nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165nindex.php?page=treesubj&link=28977_30340_29485وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم
يظهر أن هذا دليل على إمكان البعث ، وعلى وقوعه ، لأن الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبقها ، فعمروا الأرض جيلا بعد جيل ، لا يعجزه أن يحشرها جميعا بعد انقضاء عالم حياتهم الأولى ، ثم إن الذي دبر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظالمون فائزين بما جنوا ، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظالمين فكيف يترك إثابة المحسنين ، وقد أشار إلى الشق الأول قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ، وأشار إلى الشق الثاني قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ، ولذلك أعقبه بتذييله : إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم .
فالخطاب موجه إلى المشركين الذين أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن يقول لهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164أغير الله أبغي ربا ; وذلك يذكر بأنهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك .
[ ص: 210 ] فموقع هذه عقب قوله : " ثم إلى ربكم مرجعكم " تذكير بالنعمة بعد الإنذار بسلبها ، وتحريض على تدارك ما فات ، وهو يفتح أعينهم للنظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها .
ويجوز أن يكون الخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - والأمة الإسلامية ، وتكون الإضافة على معنى اللام ، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكت الأرض فأنتم خلائف للأرض ، فتكون بشارة الأمة بأنها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض . والمراد : الأمم ذوات الشرائع الإلهية وأيا ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنته لاستدعاء الشكر والتحذير من الكفر .
والخلائف : جمع خليفة ، والخليفة : اسم لما يخلف به الشيء ، أي يجعل خلفا عنه ، أي عوضه ، يقال : خليفة وخلفة ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وظهرت فيه التاء لأنهم لما صيروه اسما قطعوه عن موصوفه .
وإضافته إلى الأرض على معنى " في " على الوجه الأول ، وهو كون الخطاب للمشركين ، أي خلائف فيها ، أي خلف بكم أمما مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرسل في مخاطبة أقوامهم : "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=69واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " ، "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=74واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد " ، "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=129عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " . والإضافة على معنى اللام على الوجه الثاني وهو كون الخطاب للمسلمين .
وفي هذا أيضا تذكير بنعمة تتضمن عبرة وموعظة : وذلك أنه لما جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم ، فهذه نعمة ، لأنه لو قدر بقاء الأمم التي قبلهم لما وجد هؤلاء .
[ ص: 211 ] وعطف قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165ورفع بعضكم فوق بعض درجات يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165جعلكم خلائف الأرض فهو أيضا عبرة وعظة ، لعدم الاغترار بالقوة والرفعة ، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النعمة والسعي في زيادة الفضل لمن قصر عنها والرفق بالضعيف وإنصاف المظلوم .
ولذلك عقبه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165ليبلوكم في ما آتاكم أي ليخبركم فيما أنعم به عليكم من درجات النعم حتى يظهر للناس كيف يضع أهل النعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبر عنها بالدرجات .
والدرجات مستعارة لتفاوت النعم . وهي استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه .
والإيتاء مستعار لتكوين الرفعة في أربابها تشبيها للتكوين بإعطاء المعطي شيئا لغيره .
والبلو : الاختبار ، وقد تقدم عند قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع . والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنفع بمواهب الله وما يسره لها من الملائمات والمساعدات ، فالله يعلم مراتب الناس ، ولكن ذلك بلوى لأنها لا تظهر للعيان إلا بعد العمل ، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات ، فهذا موقع لام التعليل ، وقريب منه قول
إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها
وجملة : إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم تذييل للكلام وإيذان بأن المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة سريع العقاب وصفة الغفور ليناسب جميع ما حوته هذه السورة .
[ ص: 212 ] واستعيرت السرعة لعدم التردد ولتمام المقدرة على العقاب ، لأن شأن المتردد أو العاجز أن يتريث وأن يخشى غائلة المعاقب ، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب ، وليس المراد سريعه من الآن حتى يؤول بمعنى : كل آت قريب ، إذ لا موقع له هنا .
ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف سريع العقاب على مؤكد واحد ، وتعزيز وصف الغفور الرحيم بمؤكدات ثلاثة وهي إن ، ولام الابتداء ، والتوكيد اللفظي ; لأن الرحيم يؤكد معنى الغفور : ليطمئن أهل العمل الصالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليستدعي أهل الإعراض والصدوف ، إلى الإقلاع عما هم فيه .
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165nindex.php?page=treesubj&link=28977_30340_29485وَهْوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ ، وَعَلَى وُقُوعِهِ ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْيَالِ خَلَائِفَ لِمَا سَبَقَهَا ، فَعَمَرُوا الْأَرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ ، لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَحْشُرَهَا جَمِيعًا بَعْدَ انْقِضَاءِ عَالَمِ حَيَاتِهِمُ الْأُولَى ، ثُمَّ إِنَّ الَّذِي دَبَّرَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بَيْنَهُمْ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا صَنَعُوا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى لِئَلَّا يَذْهَبَ الْمُعْتَدُونَ وَالظَّالِمُونَ فَائِزِينَ بِمَا جَنَوْا ، وَإِذَا كَانَ يُقِيمُ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِينَ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ، وَأَشَارَ إِلَى الشَّقِّ الثَّانِي قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِتَذْيِيلِهِ : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ; وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ .
[ ص: 210 ] فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ : " ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ " تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِسَلْبِهَا ، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ ، وَهُوَ يَفْتَحُ أَعْيُنَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَانْقِرَاضِهَا وَبَقَائِهَا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَتَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ ، أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الْأَرْضَ فَأَنْتُمْ خَلَائِفُ لِلْأَرْضِ ، فَتَكُونُ بِشَارَةُ الْأُمَّةِ بِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ الْمَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الْأَرْضِ . وَالْمُرَادُ : الْأُمَمُ ذَوَاتُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ .
وَالْخَلَائِفُ : جَمْعُ خَلِيفَةٍ ، وَالْخَلِيفَةُ : اسْمٌ لِمَا يُخْلَفُ بِهِ الشَّيْءُ ، أَيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ ، أَيْ عِوَضَهُ ، يُقَالُ : خَلِيفَةٌ وَخِلْفَةٌ ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَظَهَرَتْ فِيهِ التَّاءُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ .
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى " فِي " عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ ، أَيْ خَلَائِفَ فِيهَا ، أَيْ خَلَفَ بِكُمْ أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ فِي مُخَاطَبَةِ أَقْوَامِهِمْ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=69وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ " ، "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=74وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ " ، "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=129عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " . وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَفِي هَذَا أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً : وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أَنْشَأَهُمْ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى حِينِ أَعْدَمَ غَيْرَهُمْ ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقَاءَ الْأُمَمِ الَّتِي قَبْلَهُمْ لَمَا وُجِدَ هَؤُلَاءِ .
[ ص: 211 ] وَعَطْفُ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَيْضًا عِبْرَةً وَعِظَةً ، لِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ وَالرِّفْعَةِ ، وَلِجَعْلِ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالسَّعْيِ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لِمَنْ قَصَّرَ عَنْهَا وَالرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ .
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ أَيْ لِيُخْبِرَكُمْ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ دَرَجَاتِ النِّعَمِ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أَهْلَ النِّعْمَةِ أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدَّرَجَاتِ .
وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِتَفَاوُتِ النِّعَمِ . وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ .
وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ فِي أَرْبَابِهَا تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإِعْطَاءِ الْمُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ .
وَالْبَلْوُ : الِاخْتِبَارُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=155وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ . وَالْمُرَادُ بِهِ ظُهُورُ مَوَازِينِ الْعُقُولِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ بِمَوَاهِبِ اللَّهِ وَمَا يَسَّرَهُ لَهَا مِنَ الْمُلَائَمَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَرَاتِبَ النَّاسِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ بَلْوَى لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ ، أَيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْمُقَدَّرَاتِ ، فَهَذَا مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ
إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ :
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
وَجُمْلَةُ : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَالِامْتِثَالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعِ الْعِقَابِ وَصِفَةِ الْغَفُورِ لِيُنَاسِبَ جَمِيعَ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ .
[ ص: 212 ] وَاسْتُعِيرَتِ السُّرْعَةُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ وَلِتَمَامِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْعِقَابِ ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْعَاجِزِ أَنْ يَتَرَيَّثَ وَأَنْ يَخْشَى غَائِلَةَ الْمُعَاقَبِ ، فَالْمُرَادُ سَرِيعُ الْعِقَابِ فِي يَوْمِ الْعِقَابِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَرِيعَهُ مِنَ الْآنِ حَتَّى يُؤَوَّلَ بِمَعْنَى : كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ ، إِذْ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا .
وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ سَرِيعِ الْعِقَابِ عَلَى مُؤَكَّدٍ وَاحِدٍ ، وَتَعْزِيزِ وَصْفِ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ إِنَّ ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ ، وَالتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ ; لِأَنَّ الرَّحِيمَ يُؤَكِّدُ مَعْنَى الْغَفُورِ : لِيُطَمْئِنَ أَهْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَلِيَسْتَدْعِيَ أَهْلَ الْإِعْرَاضِ وَالصُّدُوفِ ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ .