِيَالِهِ - اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ أَوِ انْزِوَاءً فِي خَلْوَةٍ - عَامِلًا بِهَا .
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ ، وَكَانَتِ الْأُمَمُ كُلُّهَا مُنَاوِئَةً لَهُمْ ، فَالْمُشْرِكُونَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا فَتِئُوا يُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُمْ ، ثُمَّ كَانُوا يُلَاقُونَ فِي مُهَاجِرِهِمْ مَا يُلَاقُونَ مِنْ عَدَاوَةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَكْرِهِمْ ، وَمِنْ مُرَاوَغَةِ الْمُنَافِقِينَ وَكَيْدِهِمْ ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَعِينُوا فِي مُقَاوَمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي سَائِرِ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ . أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19571_19572الصَّبْرُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَلَمْ تُذْكَرْ فَضِيلَةٌ أُخْرَى فِيهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ ، وَقَدْ جُعِلَ التَّوَاصِي بِهِ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ مَقْرُونًا بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ ; إِذْ لَا بُدَّ لِلدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ ، وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا مَلَكَةُ الثَّبَاتِ وَالِاحْتِمَالِ الَّتِي تُهَوِّنُ عَلَى صَاحِبِهَا كُلَّ مَا يُلَاقِيهِ فِي سَبِيلِ تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَصْرِ الْفَضِيلَةِ .
[ ص: 29 ] فَضِيلَةٌ هِيَ أَمُّ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُرَبِّي مَلَكَاتِ الْخَيْرِ فِي النَّفْسِ ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلَّا وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الصَّبْرُ فِي ثَبَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى عَمَلٍ اخْتِيَارِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ إِثْبَاتُ حَقٍّ أَوْ إِزَالَةُ بَاطِلٍ أَوِ الدَّعْوَةُ إِلَى عَقِيدَةٍ ، أَوْ تَأْيِيدُ فَضِيلَةٍ ، أَوْ إِيجَادُ وَسِيلَةٍ إِلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ ; لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هِيَ الَّتِي تُقَابَلُ مِنَ النَّاسِ بِالْمُقَاوَمَةِ وَالْمُحَادَّةِ ; الَّتِي يُعْوَزُّ فِيهَا الصَّبْرُ ، وَيَعِزُّ مَعَهَا الثَّبَاتُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ ، وَمُصَارَعَةِ الشَّدَائِدِ ، فَالثَّابِتُ عَلَى الْعَمَلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ هُوَ الصَّابِرُ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُتَكَلِّفًا ، وَمَتَى رَسَخَتِ الْمَلَكَةُ يُسَمَّى صَاحِبُهَا صَبُورًا وَصَبَّارًا ، وَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمِلٍ لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَعَهُمْ وَبَشَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ لِلْحَقِّ وَالثَّبَاتِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْجَزَاءِ ، بَلِ الصَّبْرُ نَفْسُهُ مَلَكَةٌ اكْتِسَابِيَّةٌ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ ، حَتَّى فَازُوا بِعَاقِبَةِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودَةِ وَنَصَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْخُسْرِ ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ .
nindex.php?page=treesubj&link=19571_32495الْمُتَحَمِّلُ لِلْمَكْرُوهِ مَعَ السَّآمَةِ وَالضَّجَرِ لَا يُعَدُّ صَابِرًا ، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ مُنْتَحِلِي الْعِلْمِ وَمُدَّعِي الصَّلَاحِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، تَرَاهُمْ أَضْعَفَ النَّاسِ قُلُوبًا وَأَشَدَّهُمُ اضْطِرَابًا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ عَلَى غَيْرِ مَا يَهْوُونَ ، عَلَى أَنَّ عُنْوَانَ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بِعُرْوَةِ الدِّينِ هُوَ جَرَسُ الذِّكْرِ وَحَرَكَاتُ الْأَعْضَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، وَمَا كَانَ لِلْمُصَلِّي وَلَا لِلذَّاكِرِ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْقَلْبِ عَادِمَ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=24589جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُبَرِّيءُ الْمُصَلِّينَ مِنَ الْجَزَعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّبْرِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=19إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) ( 70 : 19 - 22 ) إِلَخْ ، وَقَدْ جَعَلَ ذِكْرَهُ مَعَ الثَّبَاتِ فِي الْبَأْسَاءِ فِي قَرْنٍ ، إِذْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=45يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( 8 : 45 ) وَقَدْ قَرَنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الصَّلَاةَ بِالصَّبْرِ وَجَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ذَرِيعَةَ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ مِنَ الشَّدَائِدِ .
وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ مُصَلِّينَ لَكَانُوا مِنَ الصَّابِرِينَ ، وَإِنَّمَا تِلْكَ حَرَكَاتٌ تَعَوَّدُوهَا فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا سَاهِينَ عَنْهَا ، أَوْ يَقْصِدُونَ بِهَا قُلُوبَ النَّاسِ يَبْتَغُونَ عِنْدَهَا الْمَكَانَةَ الرَّفِيعَةَ بِالدِّينِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ سِوَاهَا ، فَيَجِبُ
nindex.php?page=treesubj&link=19576_19572عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ ، وَيُحَاوِلَ تَحْصِيلَ مَلَكَةِ الصَّبْرِ عِنْدَمَا تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابُهُ ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى عَمَلِهِ بِالصَّبْرِ لَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى عَمَلٍ ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالُ الْعَظِيمَةُ كَتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ وَالِانْتِقَالِ بِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; لِذَلِكَ تَرَى كَثِيرِينَ يَشْرَعُونَ فِي الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ
[ ص: 30 ] فَيُعْوِزُهُمُ الصَّبْرُ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْخُطْوَةِ الثَّانِيَةِ . وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَلَكَةِ فَهُوَ خَائِنٌ لِنَفْسِهِ جَاهِلٌ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ ، فَهُوَ بِاحْتِقَارِهِ لِنَفْسِهِ مُحْتَقِرٌ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِحْسَاسِ بِالْعَجْزِ قَدْ سَجَّلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحِرْمَانَ مِنْ جَمِيعِ الْفَضَائِلِ .
وَجْهُ الْحَاجَةِ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ عَلَى تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَالْقِيَامِ بِأَعْبَائِهِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ، وَأَمَّا الْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ فَوَجْهُهَا مَحْجُوبٌ لَا يَكَادُ يَنْكَشِفُ إِلَّا لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ ، وَوَصَفَ ذَوِيهَا بِفُضْلَى الصِّفَاتِ وَهِيَ التَّوَجُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُنَاجَاتُهُ ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ مَعَهُ سُبْحَانَهُ وَاسْتِغْرَاقُهُ فِي الشُّعُورِ بِهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ سُلْطَانِهِ . تِلْكَ الصَّلَاةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا جَلَّ ذِكْرُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) ( 2 : 45 ) وَقَالَ فِيهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=45إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) ( 29 : 45 ) وَلَيْسَتْ هِيَ الصُّورَةُ الْمَعْهُودَةُ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ بِاللِّسَانِ خَاصَّةً ، الَّتِي يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ أَنْ يَتَعَوَّدَهَا ، وَالَّتِي نُشَاهِدُ مِنَ الْمُعْتَادِينَ لَهَا الْإِصْرَارَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَاجْتِرَاحِ الْآثَامِ وَالسَّيِّئَاتِ ، وَأَيُّ قِيمَةٍ لِتِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْخَفِيفَةِ فِي نَفْسِهَا حَتَّى يَصِفَهَا رَبُّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ بِالْكِبَرِ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ، إِنَّمَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْحَرَكَاتُ وَالْأَقْوَالُ صُورَةً لِلصَّلَاةِ لِتَكُونَ وَسِيلَةً لِتَذْكِيرِ الْغَافِلِينَ ، وَتَنْبِيهِ الذَّاهِلِينَ ، وَدَافِعًا يَدْفَعُ الْمُصَلِّي إِلَى ذَلِكَ التَّوَجُّهِ الْمَقْصُودِ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَلْبَ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ حَتَّى يَسْتَسْهِلَ فِي سَبِيلِهِ كُلَّ صَعْبٍ ، وَيَسْتَخِفَّ بِكُلِّ كَرْبٍ ، وَيَسْهُلَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ احْتِمَالُ كُلِّ بَلَاءٍ ، وَمُقَاوَمَةُ كُلِّ عَنَاءٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَصَوَّرُ شَيْئًا يَعْتَرِضُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا وَيَرَى سَيِّدَهُ وَمَوْلَاهُ أَكْبَرَ مِنْهُ ، فَهُوَ لَا يَزَالُ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ كَبِيرٌ ، إِلَّا مَا كَانَ مُرْضِيًا لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ، الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي الْحَوَادِثِ ، وَيَفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْكَوَارِثِ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153nindex.php?page=treesubj&link=19572_28973إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) وَلَمْ يَقُلْ مَعَكُمْ لِيُفِيدَ أَنَّ مَعُونَتَهُ إِنَّمَا تَمُدُّهُمْ إِذَا صَارَ الصَّبْرُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ ، وَقَالُوا : إِنَّ الْمَعِيَّةَ هُنَا مَعِيَّةُ الْمَعُونَةِ ، فَالصَّابِرُونَ مَوْعُودُونَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَعُونَةِ وَالظَّفَرِ ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مُعِينَهُ وَنَاصِرَهُ فَلَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30509الْأَعْمَالَ الْعَظِيمَةَ لَا تَتِمُّ وَلَا يَنْجَحُ صَاحِبُهَا إِلَّا بِالثَّبَاتِ وَالِاسْتِمْرَارِ ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالصَّبْرِ ، فَمَنْ صَبَرَ فَهُوَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ مَعَهُ بِمَا جَعَلَ هَذَا الصَّبْرَ سَبَبًا لِلظَّفَرِ ; لِأَنَّهُ يُوَلِّدُ الثَّبَاتَ وَالِاسْتِمْرَارَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ النَّجَاحِ ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ فَلَيْسَ اللَّهُ مَعَهُ ; لِأَنَّهُ تَنَكَّبَ سُنَّتَهُ ، وَلَنْ يَثْبُتَ فَيَبْلُغَ غَايَتَهُ .
عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا سَيُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَإِقَامَتِهِ مِنَ الْمُقَاوَمَاتِ وَتَثْبِيطِ الْهِمَمِ ، وَمَا يَقُولُهُ لَهُمُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، وَمَا يَقُولُ الضُّعَفَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ : كَيْفَ تُبْذَلُ هَذِهِ النُّفُوسُ وَتُسْتَهْدَفُ لِلْقَتْلِ بِمُخَالَفَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا ؟ وَمَا الْغَايَةُ مِنْ قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهَ لِأَجْلِ
[ ص: 31 ] تَعْزِيزِ رَجُلٍ فِي دَعْوَتِهِ ؟ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَرُبَّمَا أَثَّرَ فِي نُفُوسِ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ فَاسْتَبْطَئُوا النَّصْرَ ، فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى مُجَاهَدَةِ الْخَوَاطِرِ وَالْهَوَاجِسِ ، وَمُقَاوَمَةِ الشُّبُهَاتِ وَالْوَسَاوِسِ . فَأَمَرَ أَوَّلًا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ .