(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151nindex.php?page=treesubj&link=28973كما أرسلنا فيكم ) : الكاف هنا للتشبيه ، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف . واختلف في تقديره ، فقيل التقدير : ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل إتمام إرسال الرسول فيكم . ومتعلق الإتمامين مختلف ، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة ، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا . أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى
لإبراهيم في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) ، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) ، وقيل : التقدير : ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولا ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت ، أي اهتداء ثابتا متحققا ، كتحقق إرسالنا وثبوته . وقيل : متعلق بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ، أي جعلا مثل ما أرسلنا ، وهو قول
أبي مسلم ، وهذا بعيد جدا ; لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع . وقيل : الكاف في موضع نصب على الحال من نعمتي ، أي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150ولأتم نعمتي عليكم ) مشبهة إرسالنا فيكم رسولا ، أي مشبهة نعمة الإرسال ، فيكون على حذف مضاف . وقيل : الكاف منقطعة من الكلام قبلها ، ومتعلقة بالكلام بعدها ، والتقدير : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : كما
[ ص: 444 ] ذكرتكم بإرسال الرسول ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب . انتهى . فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف ، أي اذكروني ذكرا مثل ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فائته بكرمك ، وهذا قول
مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل ، وهو اختيار
الأخفش nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج وابن كيسان والأصم ، والمعنى : أنكم كنتم على حالة لا تقرءون كتابا ، ولا تعرفون رسولا ،
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رجل منكم ، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه فقال : " كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلا ، فاذكروني بالشكر ، أذكركم برحمتي " ، ويؤكده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=164لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) . ويحتمل على هذا الوجه ، بل يظهر ، وهو إذا علقت بما بعدها أن ، لا تكون الكاف للتشبيه بل للتعليل ، وهو معنى مقول فيها إنها ترد له ، وحمل على ذلك قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198واذكروه كما هداكم ) ، وقول الشاعر :
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي : واذكروه لهدايته إياكم ، ولا تشتم الناس لكونك لا تشتم ، أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك . وما : في كما ، مصدرية ، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، ورسولا بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولا ، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله ، ومع الكلام الذي بعده ، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل . وكذلك جعل ما كافة ; لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر ; لولايتها الجمل الاسمية ، نحو قول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم
وقول من قال إن : " كما أرسلنا " ، متعلق بما بعده ، قد رده
nindex.php?page=showalam&ids=17141أبو محمد مكي بن أبي طالب ، قال : لأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه ، قال : لو قلت كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك ، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني ، لأن له جوابا ، ولكن تتعلق بشيء آخر أو بمضمر ، وكذلك : " فاذكروني أذكركم " ، هو أمر له جواب ، فلا تتعلق كما به ، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين ، وهو قولك : إذا أتاك فلان فائته ترضه ، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر ، والأول أفصح وأشهر . وتقول : كما أحسنت إليك فأكرمني ، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني ; إذ لا جواب له . انتهى كلامه . ورجح
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها ، وهو : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150ولأتم نعمتي عليكم ) ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم
إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولا منكم يتلو . وما ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي من إبطال أن تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء ; لأن الكاف إما أن تكون للتشبيه أو للتعليل . فإن كانت للتشبيه ، فتكون نعتا لمصدر محذوف ، ويجوز تقدم ذلك المصدر على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني إكراما مثل إكرامي السابق لك أكرمك ، فيجوز تقديم هذا المصدر . وإن كانت للتعليل ، فيجوز أيضا تقدم ذلك على الفعل ، مثال ذلك : أكرمني لإكرامي لك أكرمك ، لا نعلم خلافا في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما ، وتجويز
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته ، كما وفاذكروني جوابين للأمر ، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب ، ولأن ذلك التشبيه فاسد ; لأن المصدر لا يشبه الجواب ، وكذلك التعليل . أما المصدر التشبيهي ، فهو وصف في الفعل المأمور به ،
[ ص: 445 ] فليس مترتبا على وقوع مطلق الفعل ، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف . وعلى هذا لا يشبه الجواب ; لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل . وأما التعليل فكذلك أيضا ليس مترتبا على وقوع الفعل ، بل الفعل مترتب على وجود العلة ، فهو نقيض الجواب ; لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل ، والعلة مترتب عليها وجود الفعل ، فلا تشبيه بينهما ، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله : " فاذكروني " ، هو الفاء ; لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها ، ولولا الفاء لكان التعلق واضحا ، وتبعد زيادة الفاء . فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها ، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام .
وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الإسلام ، بإتمام النعمة السابقة ، بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها ، وجعل ذلك إتماما للنعمة في الحالين ; لأن استقبال الكعبة ثانيا أمر لا يزاد عليه شيء ينسخه ، فهي آخر القبلات المتوجه إليها في الصلاة . كما أن
nindex.php?page=treesubj&link=25027إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - هو آخر إرسالات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إذ لا نبي بعده ، وهو خاتم النبيين . فشبه إتمام تلك النعمة التي هي كمال نعمة استقبال القبل ، بهذا الإتمام الذي هو كمال إرسال الرسل . وفي إتمام هاتين النعمتين عز للعرب ، وشرف واستمالة لقلوبهم ، إذ كان الرسول منهم ، والقبلة التي يستقبلونها في الصلاة بينهم الذي يحجونه قديما وحديثا ويعظمونه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151رسولا منكم ) : فيه اعتناء بالعرب ، إذ كان الإرسال فيهم ، والرسول منهم ، وإن كانت رسالته عامة . وكذلك جاء (
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هو الذي بعث في الأميين ) ، ويشعر هذا الامتنان بأنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك أفرده فقال : ( رسولا منهم ) ، ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم ، وهي كونه منهم ، وتاليا عليهم آيات الله ، ومزكيا لهم ، ومعلما لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون . وقدم كونه منهم ، أي يعرفونه شخصا ونسبا ومولدا ومنشأ ; لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله . وأتى ثانيا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى ; لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه ، الباقية إلى الأبد . وأضاف الآيات إليه تعالى ; لأنها كلامه - سبحانه وتعالى - ومن تلاوته تستفاد العبادات ومجامع الأخلاق الشريفة ، وتنبع العلوم . وأتى ثالثا بصفة التزكية ، وهي التطهير من أنجاس الضلال ; لأن ذلك ناشئ عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق . وأتى رابعا بصفة تعليم الكتاب والحكمة ; لأن ذلك ناشئ عن تطهير الإنسان ، باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى ، وما اقتضته الحكمة الإلهية . وأتى بهذه الصفات فعلا مضارعا ليدل بذلك على التجدد ; لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائما . وأما الصفة الأولى - وهي كونه منهم - فليست بمتجددة ، بل هو وصف ثابت له . وقد تقدم الكلام على هذه الأوصاف في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) بأشبع من هذا ، فلينظر هناك .
وختم هذا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ، وهو ذكر عام بعد خاص ; لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة . وفسر بعضهم ذلك بأن الذي لم يكونوا يعلمون : قصص من سلف ، وقصص ما يأتي من الغيوب . وفي هذه الآية قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء
إبراهيم قدم التعليم على التزكية ; وذلك لاختلاف المراد بالتزكية . فالظاهر أن المراد هنا هو التطهير من الكفر ، كما شرحناه ، وهناك هو الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعليم الشرائع والعمل بها . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فاذكروني أذكركم ) : أي اذكروني بالطاعة ، أذكركم بالثواب والمغفرة ، قاله
ابن جبير ، أو بالدعاء والتسبيح ونحوه ، قاله
الربيع والسدي . وقال
عكرمة : يقول الله : " يا ابن آدم ، اذكرني بعد صلاة الصبح ساعة ، وبعد صلاة العصر ساعة ; وأنا أكفيك ما بينهما ، أو اثنوا علي ، أثن
[ ص: 446 ] عليكم " . وقد جاء هذا المعنى في الحديث الطويل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373864إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر " . وفيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373865ما يقول عبادي ؟ قالوا : " يسبحونك ويحمدونك ويمجدونك " . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي اذكروا نعمتي أذكركم بالزيادة . وقد جاء التصريح بالنعمة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=122اذكروا نعمتي ) . وقيل : الذكر باللسان وبالقلب عند الأوامر والنواهي . وقيل : اذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي . وقيل : بما فرضت عليكم ، أو ندبتكم إليه ; أذكركم ، أي أجازكم على ذلك . وقد تقدم معنى هذا ، وهو قول
سعيد ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب . وقيل : فاذكروني في الرخاء بالطاعة والدعاء ، أذكركم في البلاء بالعطية والنعماء ، قاله
ابن حجر . وقيل : اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال ، أو اذكروني بالتوبة أذكركم بالعفو عن الحوبة ، أو اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، أو اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، أو اذكروني بمحامدي أذكركم بهدايتي ، أو اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص ، أو اذكروني بالموافقات أذكركم بالكرامات ، أو اذكروني بترك كل حظ أذكركم بأن أقيمكم بحقي بعد فنائكم عنكم ، أو اذكروني بقطع العلائق أذكركم بنعت الحقائق ، أو اذكروني لمن لقيتموه أذكركم لكل من خاطبته ، قال : ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، أو اذكروني أذكركم ، أحبوني أحبكم ، أو اذكروني بالتذلل أذكركم بالتفضل ، أو اذكروني بقلوبكم أذكركم بتحقيق مطلوبكم ، أو اذكروني على الباب من حيث الخدمة أذكركم على بساط القرب بإكمال النعمة ، أو اذكروني بتصفية السرد أذكركم بتوفية البر ، أو اذكروني في حال سروركم أذكركم في قبوركم ، أو اذكروني وأنتم بوصف السلامة أذكركم يوم القيامة يوم لا تنفع الندامة ، أو اذكروني بالرهبة بالرغبة . وقال
القشيري : فاذكروني أذكركم ، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر ، فيقال : قد كان فلان . قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=16إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ) . وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثا حسنا لمن وعى ، قال الشاعر :
إنما الدنيا محاسنها طيب ما يبقى من الخبر
وفي المنتخب ما ملخصه : الذكر يكون باللسان ، وهو : الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتب الله ; وبالقلب ، وهو : الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف ، والأحكام ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والفكر في الصفات الإلهية ، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس ، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وبالجوارح ، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها ، خالية عن الأعمال المنهي عنها . وعلى هذا الوجه ، سمى الله الصلاة ذكرا بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=9فاسعوا إلى ذكر الله ) . انتهى . وقالوا : الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له ، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك . ولما كثر إطلاقه عليه ، صار هو السابق إلى الفهم . فالذكر باللسان سري وجهري ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل ، وبهما أيضا دائم ومتحلل . فباللسان ذكر عامة المؤمنين ، وهو أدنى مراتب الذكر ، وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ذكرا " . خرج
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه nindex.php?page=hadith&LINKID=10373866أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله " ، وخرج أيضا قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373867يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه " . وسئل
أبو عثمان ، فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته ، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين ، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -
[ ص: 447 ] ذكرا ، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور : قال الشاعر :
سواك ببالي لا يخطر إذا ما نسيتك من أذكر
وبهما : هو ذكر خواص المؤمنين ، وهذه ثلاث المقامات ، أدومها أفضلها . انتهى .
وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة ، وتركنا أشياء مما ذكره الناس ، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكر ، لا يدل اللفظ على شيء منها ، وينبغي أن يحمل ذلك من المفسرين له على سبيل التمثيل وجواز أن يكون المراد . وأما دلالة اللفظ فهي طلب مطلق الذكر ، والذي يتبادر إليه الذهن هو الذكر اللساني . والذكر اللساني لا يكون ذكر لفظ الجلالة مفردا من غير إسناد ، بل لا بد من إسناد ، وأولاها الأذكار المروية في الآثار ، والمشار إليها في القرآن . وقد جاء الترغيب في ذكر جملة منها ، والوعد على ذكرها بالثواب الجزيل . وتلك الأذكار تتضمن : الثناء على الله ، والحمد له ، والمدح لجلاله ، والتماس الخير من عنده . فعبر عن ذلك بالذكر ، وأمر العبد به ، فكأنه قيل : عظموا الله ، وأثنوا عليه بالألفاظ الدالة على ذلك . وسمي الثواب المترتب على ذلك ذكرا ، فقال : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فاذكروني أذكركم " على سبيل المقابلة ، لما كان نتيجة الذكر وناشئا عنه سماه ذكرا . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152واشكروا لي ) تقدم تفسير الشكر ، وعداه هنا باللام ، وكذلك (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=14أن اشكر لي ولوالديك ) ، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدى بحرف جر ، وتارة تتعدى بنفسها ، كما قال
عمرو بن لجاء التميمي :
هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل
وفي إثبات هذا النوع من الفعل ، وهو أن يكون يتعدى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر ، بحق الوضع ، فيهما خلاف . وقالوا : إذا قلت : شكرت لزيد ، فالتقدير : شكرت لزيد صنيعه ، فجعلوه مما يتعدى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه . ولذلك فسر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري هذا الموضع بقوله : واشكروا لي ما أنعمت به عليكم . وقال
ابن عطية : واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد ، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه : نعمتي وأيادي ، وكذلك إذا قلت : شكرتك ، فالمعنى : شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف ، إذ معنى الشكر : ذكر اليد وذكر مسديها معا ، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف ، انتهى كلامه ، ويحتاج ، كونه يتعدى لواحد بنفسه ، وللآخر بحرف جر ، فتقول : شكرت لزيد صنيعه ، لسماع من العرب ، وحينئذ يصار إليه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152ولا تكفرون ) : وهو من كفر النعمة ، وهو على حذف مضاف ، أي ولا تكفروا نعمتي . ولو كان من الكفر ضد الإيمان ، لكان : ولا تكفروا ، أو ولا تكفروا بي . وهذه النون نون الوقاية ، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفا لتناسب الفواصل . قيل : المعنى واشكروا لي بالطاعة ، ولا تكفرون بالمعصية . وقيل : معنى الشكر هنا : الاعتراف بحق المنعم ، والثناء عليه ، ولذلك قابله بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152ولا تكفرون ) . وهنا ثلاث جمل : جملة الأمر بالذكر ، وجملة الأمر بالشكر ، وجملة النهي عن الكفران . فبدئ أولا بجملة الذكر ; لأنه أريد به الثناء والمدح العام والحمد له تعالى ، وذكر له جواب مترتب عليه . وثنى بجملة الشكر ; لأنه ثناء على شيء خاص ، وقد اندرج تحت الأول ، فهو بمنزلة التوكيد ، فلم يحتج إلى جواب . وختم بجملة النهي ; لأنه لما أمر بالشكر ، لم يكن اللفظ ليدل على عموم الأزمان ، ولا يمكن التكليف باستحضار الشكر في كل زمان ، فقد يذهل الإنسان عن ذلك في كثير من الأوقات . ونهى عن الكفران ; لأن النهي يقتضي الامتناع من المنهي عنه في كل الأزمان ، وذلك ممكن ; لأنه من باب التروك . وقد تقدم لنا الكلام على أنه إذا كان أمر ونهي ، بدئ بالأمر . وذكرنا الحكمة في ذلك في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ) ، فأغنى عن إعادته هنا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151nindex.php?page=treesubj&link=28973كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ ) : الْكَافُ هُنَا لِلتَّشْبِيهِ ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ . وَاخْتُلِفَ فِي تَقْدِيرِهِ ، فَقِيلَ التَّقْدِيرُ : وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ إِتْمَامًا مِثْلَ إِتْمَامِ إِرْسَالِ الرَّسُولِ فِيكُمْ . وَمُتَعَلِّقُ الْإِتْمَامَيْنِ مُخْتَلِفٌ ، فَالْإِتْمَامُ الْأَوَّلُ بِالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْإِتْمَامُ الثَّانِي بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْنَا فِي الدُّنْيَا . أَوِ الْإِتْمَامُ الْأَوَّلُ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْأُولَى
لِإِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=128وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) ، وَالْإِتْمَامُ الثَّانِي بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) ، وَقِيلَ : التَّقْدِيرُ : وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اهْتِدَاءً مِثْلَ إِرْسَالِنَا فِيكُمْ رَسُولًا ، وَيَكُونُ تَشْبِيهُ الْهِدَايَةِ بِالْإِرْسَالِ فِي التَّحَقُّقِ وَالثُّبُوتِ ، أَيِ اهْتِدَاءً ثَابِتًا مُتَحَقِّقًا ، كَتَحَقُّقِ إِرْسَالِنَا وَثُبُوتِهِ . وَقِيلَ : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) ، أَيْ جَعْلًا مِثْلَ مَا أَرْسَلْنَا ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي مُسْلِمٍ ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا ; لِكَثْرَةِ الْفَصْلِ الْمُؤْذِنِ بِالِانْقِطَاعِ . وَقِيلَ : الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ نِعْمَتِي ، أَيْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) مُشَبِّهَةً إِرْسَالَنَا فِيكُمْ رَسُولًا ، أَيْ مُشَبِّهَةً نِعْمَةَ الْإِرْسَالِ ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ . وَقِيلَ : الْكَافُ مُنْقَطِعَةٌ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهَا ، وَمُتَعَلِّقَةٌ بِالْكَلَامِ بَعْدَهَا ، وَالتَّقْدِيرُ : قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : كَمَا
[ ص: 444 ] ذَكَرْتُكُمْ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ ، فَاذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ . انْتَهَى . فَيَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ ، أَيِ اذْكُرُونِي ذِكْرًا مِثْلَ ذِكْرِنَا لَكُمْ بِالْإِرْسَالِ ، ثُمَّ صَارَ مِثْلَ ذِكْرِ إِرْسَالِنَا ، ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ . وَهَذَا كَمَا تَقُولُ : كَمَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَائْتِهِ بِكَرَمِكَ ، وَهَذَا قَوْلُ
مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْأَخْفَشِ nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجِ وَابْنِ كَيْسَانَ وَالْأَصَمِّ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَلَى حَالَةٍ لَا تَقْرَءُونَ كِتَابًا ، وَلَا تَعْرِفُونَ رَسُولًا ،
وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ مِنْكُمْ ، أَتَاكُمْ بِأَعْجَبِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فَقَالَ : " كَمَا أَوْلَيْتُكُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَجَعَلْتُهَا لَكُمْ دَلِيلًا ، فَاذْكُرُونِي بِالشُّكْرِ ، أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي " ، وَيُؤَكِّدُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=164لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) . وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، بَلْ يَظْهَرُ ، وَهُوَ إِذَا عَلِقَتْ بِمَا بَعْدَهَا أَنْ ، لَا تَكُونُ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ ، وَهُوَ مَعْنًى مَقُولٌ فِيهَا إِنَّهَا تُرَدُّ لَهُ ، وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=198وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ) ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ :
لَا تَشْتُمُ النَّاسَ كَمَا لَا تُشْتَمُ
أَيْ : وَاذْكُرُوهُ لِهِدَايَتِهِ إِيَّاكُمْ ، وَلَا تَشْتُمِ النَّاسَ لِكَوْنِكَ لَا تُشْتَمُ ، أَيِ امْتَنِعْ مِنْ شَتْمِ النَّاسِ لِامْتِنَاعِ النَّاسِ مِنْ شَتْمِكَ . وَمَا : فِي كَمَا ، مَصْدَرِيَّةٌ ، وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الَّذِي ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ ، وَرَسُولًا بَدَلٌ مِنْهُ ، وَالتَّقْدِيرُ : كَالَّذِي أَرْسَلْنَاهُ رَسُولًا ، إِذْ يَبْعُدُ تَقْرِيرُ هَذَا التَّقْدِيرِ مَعَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَمَعَ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَفِيهِ وُقُوعُ مَا عَلَى آحَادِ مَنْ يَعْقِلُ . وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَا كَافَّةً ; لِأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَبِكَ مِنْهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا مَصْدَرٌ ; لِوِلَايَتِهَا الْجُمَلَ الِاسْمِيَّةَ ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّ : " كَمَا أَرْسَلْنَا " ، مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ ، قَدْ رَدَّهُ
nindex.php?page=showalam&ids=17141أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ لَهُ جَوَابٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ مَا قَبْلَهُ لِاشْتِغَالِهِ بِجَوَابِهِ ، قَالَ : لَوْ قُلْتُ كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْنِي أُكْرِمْكَ ، لَمْ تَتَعَلَّقِ الْكَافُ مِنْ كَمَا بِأَكْرِمْنِي ، لِأَنَّ لَهُ جَوَابًا ، وَلَكِنْ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ بِمُضْمَرٍ ، وَكَذَلِكَ : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " ، هُوَ أَمْرٌ لَهُ جَوَابٌ ، فَلَا تَتَعَلَّقُ كَمَا بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجَاوَبُ بِجَوَابَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُكَ : إِذَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَائْتِهِ تُرْضِهِ ، فَتَكُونُ كَمَا وَفَاذْكُرُونِي جَوَابَيْنِ لِلْأَمْرِ ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ . وَتَقُولُ : كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْنِي ، يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ الْكَافَ مُتَعَلِّقَةً بِأَكْرِمْنِي ; إِذْ لَا جَوَابَ لَهُ . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَرَجَّحَ
nindex.php?page=showalam&ids=17140مَكِّيٌّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا ، وَهُوَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) ، لِأَنَّ سِيَاقَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى : وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِبَيَانِ مِلَّةِ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ ، كَمَا أَجَبْنَا دَعْوَتَهُ فِيكُمْ ، فَأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو . وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=17140مَكِّيٌّ مِنْ إِبْطَالِ أَنْ تَكُونَ كَمَا مُتَعَلِّقَةً بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْكَافَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلتَّشْبِيهِ أَوْ لِلتَّعْلِيلِ . فَإِنْ كَانَتْ لِلتَّشْبِيهِ ، فَتَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ ، وَيَجُوزُ تَقَدُّمُ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ عَلَى الْفِعْلِ ، مِثَالُ ذَلِكَ : أَكْرِمْنِي إِكْرَامًا مِثْلَ إِكْرَامِي السَّابِقِ لَكَ أُكْرِمُكَ ، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ هَذَا الْمَصْدَرِ . وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ ، فَيَجُوزُ أَيْضًا تَقَدُّمُ ذَلِكَ عَلَى الْفِعْلِ ، مِثَالُ ذَلِكَ : أَكْرِمْنِي لِإِكْرَامِي لَكَ أُكْرِمْكَ ، لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ هَذَا الْمَصْدَرِ وَهَذِهِ الْعِلَّةِ عَلَى الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِيهِمَا ، وَتَجْوِيزُ
nindex.php?page=showalam&ids=17140مَكِّيٍّ ذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ الَّذِي يُجَاوِبُ بِجَوَابَيْنِ وَتَسْمِيَتُهُ ، كَمَا وَفَاذْكُرُونِي جَوَابَيْنِ لِلْأَمْرِ ، لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ كَمَا لَيْسَ بِجَوَابٍ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ فَاسِدٌ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يُشْبِهُ الْجَوَابَ ، وَكَذَلِكَ التَّعْلِيلُ . أَمَّا الْمَصْدَرُ التَّشْبِيهِيُّ ، فَهُوَ وَصْفٌ فِي الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ،
[ ص: 445 ] فَلَيْسَ مُتَرَتَّبًا عَلَى وُقُوعِ مُطْلَقِ الْفِعْلِ ، بَلْ لَا يَقَعُ الْفِعْلُ إِلَّا بِذَلِكَ الْوَصْفِ . وَعَلَى هَذَا لَا يُشْبِهُ الْجَوَابَ ; لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ . وَأَمَّا التَّعْلِيلُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ ، بَلِ الْفِعْلُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ ، فَهُوَ نَقِيضُ الْجَوَابِ ; لِأَنَّ الْجَوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ ، وَالْعِلَّةُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهَا وُجُودُ الْفِعْلِ ، فَلَا تَشْبِيهَ بَيْنِهِمَا ، وَإِنَّمَا يُخْدَشُ عِنْدِي فِي تَعَلُّقِ كَمَا بِقَوْلِهِ : " فَاذْكُرُونِي " ، هُوَ الْفَاءُ ; لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا ، وَلَوْلَا الْفَاءُ لَكَانَ التَّعَلُّقُ وَاضِحًا ، وَتَبْعُدُ زِيَادَةُ الْفَاءِ . فَبِهَذَا يَظْهَرُ تَعَلُّقُ كَمَا بِمَا قَبْلَهَا ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهُ إِتْمَامِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْحَادِثَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ لِاسْتِقْبَالِ قِبْلَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ .
وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ السَّابِقَةِ ، بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ الْمُتَّصِفِ بِكَوْنِهِ مِنْهُمْ إِلَى سَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَهُ تَعَالَى بِهَا ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ فِي الْحَالَيْنِ ; لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ ثَانِيًا أَمْرٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ ، فَهِيَ آخِرُ الْقِبْلَاتِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ . كَمَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25027إِرْسَالَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ آخِرُ إِرْسَالَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ . فَشَبَّهَ إِتْمَامَ تِلْكَ النِّعْمَةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ نِعْمَةِ اسْتِقْبَالِ الْقِبَلِ ، بِهَذَا الْإِتْمَامِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ إِرْسَالِ الرُّسُلِ . وَفِي إِتْمَامِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ عِزُّ لِلْعَرَبِ ، وَشَرَفٌ وَاسْتِمَالَةٌ لِقُلُوبِهِمْ ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ مِنْهُمْ ، وَالْقِبْلَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَهَا فِي الصَّلَاةِ بَيْنَهُمُ الَّذِي يَحُجُّونَهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَيُعَظِّمُونَهُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151رَسُولًا مِنْكُمْ ) : فِيهِ اعْتِنَاءٌ بِالْعَرَبِ ، إِذْ كَانَ الْإِرْسَالُ فِيهِمْ ، وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ رِسَالَتُهُ عَامَّةً . وَكَذَلِكَ جَاءَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=2هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ) ، وَيُشْعِرُ هَذَا الِامْتِنَانُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ أَنْ يُرْسَلَ وَلَا يُبْعَثَ فِي الْعَرَبِ رَسُولٌ غَيْرُ نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ فَقَالَ : ( رَسُولًا مِنْهُمْ ) ، وَوَصَفَهُ بِأَوْصَافٍ كُلُّهَا مُعْجِزٌ لَهُمْ ، وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ ، وَتَالِيًا عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ ، وَمُعَلِّمًا لَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَمَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ . وَقَدَّمَ كَوْنَهُ مِنْهُمْ ، أَيْ يَعْرِفُونَهُ شَخْصًا وَنَسَبًا وَمَوْلِدًا وَمَنْشَأً ; لِأَنَّ مَعْرِفَةَ ذَاتِ الشَّخْصِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَصْدُرُ مِنْ أَفْعَالِهِ . وَأَتَى ثَانِيًا بِصِفَةِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ، الْبَاقِيَةُ إِلَى الْأَبَدِ . وَأَضَافَ الْآيَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهَا كَلَامُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَمِنْ تِلَاوَتِهِ تُسْتَفَادُ الْعِبَادَاتُ وَمَجَامِعُ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ ، وَتَنْبُعُ الْعُلُومُ . وَأَتَى ثَالِثًا بِصِفَةِ التَّزْكِيَةِ ، وَهِيَ التَّطْهِيرُ مِنْ أَنْجَاسِ الضَّلَالِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى تَوْفِيقَهُ وَقَبُولَهُ لِلْحَقِّ . وَأَتَى رَابِعًا بِصِفَةِ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ تَطْهِيرِ الْإِنْسَانِ ، بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَيُعَلِّمُهُ إِذْ ذَاكَ وَيُفْهِمُهُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ . وَأَتَى بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِعْلًا مُضَارِعًا لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى التَّجَدُّدِ ; لِأَنَّ التِّلَاوَةَ وَالتَّزْكِيَةَ وَالتَّعْلِيمَ تَتَجَدَّدُ دَائِمًا . وَأَمَّا الصِّفَةُ الْأَوْلَى - وَهِيَ كَوْنُهُ مِنْهُمْ - فَلَيْسَتْ بِمُتَجَدِّدَةٍ ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ ثَابِتٌ لَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ .
وَخَتَمَ هَذَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ، وَهُوَ ذِكْرُ عَامٍّ بَعْدَ خَاصٍّ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا الْحِكْمَةَ . وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ : قَصَصُ مَنْ سَلَفَ ، وَقَصَصُ مَا يَأْتِي مِنَ الْغُيُوبِ . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدَّمَ التَّزْكِيَةَ عَلَى التَّعْلِيمِ ، وَفِي دُعَاءِ
إِبْرَاهِيمَ قَدَّمَ التَّعْلِيمَ عَلَى التَّزْكِيَةِ ; وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُرَادِ بِالتَّزْكِيَةِ . فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هُوَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْكُفْرِ ، كَمَا شَرَحْنَاهُ ، وَهُنَاكَ هُوَ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُمْ خِيَارٌ أَزْكِيَاءُ ، وَذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَعْلِيمِ الشَّرَائِعِ وَالْعَمَلِ بِهَا . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) : أَيِ اذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ ، أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ وَالْمَغْفِرَةِ ، قَالَهُ
ابْنُ جُبَيْرٍ ، أَوْ بِالدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ ، قَالَهُ
الرَّبِيعُ وَالسُّدِّيُّ . وَقَالَ
عِكْرِمَةُ : يَقُولُ اللَّهُ : " يَا ابْنَ آدَمَ ، اذْكُرْنِي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ سَاعَةً ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ سَاعَةً ; وَأَنَا أَكْفِيكَ مَا بَيْنَهُمَا ، أَوِ اثْنُوا عَلَيَّ ، أُثْنِ
[ ص: 446 ] عَلَيْكُمْ " . وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373864إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ " . وَفِيهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373865مَا يَقُولُ عِبَادِي ؟ قَالُوا : " يُسَبِّحُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ " . وَقِيلَ : هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أَيِ اذْكُرُوا نِعْمَتِي أَذْكُرْكُمْ بِالزِّيَادَةِ . وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِالنِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=122اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) . وَقِيلَ : الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ عِنْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي . وَقِيلَ : اذْكُرُونِي بِتَوْحِيدِي وَتَصْدِيقِ نَبِيِّي . وَقِيلَ : بِمَا فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ ، أَوْ نَدَبْتُكُمْ إِلَيْهِ ; أَذْكُرْكُمْ ، أَيْ أُجَازِكُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُ
سَعِيدٍ ، فَاذْكُرُونِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالثَّوَابِ . وَقِيلَ : فَاذْكُرُونِي فِي الرَّخَاءِ بِالطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ ، أَذْكُرْكُمْ فِي الْبَلَاءِ بِالْعَطِيَّةِ وَالنَّعْمَاءِ ، قَالَهُ
ابْنُ حَجَرٍ . وَقِيلَ : اذْكُرُونِي بِالسُّؤَالِ أَذْكُرْكُمْ بِالنَّوَالِ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالتَّوْبَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْعَفْوِ عَنِ الْحَوْبَةِ ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي الدُّنْيَا أَذْكُرْكُمْ فِي الْآخِرَةِ ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي الْخَلَوَاتِ أَذْكُرْكُمْ فِي الْفَلَوَاتِ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِمَحَامِدِي أَذْكُرْكُمْ بِهِدَايَتِي ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ أَذْكُرْكُمْ بِالْخَلَاصِ وَمَزِيدِ الِاخْتِصَاصِ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالْمُوَافَقَاتِ أَذْكُرْكُمْ بِالْكَرَامَاتِ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِتَرْكِ كُلِّ حَظٍّ أَذْكُرْكُمْ بِأَنْ أُقِيمَكُمْ بِحَقِّي بَعْدَ فَنَائِكُمْ عَنْكُمْ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِقَطْعِ الْعَلَائِقِ أَذْكُرْكُمْ بِنَعْتِ الْحَقَائِقِ ، أَوِ اذْكُرُونِي لِمَنْ لَقِيتُمُوهُ أَذْكُرْكُمْ لِكُلِّ مَنْ خَاطَبْتُهُ ، قَالَ : وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ ، أَوِ اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، أَحِبُّونِي أُحِبُّكُمْ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالتَّذَلُّلِ أَذْكُرْكُمْ بِالتَّفَضُّلِ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِقُلُوبِكُمْ أَذْكُرْكُمْ بِتَحْقِيقِ مَطْلُوبِكُمْ ، أَوِ اذْكُرُونِي عَلَى الْبَابِ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ أَذْكُرْكُمْ عَلَى بِسَاطِ الْقُرْبِ بِإِكْمَالِ النِّعْمَةِ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِتَصْفِيَةِ السَّرْدِ أَذْكُرْكُمْ بِتَوْفِيَةِ الْبِرِّ ، أَوِ اذْكُرُونِي فِي حَالِ سُرُورِكُمْ أَذْكُرْكُمْ فِي قُبُورِكُمْ ، أَوِ اذْكُرُونِي وَأَنْتُمْ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ أَذْكُرْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَةُ ، أَوِ اذْكُرُونِي بِالرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ . وَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، الذِّكْرُ اسْتِغْرَاقُ الذَّاكِرِ فِي شُهُودِ الْمَذْكُورِ ، ثُمَّ اسْتِهْلَاكُهُ فِي وُجُودِ الْمَذْكُورِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا أَثَرٌ يُذْكَرُ ، فَيُقَالُ : قَدْ كَانَ فُلَانٌ . قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=16إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ) . وَإِنَّمَا الدُّنْيَا حَدِيثٌ حَسَنٌ فَكُنْ حَدِيثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى ، قَالَ الشَّاعِرُ :
إِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَاسِنُهَا طَيِّبُ مَا يَبْقَى مِنَ الْخَبَرِ
وَفِي الْمُنْتَخَبِ مَا مُلَخَّصُهُ : الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ ، وَهُوَ : الْحَمْدُ ، وَالتَّسْبِيحُ ، وَالتَّمْجِيدُ ، وَقِرَاءَةُ كُتُبِ اللَّهِ ; وَبِالْقَلْبِ ، وَهُوَ : الْفِكْرُ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّكَالِيفِ ، وَالْأَحْكَامِ ، وَالْأَمْرِ ، وَالنَّهْيِ ، وَالْوَعْدِ ، وَالْوَعِيدِ ، وَالْفِكْرِ فِي الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَالْفِكْرِ فِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَصِيرَ كُلُّ ذَرَّةٍ كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ الْمُحَاذِيَةِ لِعَالَمِ التَّقْدِيسِ ، فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا انْعَكَسَ شُعَاعُ بَصَرِهِ مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْجَلَالِ ، وَبِالْجَوَارِحِ ، بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، خَالِيَةً عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، سَمَّى اللَّهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=62&ayano=9فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) . انْتَهَى . وَقَالُوا : الذِّكْرُ هُوَ تَنْبِيهُ الْقَلْبِ لِلْمَذْكُورِ وَالتَّيَقُّظُ لَهُ ، وَأُطْلِقَ عَلَى اللِّسَانِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ . وَلَمَّا كَثُرَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ ، صَارَ هُوَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ . فَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ سِرِّيٌّ وَجَهْرِيٌّ ، وَالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ دَائِمٌ وَمُتَحَلِّلٌ ، وَبِهِمَا أَيْضًا دَائِمٌ وَمُتَحَلِّلٌ . فَبِاللِّسَانِ ذِكْرُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الذِّكْرِ ، وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ذِكْرًا " . خَرَّجَ
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابْنُ مَاجَهْ nindex.php?page=hadith&LINKID=10373866أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ ، فَأَنْبِئْنِي مِنْهَا بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ ، قَالَ : " لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ " ، وَخَرَّجَ أَيْضًا قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373867يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ " . وَسُئِلَ
أَبُو عُثْمَانَ ، فَقِيلَ لَهُ : نَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا نَجِدُ فِي قُلُوبِنَا حَلَاوَةً ، فَقَالَ : احْمَدُوا اللَّهَ عَلَى أَنْ زَيَّنَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِكُمْ بِطَاعَتِهِ ، وَبِالْقَلْبِ هُوَ ذِكْرُ الْعَارِفِينَ وَخَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
[ ص: 447 ] ذِكْرًا ، وَمَعْنَاهُ اسْتِقْرَارُ الذِّكْرِ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْطُرَ فِيهِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ : قَالَ الشَّاعِرُ :
سِوَاكَ بِبَالِي لَا يَخْطُرُ إِذَا مَا نَسِيتُكَ مَنْ أَذْكُرُ
وَبِهِمَا : هُوَ ذِكْرُ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهَذِهِ ثَلَاثُ الْمَقَامَاتِ ، أَدْوَمُهَا أَفْضَلُهَا . انْتَهَى .
وَقَدْ طَالَ بِنَا الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، وَتَرَكْنَا أَشْيَاءَ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّاسُ ، وَهَذِهِ التَّقْيِيدَاتُ وَالتَّفْسِيرَاتُ الَّتِي فُسِّرَ بِهَا الذِّكْرُ ، لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ . وَأَمَّا دَلَالَةُ اللَّفْظِ فَهِيَ طَلَبُ مُطْلَقِ الذِّكْرِ ، وَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَيْهِ الذِّهْنُ هُوَ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ . وَالذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ لَا يَكُونُ ذِكْرَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ مُفْرَدًا مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِسْنَادٍ ، وَأَوْلَاهَا الْأَذْكَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْآثَارِ ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ . وَقَدْ جَاءَ التَّرْغِيبُ فِي ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْهَا ، وَالْوَعْدُ عَلَى ذِكْرِهَا بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ . وَتِلْكَ الْأَذْكَارُ تَتَضَمَّنُ : الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ ، وَالْحَمْدَ لَهُ ، وَالْمَدْحَ لِجَلَالِهِ ، وَالْتِمَاسَ الْخَيْرِ مِنْ عِنْدِهِ . فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالذِّكْرِ ، وَأَمَرَ الْعَبْدَ بِهِ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ : عَظِّمُوا اللَّهَ ، وَأَثْنُوا عَلَيْهِ بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ . وَسُمِّيَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرًا ، فَقَالَ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ ، لَمَّا كَانَ نَتِيجَةَ الذِّكْرِ وَنَاشِئًا عَنْهُ سَمَّاهُ ذِكْرًا . (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152وَاشْكُرُوا لِي ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشُّكْرِ ، وَعَدَّاهُ هُنَا بِاللَّامِ ، وَكَذَلِكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=14أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) ، وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي ذُكِرَ أَنَّهَا تَارَةً تَتَعَدَّى بِحَرْفِ جَرٍّ ، وَتَارَةً تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا ، كَمَا قَالَ
عَمْرُو بْنُ لَجَاءٍ التَّمِيمِيُّ :
هُمْ جَمَعُوا بُؤْسِي وَنُعْمِي عَلَيْكُمْ فَهَلَّا شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَابِلْ
وَفِي إِثْبَاتِ هَذَا النَّوْعِ مِنِ الْفِعْلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَتَعَدَّى تَارَةً بِنَفْسِهِ ، وَتَارَةً بِحَرْفِ جَرٍّ ، بِحَقِّ الْوَضْعِ ، فِيهِمَا خِلَافٌ . وَقَالُوا : إِذَا قُلْتَ : شَكَرْتُ لِزَيْدٍ ، فَالتَّقْدِيرُ : شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ ، فَجَعَلُوهُ مِمَّا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِحَرْفِ جَرٍّ وَلِآخَرَ بِنَفْسِهِ . وَلِذَلِكَ فَسَّرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ هَذَا الْمَوْضِعَ بِقَوْلِهِ : وَاشْكُرُوا لِي مَا أَنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْكُمْ . وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَاشْكُرُوا لِي ، وَاشْكُرُونِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ ، وَلِي أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ مَعَ الشُّكْرِ وَمَعْنَاهُ : نِعْمَتِي وَأَيَادِيَّ ، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ : شَكَرْتُكَ ، فَالْمَعْنَى : شَكَرْتُ لَكَ صَنِيعَكَ وَذَكَرْتُهُ ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ ، إِذْ مَعْنَى الشُّكْرِ : ذِكْرُ الْيَدِ وَذِكْرُ مُسْدِيهَا مَعًا ، فَمَا حُذِفَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ اخْتِصَارٌ لِدَلَالَةِ مَا بَقِيَ عَلَى مَا حُذِفَ ، انْتَهَى كَلَامُهُ ، وَيَحْتَاجُ ، كَوْنُهُ يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ ، وَلِلْآخَرِ بِحَرْفِ جَرٍّ ، فَتَقُولُ : شَكَرْتُ لِزَيْدٍ صَنِيعَهُ ، لِسَمَاعٍ مِنَ الْعَرَبِ ، وَحِينَئِذٍ يُصَارُ إِلَيْهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152وَلَا تَكْفُرُونِ ) : وَهُوَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أَيْ وَلَا تَكْفُرُوا نِعْمَتِي . وَلَوْ كَانَ مِنَ الْكُفْرِ ضِدِّ الْإِيمَانِ ، لَكَانَ : وَلَا تَكْفُرُوا ، أَوْ وَلَا تَكْفُرُوا بِي . وَهَذِهِ النُّونُ نُونُ الْوِقَايَةِ ، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَهَا تَخْفِيفًا لِتَنَاسُبَ الْفَوَاصِلِ . قِيلَ : الْمَعْنَى وَاشْكُرُوا لِي بِالطَّاعَةِ ، وَلَا تَكْفُرُونِ بِالْمَعْصِيَةِ . وَقِيلَ : مَعْنَى الشُّكْرِ هُنَا : الِاعْتِرَافُ بِحَقِّ الْمُنْعِمِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=152وَلَا تَكْفُرُونِ ) . وَهُنَا ثَلَاثُ جُمَلٍ : جُمْلَةُ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ ، وَجُمْلَةُ النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرَانِ . فَبُدِئَ أَوَّلًا بِجُمْلَةِ الذِّكْرِ ; لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الثَّنَاءُ وَالْمَدْحُ الْعَامُّ وَالْحَمْدُ لَهُ تَعَالَى ، وَذُكِرَ لَهُ جَوَابٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ . وَثَنَّى بِجُمْلَةِ الشُّكْرِ ; لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ عَلَى شَيْءٍ خَاصٍّ ، وَقَدِ انْدَرَجَ تَحْتَ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى جَوَابٍ . وَخَتَمَ بِجُمْلَةِ النَّهْيِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالشُّكْرِ ، لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ لِيَدُلَّ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمَانِ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّكْلِيفُ بِاسْتِحْضَارِ الشُّكْرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، فَقَدْ يُذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ . وَنَهَى عَنِ الْكُفْرَانِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التُّرُوكِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ ، بُدِئَ بِالْأَمْرِ . وَذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=41وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .