nindex.php?page=treesubj&link=28974_9965_9966قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا لأنه عبر بلن الدالة على نفي الفعل في المستقبل مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=38قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ 42 \ 25 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=158يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل [ 6 \ 158 ] .
فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب ، وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=86كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله -
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=89إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ 3 \ 86 - 89 ] .
فالاستثناء في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=89إلا الذين تابوا راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا ويدل له أيضا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=217ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر الآية [ 2 \ 217 ] .
لأن مفهومه أنه تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا ، والجواب من أربعة أوجه :
الأول : وهو اختيار
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ونقله عن
رفيع أبي العالية أن المعنى : إن الذين كفروا من
اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90وأولئك هم الضالون لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهما على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر .
[ ص: 237 ] الثاني : وهو أقربها عندي ، أن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90لن تقبل توبتهم يعني إذ تابوا عند حضور الموت ، ويدل لهذا الوجه أمران :
الأول : أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 18 ] .
فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] .
وقوله في فرعون :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=91آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] .
فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول .
والثاني : أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90ثم ازدادوا كفرا فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير هذا الوجه الثاني الذي هو التقييد بحضور الموت عن
الحسن وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=16566وعطاء الخراساني والسدي .
الثالث : أن معنى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90لن تقبل توبتهم أي إيمانهم الأول ، لبطلانه بالردة بعده ، ونقل
خرجه ابن جرير هذا القول عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريح ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن .
الرابع : أن المراد بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90لن تقبل توبتهم أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 137 ] .
فإن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137ولا ليهديهم سبيلا ، يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى .
كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=168إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=169إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] .
[ ص: 238 ] وكقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=96إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 10 \ 96 ] .
ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=48فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=117ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ 23 \ 117 ] .
لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا ، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه .
قال مقيده عفا الله عنه : مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار ، بقولهم السالبة لا تقضي بوجود الموضوع ، وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين ، لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين :
الأولى : أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه ، كقولك : ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه .
والثانية : أن يكون الموضوع من أصله معدوما لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الموجودي ، لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك : لا نظير لله يستحق العبادة ، فإن الموضوع الذي هو النظير ليس مستحيلا من أصله ، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، ومن شواهده قول
امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى على لاحب لا منار له أصلا حتى يهتدى به .
وقول الآخر :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها الأرنب ، أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه ، وقد أوضحت مسألة أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع في أرجوزتي في المنطق في مبحث انحراف السور ، وأوضحت فيها أيضا في مبحث التحصيل والعدول أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو : بحر من زئبق ممكن ، والمستحيل معدوم فإنها موجبتان وموضوع كل منهما معدوم ، وحررنا
[ ص: 239 ] هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه ، وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر ، لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء الأربعة وغيرهم ، وهو مروي عن
علي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس : من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته ، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية ، لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط ، وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق ، ومنه قول
حسان رضي الله عنه :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والمراد به مكان تعليق الحكم ، وهو العلة فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحا إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة ، الذي هو المناسبة والإحالة فإنه يسمى تخريج المناط وكذلك في المسلك التاسع الذي هو تنقيح المناط ، فتخريج المناط هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والإحالة ، وتنقيح المناط هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء صالح لها ولا يدخل شيء غير صالح لها ، كما هو معلوم في محله ، وأما تحقيق المناط وهو الغرض هنا فهو أن يكون مناط الحكم متفقا عليه بين الخصمين .
إلا أن أحدهما يقول هو موجود في هذا الفرع .
والثاني : يقول : لا ومثاله الاختلاف في قطع النباش ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع ، ولكنه يقول لم يتحقق المناط في النباش لأنه غير سارق ، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته ، أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته وأنه ليس تائبا في الباطل توبة نصوحا فهم موافقون على التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا ، ولكن يقولون أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط .
ومن هنا اختلف العلماء في
nindex.php?page=treesubj&link=25008توبة الزنديق أعني المستسر بالكفر ، فمن قائل لا تقبل توبته ومن قائل تقبل ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة ، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة لأن الذين يقولون يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته تقية لا حقيقة واستدلوا بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إلا الذين تابوا وأصلحوا [ 2 160 ] .
[ ص: 240 ] فقالوا : الإصلاح شرط والزنديق لا يطلع على إصلاحه ، لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه ، والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى ، كقوله صلى الله عليه وسلم
لأسامة رضي الله عنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009938هلا شققت عن قلبه ، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009939أليس يصلي ؟ قال : بلى . قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم ، وقوله
لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009940إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس وهذه الأحاديث في الصحيح ويدلك لذلك أيضا إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر ، والله يتولى السرائر .
وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جنة للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 \ 16 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس [ 9 \ 95 ] . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=56ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وما استدل به بعضهم من قتل
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود لابن النواحة صاحب
مسيلمة فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا
لمسيلمة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009941لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك فقتله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم .
فقد روي أنه قتله لذلك فإن قيل هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر ، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد ، والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص .
فالجواب أن القرآن دل على قبول
nindex.php?page=treesubj&link=9966توبة من تكرر منه الكفر ، إذا أخلص في الإنابة إلى الله ، ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 37 ] .
ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=138بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الآية [ 4 \ 138 ] .
ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليون فقد صححتها جماعة من المحققين ، ولا سيما إذا اعتضدت بالأدلة القرينة عليها كما هنا لقوله تعالى :
[ ص: 241 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=138بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية ، بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الله تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=146إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=147ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [ 4 145 - 147 ] .
وقد كان
مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=65ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=66لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .
فتاب إلى الله بإخلاص ، فتاب الله عليه وأنزل الله فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=66إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة الآية [ 9 \ 66 ] ، فتحصل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة ، يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى الله قبلها منه ، لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
nindex.php?page=treesubj&link=28974_9965_9966قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ إِيمَانِهِمُ الْمُزْدَادِينَ كُفْرًا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ إِذَا تَابُوا لِأَنَّهُ عَبَّرَ بِلَنِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ كُلِّ تَائِبٍ قَبْلَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=38قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [ 8 \ 38 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=25وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [ 42 \ 25 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=158يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [ 6 \ 158 ] .
فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ قَبْلَ إِتْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ مَقْبُولَةٌ مِنْ كَلِّ تَائِبٍ ، وَصَرَّحَ تَعَالَى بِدُخُولِ الْمُرْتَدِّينَ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مُبَاشَرَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=86كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ - إِلَى قَوْلِهِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=89إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 3 \ 86 - 89 ] .
فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=89إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا رَاجِعٌ إِلَى الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ وَاللَّعْنَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=217وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ الْآيَةَ [ 2 \ 217 ] .
لِأَنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مُطْلَقًا ، وَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ عَنْ
رُفَيْعٍ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
الْيَهُودِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمَا أَصَابُوا مِنَ الذُّنُوبِ فِي كُفْرِهِمْ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي أَصَابُوهَا فِي كُفْرِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا مِنْ كُفْرِهِمْ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى ارْتِكَابِ الضَّلَالِ وَعَدَمُ قَبُولِهَا حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ .
[ ص: 237 ] الثَّانِي : وَهُوَ أَقْرَبُهَا عِنْدِي ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ يَعْنِي إِذْ تَابُوا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ أَمْرَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ هُوَ الَّذِي يُصِرُّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَيَتُوبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=18وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [ 4 18 ] .
فَجُعِلَ التَّائِبُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ سَوَاءً .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا الْآيَةَ [ 40 \ 85 ] .
وَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=91آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ 10 \ 91 ] .
فَالْإِطْلَاقُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَيَّدُ بِقَيْدِ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ لِوُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَوْبَتِهِمْ فِي وَقْتِ نَفْعِهَا وَنَقَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِي الَّذِي هُوَ التَّقْيِيدُ بِحُضُورِ الْمَوْتِ عَنِ
الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ nindex.php?page=showalam&ids=16566وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالسُّدِّيِّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أَيْ إِيمَانُهُمُ الْأَوَّلُ ، لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ بَعْدَهُ ، وَنَقْلٌ
خَرَّجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جَرِيحٍ وَلَا يَخْفَى ضِعْفُ هَذَا الْقَوْلِ وَبُعْدُهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=90لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَفَّقُوا لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ حَتَّى تُقْبَلَ مِنْهُمْ ، وَيَدُلَّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [ 4 \ 137 ] .
فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ غُفْرَانِهِ لَهُمْ لِعَدَمِ تَوْفِيقِهِمْ لِلتَّوْبَةِ وَالْهُدَى .
كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=168إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=169إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [ 4 \ 168 ] .
[ ص: 238 ] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=96إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 96 ] .
وَنَظِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=48فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [ 74 \ 48 ] ، أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ أَصْلًا حَتَّى تَنْفَعَهُمْ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=117وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ الْآيَةَ [ 23 \ 117 ] .
لِأَنَّ الْإِلَهَ الْآخَرَ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ أَصْلًا ، حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ أَوْ لَا يَقُومَ عَلَيْهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : مِثْلُ هَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النُّظَّارِ ، بِقَوْلِهِمُ السَّالِبَةُ لَا تَقْضِي بِوُجُودِ الْمَوْضُوعِ ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ السَّالِبَةَ عِنْدَهُمْ صَادِقَةٌ فِي صُورَتَيْنِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا عَدَمُ اتِّصَافِ الْمَوْضُوعِ بِالْمَحْمُولِ وَعَدَمُ اتِّصَافِهِ بِهِ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَتَيْنِ :
الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ مَوْجُودًا إِلَّا أَنَّ الْمَحْمُولَ مُنْتَفٍ عَنْهُ ، كَقَوْلِكَ : لَيْسَ الْإِنْسَانُ بِحَجَرٍ ، فَالْإِنْسَانُ مَوْجُودٌ وَالْحَجَرِيَّةُ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ مِنْ أَصْلِهِ مَعْدُومًا لِأَنَّهُ إِذَا عَدِمَ تَحَقَّقَ عَدَمُ اتِّصَافِهِ بِالْمَحْمُولِ الْمَوْجُودِيِّ ، لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَّصِفُ بِالْوُجُودِ كَقَوْلِكَ : لَا نَظِيرَ لِلَّهِ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ ، فَإِنَّ الْمَوْضُوعَ الَّذِي هُوَ النَّظِيرُ لَيْسَ مُسْتَحِيلًا مِنْ أَصْلِهِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمُهُ تَحَقَّقَ انْتِفَاءُ اتِّصَافِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ ضَرُورَةً وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ
امْرِئِ الْقَيْسِ :
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ إِذَا سَافَهُ الْعَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرَا
لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى لَاحِبٍ لَا مَنَارَ لَهُ أَصْلًا حَتَّى يُهْتَدَى بِهِ .
وَقَوْلُ الْآخَرِ :
لَا تُفْزِعُ الْأَرْنَبَ أَهْوَالُهَا وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
لِأَنَّهُ يَصِفُ فَلَاةً بِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا أَرَانِبُ وَلَا ضِبَابٌ حَتَّى تُفْزِعَ أَهْوَالُهَا الْأَرْنَبَ ، أَوْ يَنْجَحِرَ فِيهَا الضَّبُّ أَيْ يَدْخُلُ الْجُحْرَ أَوْ يَتَّخِذُهُ ، وَقَدْ أَوْضَحْتُ مَسْأَلَةَ أَنَّ السَّالِبَةَ لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ فِي أُرْجُوزَتِي فِي الْمَنْطِقِ فِي مَبْحَثِ انْحِرَافِ السُّوَرِ ، وَأَوْضَحْتُ فِيهَا أَيْضًا فِي مَبْحَثِ التَّحْصِيلِ وَالْعُدُولِ أَنَّ مِنَ الْمُوجِبَاتِ مَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ نَحْوَ : بَحْرٌ مِنْ زِئْبَقٍ مُمْكِنٌ ، وَالْمُسْتَحِيلُ مَعْدُومٌ فَإِنَّهَا مُوجِبَتَانِ وَمَوْضُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْدُومٌ ، وَحَرَّرْنَا
[ ص: 239 ] هُنَاكَ التَّفْصِيلَ فِيمَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ وَمَا لَا يَقْتَضِيهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَوْ بَعْدَ تَكَرُّرِ الرِّدَّةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ أَكْثَرَ ، لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ
عَلِيٍّ nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنِ عَبَّاسٍ : مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، لِأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْمَنَاطِ ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْمَنَاطَ مَكَانُ النَّوْطِ وَهُوَ التَّعْلِيقُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
حَسَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وَالْمُرَادُ بِهِ مَكَانُ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ ، وَهُوَ الْعِلَّةُ فَالْمَنَاطُ وَالْعِلَّةُ مُتَرَادِفَانِ اصْطِلَاحًا إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْمَنَاطِ فِي الْمَسْلَكِ الْخَامِسِ مِنْ مَسَالِكَ الْعِلَّةِ ، الَّذِي هُوَ الْمُنَاسَبَةُ وَالْإِحَالَةُ فَإِنَّهُ يُسَمَّى تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْلَكِ التَّاسِعِ الَّذِي هُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ ، فَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْعِلَّةِ بِمَسْلَكِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِحَالَةِ ، وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ هُوَ تَصْفِيَةُ الْعِلَّةِ وَتَهْذِيبُهَا حَتَّى لَا يَخْرُجَ شَيْءٌ صَالِحٌ لَهَا وَلَا يَدْخُلَ شَيْءٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَهَا ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ ، وَأَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَهُوَ الْغَرَضُ هُنَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ .
إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَقُولُ هُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْفَرْعِ .
وَالثَّانِي : يَقُولُ : لَا وَمِثَالُهُ الِاخْتِلَافُ فِي قَطْعِ النَّبَّاشِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ هِيَ مُنَاطُ الْقَطْعِ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَنَاطُ فِي النَّبَّاشِ لِأَنَّهُ غَيْرُ سَارِقٍ ، بَلْ هُوَ آخِذُ مَالٍ عَارِضٍ لِلضَّيَاعِ كَالْمُلْتَقَطِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، فَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الْقَائِلِينَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ ، أَنَّ أَفْعَالَهُ دَالَّةٌ عَلَى خُبْثِ نِيَّتِهِ وَفَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ تَائِبًا فِي الْبَاطِلِ تَوْبَةً نَصُوحًا فَهُمْ مُوَافِقُونَ عَلَى التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مَنَاطِ الْقَبُولَ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ أَفْعَالُ هَذَا الْخَبِيثِ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ .
وَمِنْ هُنَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=25008تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ أَعْنِي الْمُسْتَسِرَّ بِالْكُفْرِ ، فَمِنْ قَائِلٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَمِنْ قَائِلٍ تُقْبَلُ وَمِنْ مُفَرِّقٍ بَيْنَ إِتْيَانِهِ تَائِبًا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى نِفَاقِهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي فُرُوعِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ يُقْتَلُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ يَرَوْنَ أَنَّ نِفَاقَهُ الْبَاطِلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ تَقِيَّةٌ لَا حَقِيقَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=160إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا [ 2 160 ] .
[ ص: 240 ] فَقَالُوا : الْإِصْلَاحُ شَرْطٌ وَالزِّنْدِيقُ لَا يُطَّلَعُ عَلَى إِصْلَاحِهِ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا أَتَى مِمَّا أَسَرَّهُ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَ الْإِقْلَاعَ لَمْ يَزَلْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَدِلَّةَ الْقَائِلِينَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ مُطْلَقًا أَظْهَرُ وَأَقْوَى ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009938هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ، وَقَوْلِهِ لِلَّذِي سَارَّهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009939أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : بَلَى . قَالَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ ، وَقَوْلِهِ
لِخَالِدٍ لَمَّا اسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِ الَّذِي أَنْكَرَ الْقِسْمَةَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009940إِنِّي لِمَ أُومَرْ بِأَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَيَدُلُّكَ لِذَلِكَ أَيْضًا إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ .
وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ جُنَّةٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=63&ayano=2اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [ 58 \ 16 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=95سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ [ 9 \ 95 ] . وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=56وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 56 ] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قَتْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ لِابْنِ النَّوَّاحَةِ صَاحِبِ
مُسَيْلِمَةَ فَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ رَسُولًا
لِمُسَيْلِمَةَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1009941لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ فَقَتَلَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ أَخَصُّ مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّ فِيهَا الْقَيْدَ بِالرِّدَّةِ وَازْدِيَادِ الْكُفْرِ ، فَالَّذِي تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُرْتَدِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَعَمِّ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْأَخَصِّ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَعَمِّ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَخَصِّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى قَبُولِ
nindex.php?page=treesubj&link=9966تَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الْكُفْرُ ، إِذَا أَخْلَصَ فِي الْإِنَابَةِ إِلَى اللَّهِ ، وَوَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [ 4 \ 37 ] .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ دَاخِلُونَ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=138بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الْآيَةَ [ 4 \ 138 ] .
وَدَلَالَةُ الِاقْتِرَانِ وَإِنْ ضَعَّفَهَا الْأُصُولِيُّونَ فَقَدْ صَحَّحَتْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اعْتَضَدَتْ بِالْأَدِلَّةِ الْقَرِينَةُ عَلَيْهَا كَمَا هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
[ ص: 241 ] nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=137لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=138بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى دُخُولِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ ، بَلْ كَوْنُهَا فِي خُصُوصِهِمْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، فَإِذَا حَقَّقَتْ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ التَّوْبَةَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=146إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=147مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [ 4 145 - 147 ] .
وَقَدْ كَانَ
مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=65وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=66لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [ 9 \ 65 - 66 ] .
فَتَابَ إِلَى اللَّهِ بِإِخْلَاصٍ ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=66إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً الْآيَةَ [ 9 \ 66 ] ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ ، يَعْنُونَ الْأَحْكَامَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَلَا يُخَالِفُونَ فِي أَنَّهُ إِذَا أَخْلَصَ التَّوْبَةَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَهَا مِنْهُ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .