قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143nindex.php?page=treesubj&link=28973_28641_30231وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) وهو تصريح بما فهم من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213والله يهدي من يشاء ) ( 2 : 213 ) إلخ ، أي : على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطا . قالوا : إن الوسط هو العدل والخيار ، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط ، والنقص عنه تفريط وتقصير ، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة فهو شر ومذموم ، فالخيار : هو الوسط بين طرفي الأمر ; أي : المتوسط بينهما .
قال الأستاذ الإمام بعد إيراد هذا : ولكن يقال لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار مع أن هذا هو المقصود ، والأول إنما يدل عليه بالالتزام ؟ والجواب من وجهين :
[ ص: 5 ] ( أحدهما ) : أن وجه الاختيار هو التمهيد للتعليل الآتي ; فإن الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفا به ، ومن كان متوسطا بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر ، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ، ولا حال الوسط أيضا .
( وثانيهما ) : أن في لفظ الوسط إشعارا بالسببية ، فكأنه دليل على نفسه ; أي : أن المسلمين خيار وعدول ; لأنهم وسط ، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرطين ، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال .
ذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=30576_29244الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين : قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة ، فلا هم له إلا الحظوظ الجسدية
كاليهود والمشركين ، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية ،
كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي
الهند أصحاب الرياضات .
وأما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين : حق الروح ، وحق الجسد ، فهي روحانية جسمانية ، وإن شئت قلت إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية ، فإن الإنسان جسم وروح ، حيوان وملك ، فكأنه قال : جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين ، وتبلغون الكمالين (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لتكونوا شهداء ) بالحق ( على الناس ) الجسمانيين بما فرطوا في جنب الدين ، والروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين ، تشهدون على المفرطين بالتعطيل القائلين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=24ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) ( 45 : 24 ) بأنهم أخلدوا إلى البهيمية ، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية ، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين : إن هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها .
فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد ، وهضم حقوق النفس وحرمانها من جميع ما أعده الله لها في هذه الحياة ، تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادة الاعتدال ، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية ، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء ، وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها ، ذلك بأن ما هديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال ; لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه ، يؤدي حقوق ربه ، وحقوق نفسه ، وحقوق جسمه ، وحقوق ذوي القربى ، وحقوق سائر الناس (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143ويكون الرسول عليكم شهيدا ) أي : إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط ، وإنما تكون هذه الأمة وسطا باتباعها له في سيرته وشريعته ، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين ، فكما تشهد هذه الأمة على الناس بسيرتها وارتقائها الجسدي والروحي بأنهم قد ضلوا عن القصد ، يشهد لها الرسول - بما وافقت فيه سنته وما كان لها من الأسوة الحسنة فيه - بأنها استقامت على صراط الهداية المستقيم ، فكأنه
[ ص: 6 ] قال : إنما يتحقق لكم وصف الوسط إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول واستقمتم على سنته ، وأما إذا انحرفتم عن هذه الجادة ، فالرسول بنفسه ودينه وسيرته حجة عليكم بأنكم لستم من أمته التي وصفها الله في كتابه بهذه الآية ، وبقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=110كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ( 3 : 110 ) إلخ ; بل تخرجون بالابتداع من الوسط وتكونون في أحد الطرفين ، كما قال الشاعر - وقد استشهد به
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تفسير الآية :
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفا
( الأستاذ الإمام ) : يقال إن هذا خبر عظيم بمنحة جليلة ، ومنة بنعمة كبيرة ، فلم جيء به معترضا في أطواء الكلام عن القبلة ، ولم يجئ ابتداء أو في سياق تعداد الآلاء والنعم ؟ والجواب : أن الله تعالى علم أن الفتنة بمسألة القبلة ستكون عظيمة ، وأن سيقول
أهل الكتاب : إن محمدا ليس على بينة من ربه لأنه غير قبلته ، ولو كان الله هو الذي أمره بالصلاة إلى
بيت المقدس لما نهاه عنه ثانيا وصرفه عن قبلة الأنبياء . ويقول المنافقون : إنه صلى أولا إلى
بيت المقدس استمالة
لأهل الكتاب ودهانا لهم ، ثم غلب عليه حب وطنه وتعظيمه ، فعاد إلى استقبال
الكعبة ، فهو مضطرب في دينه . وأمثال هذه الشبهات - على كونها تدل على عدم الاعتدال في أفكار قائليها - تؤثر في نفوس المسلمين ، فالمطمئن الراسخ في الإيمان يحزن لشكوك الناس وتشكيكهم في الدين ، والضعيف غير المتمكن ربما يضطرب ويتزلزل ; لذلك بدأ الله بإخبار المسلمين بما سيكون بعد تحويل القبلة من إثارة رياح الشبه والتشكيك ، ولقنهم الحجة ، وبين لهم ما فيها من الحكمة ، وبين لهم منزلتهم من سائر الأمم وهي أنهم أمة وسط لا تغلو في شيء ، ولا تقف عند الظواهر ، وأنهم شهداء على الناس وحجة عليهم ; باعتدالهم في الأمور كلها ، وفهمهم لحقائق الدين وأسراره ، ومن أهمها أن القبلة التي يتوجه إليها لا شأن لها في ذاتها ، وإنما العبرة فيها باجتماع أهل الملة على جهة واحدة وصفة واحدة عند التوجه إلى الله تعالى .
ولما كانت نسبة الجهات إليه سبحانه وتعالى واحدة - إذ لا تحصره ولا تحده جهة - كان التزام الجهة المعينة منها لغير مجرد الاتباع لأمر الرسول عن الله تعالى ميلا مع الهوى ، أو تخصيصا بغير مخصص ، وكلاهما مما لا يرضاه لنفسه العاقل المعتدل في أمره ، نعم إن له أن يسأل عن حكمة التحول والانتقال ، لا سيما بعدما ثبت بالواقع أن الرسول الذي أمر به لم يأمر إلا بما ظهرت فائدته ومنفعته للممتثلين له من إصلاح النفوس وحملها على الخير وتوجيهها إلى البر ، مما دل عليه أنه مؤيد من الله تعالى .
وجملة القول أن إعلام الله رسوله والمؤمنين بما سيكون من الكافرين والمنافقين وتلقينه إياهم الحجة ، وإنزالهم منزلة الشهداء والمحكمين ، ثم تبيينه لهم حكمة التحويل ، كان مؤيدا ومسددا لهم ، ونورا يسعى بين أيديهم في ظلمة تلك الفتنة المدلهمة ، ولعمري إن هذه هي البلاغة التي لا غاية وراءها ; إعلام بما سيكون من اضطراب
[ ص: 7 ] السفهاء في أقوالهم ، أشير إليه بالاستفهام مجملا ، ولم يذكر معه وجه الشبهة حتى لا تسبق إلى النفوس ، والغرض إقامة الموانع من تأثيرها عند ورودها من أربابها ، واختصار للبرهان ببيان أن المشرق والمغرب كسائر الجهات لله تعالى ; أي : يخصص منها ما يشاء فيجعله قبلة لمن يشاء ، وبيان لمكانة الأمة المحمدية التي أعطيت كل أصل ديني بدليله وحكمته ، وكلفت العدل والاعتدال في الأمر كله ; أي : فلا يليق بها أن تبالي بانتقاد السفهاء المذبذبين بين الإفراط والتفريط .
قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143nindex.php?page=treesubj&link=28973_28641_30231وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ( 2 : 213 ) إِلَخْ ، أَيْ : عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْهِدَايَةِ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا . قَالُوا : إِنَّ الْوَسَطَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْخِيَارُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ فِي الْأَمْرِ إِفْرَاطٌ ، وَالنَّقْصَ عَنْهُ تَفْرِيطٌ وَتَقْصِيرٌ ، وَكُلٌّ مِنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ مَيْلٌ عَنِ الْجَادَّةِ الْقَوِيمَةِ فَهُوَ شَرٌّ وَمَذْمُومٌ ، فَالْخِيَارُ : هُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيِ الْأَمْرِ ; أَيِ : الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذَا : وَلَكِنْ يُقَالُ لِمَ اخْتِيرَ لَفْظُ الْوَسَطِ عَلَى لَفْظِ الْخِيَارِ مَعَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَالْأَوَّلُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
[ ص: 5 ] ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ وَجْهَ الِاخْتِيَارِ هُوَ التَّمْهِيدُ لِلتَّعْلِيلِ الْآتِي ; فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَلَى الشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِهِ ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِنَّهُ يَرَى أَحَدَهُمَا مِنْ جَانِبٍ وَثَانِيَهُمَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَلَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ حَالِ الطَّرَفِ الْآخَرِ ، وَلَا حَالَ الْوَسَطِ أَيْضًا .
( وَثَانِيهِمَا ) : أَنَّ فِي لَفْظِ الْوَسَطِ إِشْعَارًا بِالسَّبَبِيَّةِ ، فَكَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى نَفْسِهِ ; أَيْ : أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خِيَارٌ وَعُدُولٌ ; لِأَنَّهُمْ وَسَطٌ ، لَيْسُوا مِنْ أَرْبَابِ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمُفْرِطِينَ ، وَلَا مِنْ أَرْبَابِ التَّعْطِيلِ الْمُفَرِّطِينَ ، فَهُمْ كَذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ .
ذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30576_29244النَّاسَ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ تَقْضِي عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالْمَادِّيَّةِ الْمَحْضَةِ ، فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا الْحُظُوظَ الْجَسَدِيَّةَ
كَالْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ ، وَقِسْمٌ تَحْكُمُ عَلَيْهِ تَقَالِيدُهُ بِالرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ وَتَرْكِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ ،
كَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَطَوَائِفَ مِنْ وَثَنِيِّي
الْهِنْدِ أَصْحَابِ الرِّيَاضَاتِ .
وَأَمَّا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهَا فِي دِينِهَا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ : حَقِّ الرُّوحِ ، وَحَقِّ الْجَسَدِ ، فَهِيَ رُوحَانِيَّةٌ جُسْمَانِيَّةٌ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ إِنَّهُ أَعْطَاهَا جَمِيعَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ وَرُوحٌ ، حَيَوَانٌ وَمَلَكٌ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا تَعْرِفُونَ الْحَقَّيْنِ ، وَتَبْلُغُونَ الْكَمَالَيْنِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ ) بِالْحَقِّ ( عَلَى النَّاسِ ) الْجُسْمَانِيِّينَ بِمَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ الدِّينِ ، وَالرُّوحَانِيِّينَ إِذْ أَفْرَطُوا وَكَانُوا مِنَ الْغَالِينَ ، تَشْهَدُونَ عَلَى الْمُفَرِّطِينَ بِالتَّعْطِيلِ الْقَائِلِينَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=24مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) ( 45 : 24 ) بِأَنَّهُمْ أَخْلَدُوا إِلَى الْبَهِيمِيَّةِ ، وَقَضَوْا عَلَى اسْتِعْدَادِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَزَايَا الرُّوحَانِيَّةِ ، وَتَشْهَدُونَ عَلَى الْمُفْرِطِينَ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْقَائِلِينَ : إِنَّ هَذَا الْوُجُودَ حَبْسٌ لِلْأَرْوَاحِ وَعُقُوبَةٌ لَهَا .
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَخَلَّصَ مِنْهُ بِالتَّخَلِّي عَنْ جَمِيعِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ ، وَهَضْمِ حُقُوقِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا مِنْ جَمِيعِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ ، تَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ جَادَّةِ الِاعْتِدَالِ ، وَجَنَوْا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ بِجِنَايَتِهِمْ عَلَى أَجْسَادِهِمْ وَقُوَاهَا الْحَيَوِيَّةِ ، تَشْهَدُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ، وَتَسْبِقُونَ الْأُمَمَ كُلَّهَا بِاعْتِدَالِكُمْ وَتَوَسُّطِكُمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا هُدِيتُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْكَمَالُ الْإِنْسَانِيُّ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ كَمَالٌ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، يُؤَدِّي حُقُوقَ رَبِّهِ ، وَحُقُوقَ نَفْسِهِ ، وَحُقُوقَ جِسْمِهِ ، وَحُقُوقَ ذَوِي الْقُرْبَى ، وَحُقُوقَ سَائِرِ النَّاسِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) أَيْ : إِنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ الْمِثَالُ الْأَكْمَلُ لِمَرْتَبَةِ الْوَسَطِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَسَطًا بِاتِّبَاعِهَا لَهُ فِي سِيرَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ ، وَهُوَ الْقَاضِي بَيْنَ النَّاسِ فِيمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَمَنِ ابْتَدَعَ لِنَفْسِهِ تَقَالِيدَ أُخْرَى أَوْ حَذَا حَذْوَ الْمُبْتَدِعِينَ ، فَكَمَا تَشْهَدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى النَّاسِ بِسِيرَتِهَا وَارْتِقَائِهَا الْجَسَدِيِّ وَالرُّوحِيِّ بِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا عَنِ الْقَصْدِ ، يَشْهَدُ لَهَا الرَّسُولُ - بِمَا وَافَقَتْ فِيهِ سُنَّتَهُ وَمَا كَانَ لَهَا مِنَ الْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ فِيهِ - بِأَنَّهَا اسْتَقَامَتْ عَلَى صِرَاطِ الْهِدَايَةِ الْمُسْتَقِيمِ ، فَكَأَنَّهُ
[ ص: 6 ] قَالَ : إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ لَكُمْ وَصْفُ الْوَسَطِ إِذَا حَافَظْتُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهَدْيِ الرَّسُولِ وَاسْتَقَمْتُمْ عَلَى سُنَّتِهِ ، وَأَمَّا إِذَا انْحَرَفْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْجَادَّةِ ، فَالرَّسُولُ بِنَفْسِهِ وَدِينِهِ وَسِيرَتِهِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ بِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَبِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=110كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) ( 3 : 110 ) إِلَخْ ; بَلْ تَخْرُجُونَ بِالِابْتِدَاعِ مِنَ الْوَسَطِ وَتَكُونُونَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ - وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ :
كَانَتْ هِيَ الْوَسَطَ الْمَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى أَصْبَحَتْ طَرَفَا
( الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) : يُقَالُ إِنَّ هَذَا خَبَرٌ عَظِيمٌ بِمِنْحَةٍ جَلِيلَةٍ ، وَمِنَّةٌ بِنِعْمَةٍ كَبِيرَةٍ ، فَلِمَ جِيءَ بِهِ مُعْتَرِضًا فِي أَطْوَاءِ الْكَلَامِ عَنِ الْقِبْلَةِ ، وَلَمْ يَجِئِ ابْتِدَاءً أَوْ فِي سِيَاقِ تَعْدَادِ الْآلَاءِ وَالنِّعَمِ ؟ وَالْجَوَابُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْفِتْنَةَ بِمَسْأَلَةِ الْقِبْلَةِ سَتَكُونُ عَظِيمَةً ، وَأَنْ سَيَقُولُ
أَهْلُ الْكِتَابِ : إِنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّهُ غَيَّرَ قِبْلَتَهُ ، وَلَوْ كَانَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمَا نَهَاهُ عَنْهُ ثَانِيًا وَصَرَفَهُ عَنْ قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ . وَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ : إِنَّهُ صَلَّى أَوَّلًا إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتِمَالَةً
لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَدِهَانًا لَهُمْ ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ وَطَنِهِ وَتَعْظِيمُهُ ، فَعَادَ إِلَى اسْتِقْبَالِ
الْكَعْبَةِ ، فَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي دِينِهِ . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ - عَلَى كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَالِ فِي أَفْكَارِ قَائِلِيهَا - تُؤَثِّرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ ، فَالْمُطَمْئِنُّ الرَّاسِخُ فِي الْإِيمَانِ يَحْزَنُ لِشُكُوكِ النَّاسِ وَتَشْكِيكِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَالضَّعِيفُ غَيْرُ الْمُتَمَكِّنِ رُبَّمَا يَضْطَرِبُ وَيَتَزَلْزَلُ ; لِذَلِكَ بَدَأَ اللَّهُ بِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ إِثَارَةِ رِيَاحِ الشُّبَهِ وَالتَّشْكِيكِ ، وَلَقَّنَهُمُ الْحُجَّةَ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكْمَةِ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَهِيَ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَسَطٌ لَا تَغْلُو فِي شَيْءٍ ، وَلَا تَقِفُ عِنْدَ الظَّوَاهِرِ ، وَأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ; بِاعْتِدَالِهِمْ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ، وَفَهْمِهِمْ لِحَقَائِقِ الدِّينِ وَأَسْرَارِهِ ، وَمِنْ أَهَمِّهَا أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي يُتَوَجَّهُ إِلَيْهَا لَا شَأْنَ لَهَا فِي ذَاتِهَا ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ فِيهَا بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْمِلَّةِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَمَّا كَانَتْ نِسْبَةُ الْجِهَاتِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدَةً - إِذْ لَا تَحْصُرُهُ وَلَا تَحُدُّهُ جِهَةٌ - كَانَ الْتِزَامُ الْجِهَةِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْهَا لِغَيْرِ مُجَرَّدِ الِاتِّبَاعِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَيْلًا مَعَ الْهَوَى ، أَوْ تَخْصِيصًا بِغَيْرِ مُخَصِّصٍ ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِنَفَسِهِ الْعَاقِلُ الْمُعْتَدِلُ فِي أَمْرِهِ ، نَعَمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حِكْمَةِ التَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ ، لَا سِيَّمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ بِالْوَاقِعِ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لَمْ يَأْمُرْ إِلَّا بِمَا ظَهَرَتْ فَائِدَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ لِلْمُمْتَثِلِينَ لَهُ مِنْ إِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَحَمْلِهَا عَلَى الْخَيْرِ وَتَوْجِيهِهَا إِلَى الْبِرِّ ، مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِعْلَامَ اللَّهِ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَتَلْقِينَهُ إِيَّاهُمُ الْحُجَّةَ ، وَإِنْزَالَهُمْ مَنْزِلَةَ الشُّهَدَاءِ وَالْمُحَكَّمِينَ ، ثُمَّ تَبْيِينَهُ لَهُمْ حِكْمَةَ التَّحْوِيلِ ، كَانَ مُؤَيِّدًا وَمُسَدِّدًا لَهُمْ ، وَنُورًا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي ظُلْمَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ ، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ هِيَ الْبَلَاغَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا ; إِعْلَامٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنَ اضْطِرَابِ
[ ص: 7 ] السُّفَهَاءِ فِي أَقْوَالِهِمْ ، أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالِاسْتِفْهَامِ مُجْمَلًا ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ وَجْهُ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَا تَسْبِقَ إِلَى النُّفُوسِ ، وَالْغَرَضُ إِقَامَةُ الْمَوَانِعِ مِنْ تَأْثِيرِهَا عِنْدَ وُرُودِهَا مِنْ أَرْبَابِهَا ، وَاخْتِصَارٌ لِلْبُرْهَانِ بِبَيَانِ أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ كَسَائِرِ الْجِهَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى ; أَيْ : يُخَصِّصُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فَيَجْعَلُهُ قِبْلَةً لِمَنْ يَشَاءُ ، وَبَيَانٌ لِمَكَانَةِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ كُلَّ أَصْلٍ دِينِيٍّ بِدَلِيلِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَكُلِّفَتِ الْعَدْلَ وَالِاعْتِدَالَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ; أَيْ : فَلَا يَلِيقُ بِهَا أَنْ تُبَالِيَ بِانْتِقَادِ السُّفَهَاءِ الْمُذَبْذَبِينَ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ .