nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286nindex.php?page=treesubj&link=28973_29468_30531_28642لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت الأظهر أنه من كلام الله تعالى ، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين ، فيكون اعتراضا بين الجمل المحكية بالقول ، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان ، والتسليم ، والطاعة ، فأعلمهم الله بأنه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة ، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة ، أو التي ألهموها : وهي
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286ما لا طاقة لنا به قبل أن يحكي دعواتهم تلك .
ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين ، كأنه تعليل لقولهم
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=285سمعنا وأطعنا ، أي : علمنا تأويل قول ربنا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه بأنه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع ، مما أبدي وما أخفي ، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختيارا ، أو يعقد عليه القلب ويطمئن به ، إلا أن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت إلخ ، يبعد هذا ، إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك .
[ ص: 135 ] فعلى أنه من كلام الله فهو نسخ لقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وهذا مروي في صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341371لما نزلت nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا لا نطيقها ، فقال النبيء : قولوا : سمعنا وأطعنا وسلمنا ، فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدمين ، والمراد البيان والتخصيص ؛ لأن الذي تطمئن له النفس : أن هذه الآيات متتابعة النظم ، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجمة ، فحدث بين فترة نزولها ما ظنه بعض المسلمين حرجا .
و " الوسع " في القرآن بضم الواو ، وهو في كلام العرب مثلث الواو ، وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول ، والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع .
وهذا دليل على عدم وقوع
nindex.php?page=treesubj&link=20716التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم ( نفسا ) في سياق النفي ، لأن الله تعالى ما شرع التكليف إلا للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، وهذا حكم عام في الشرائع كلها .
وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولذلك كان من قواعد الفقه العامة : المشقة تجلب التيسير ، وكانت المشقة مظنة الرخصة ، وضبط المشاق المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمى ( مقاصد الشريعة ) وما ورد من التكاليف الشاقة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثبات للعشرة من المشركين في أول الإسلام وقلة المسلمين .
وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة
nindex.php?page=treesubj&link=28077التكليف بالمحال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنت بها كتب
الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافا
[ ص: 136 ] شهيرا دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم ، فقالت
الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأن ما يصدر منه تعالى كله عدل لأنه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنه تعالى يخلق ما يشاء وعلى قاعدتهم في أن ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة وترتب الإثم لأن لله تعالى إثابة العاصي ، وتعذيب المطيع ، فبالأولى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل أو متعذر ، واستدلوا على ذلك بحديث تكليف المصور بنفخ الروح في الصورة وما هو بنافخ ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل ، ولا دليل فيه لأن هذا في أمور الآخرة ، ولأنهما خبرا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين . وقالت
المعتزلة : يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنه يجب لله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه ، وقاعدتهم في أنه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال ، وقاعدتهم في أن ثمرة التكليف هو الامتثال ، وإلا لصار عبثا وهو مستحيل على الله ، وأن الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي .
واستدلوا بهذه الآية وبالآيات الدالة على أصولها ، مثل
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49ولا يظلم ربك أحدا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28قل إن الله لا يأمر بالفحشاء إلخ .
والتحقيق أن الذي جر إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد ، فإن
الأشعري لما نفى قدرة العبد ، وقال بالكسب ، وفسره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدور دون أن تكون قدرته مؤثرة فيه ، ألزمهم
المعتزلة القول بأن الله كلف العباد بما ليس في مقدورهم ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، فالتزم
الأشعري ذلك ، وخالف إمام الحرمين
nindex.php?page=showalam&ids=14847والغزالي والأشعري في جواز تكليف ما لا يطاق ، والآية لا تنهض حجة على كلام الفريقين في حكم إمكان ذلك .
ثم اختلف المجوزون : هل هو واقع ، وقد حكى
القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين في البرهان : والتكاليف كلها عند
الأشعري من التكليف بما لا يطاق ؛ لأن المأمورات كلها متعلقة بأفعال هي عند
الأشعري غير مقدورة للمكلف ، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها ، وإنما
[ ص: 137 ] يقدره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات .
وما ألزمه
nindex.php?page=showalam&ids=12441إمام الحرمين الأشعري إلزام باطل ؛ لأن المراد بما لا يطاق ما لا تتعلق به قدرة العبد الظاهرة ، المعبر عنها بالكسب ، للفرق البين بين الأحوال الظاهرة ، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر ، وكذلك لا معنى لإدخال ما علم الله عدم وقوعه ، كأمر
أبي جهل بالإيمان مع علم الله بأنه لا يؤمن ، في مسألة التكليف بما لا يطاق ، أو بالمحال ، لأن علم الله ذلك لم يطلع عليه أحد ، وأورد عليه أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - دعا
أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنه لا يسلم لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=3سيصلى نارا ذات لهب فقد يقال : إنه بعد نزول هذه الآية لم يخاطب بطلب الإيمان وإنما خوطب قبل ذلك وبذلك نسلم من أن نقول : إنه خارج عن الدعوة ومن أن نقول : إنه مخاطب بعد نزول الآية .
وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة ، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقدرهم ، دون ما هو بحسب سر القدر والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة ، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت حال من " نفسا " لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس : وهو أنه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشر كان ضره عليها ، وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة ( اللام ) مرة وبواسطة ( على ) أخرى ، وأما ( كسبت واكتسبت ) فبمعنى واحد في كلام العرب ، لأن المطاوعة في ( اكتسب ) ليست على بابها ، وإنما عبر هنا مرة بـ ( كسب ) وأخرى بـ ( اكتسب ) تفننا وكراهية إعادة الكلمة بعينها ، كما فعل
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة في قوله :
ومطعم الصيد هبال لبغيته ألفى أباه بذاك الكسب مكتسبا
وقول
النابغة :
فحملت برة واحتملت فجار
وابتدئ أولا بالمشهور الكثير ، ثم أعيد بمطاوعه ، وقد تكون في اختيار الفعل الذي أصله دال على المطاوعة ، إشارة إلى أن الشرور يأمر بها الشيطان ، فتأتمر
[ ص: 138 ] النفس وتطاوعه وذلك تبغيض من الله للناس في الذنوب ، واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات ، إشارة إلى أن الله يسوق إليها الناس بالفطرة ، ووقع في الكشاف أن فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال ، وكان الشر مشتهى للنفس ، فهي تجد في تحصيله ، فعبر عن فعلها ذلك بالاكتساب .
والمراد بـ ( ما اكتسبت ) الشرور ، فمن أجل ذلك ظن بعض المفسرين أن الكسب هو اجتناء الخير ، والاكتساب هو اجتناء الشر ، وهو خلاف التحقيق ; ففي القرآن
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164ولا تكسب كل نفس إلا عليها -
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=52ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون - وقد قيل : إن ( اكتسب ) إذا اجتمع مع ( كسب ) خص بالعمل الذي فيه تكلف ، لكن لم يرد التعبير بـ ( اكتسب ) في جانب فعل الخير .
وفي هذه الآية مأخذ حسن
nindex.php?page=showalam&ids=13711لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتسابا ; فإن الله وصف نفسه بالقدرة ولم يصف العباد بالقدرة ، ولا أسند إليهم فعل " قدر " وإنما أسند إليهم الكسب ، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد ، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد ، وقد قيل : إن أول من استعمل كلمة الكسب هو
الحسين بن محمد النجار ، رأس الفرقة
النجارية ، من
الجبرية ، وكان معاصرا للنظام في القرن الثالث ، ولكن اشتهر بها
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي : أدق من كسب
الأشعري .
وتعريف الكسب عند
الأشعري : هو حالة العبد يقارنها خلق الله فعلا متعلقا بها ، وعرفه
الإمام الرازي بأنه صفة تحصل بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله وللكسب تعاريف أخر .
وحاصل معنى الكسب وما دعا إلى إثباته هو أنه لما تقرر أن الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد ، وجب أن يقرر عموم قدرته على كل شيء لئلا تكون قدرة الله غير متسلطة على بعض الكائنات ، إعمالا للأدلة الدالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه خالق كل شيء ، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصصه ، فوجب إعمال هذا العموم ، ثم إنه لما لم يجز أن يدعى كون العبد مجبورا على أفعاله للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية كحركة المرتعش ، والأفعال الاختيارية ،
[ ص: 139 ] كحركة الماشي والقاتل ، ورعيا لحقيقة التكاليف الشرعية للعباد لئلا يكون التكليف عبثا ولحقية الوعد والوعيد لئلا يكونا باطلا ، تعين أن تكون للعبد حالة تمكنه من فعل ما يريد فعله ، وترك ما يريد تركه ، وهي ميله إلى الفعل أو الترك ، فهذه الحالة سماها
الأشعري الاستطاعة ، وسماها كسبا ، وقال : إنها تتعلق بالفعل فإذا تعلقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها .
وتقديم المجرورين في الآية : لقصد الاختصاص . أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها ، وكأن هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية : من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله .
وتمسك بهذه الآية من رأى أن الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب ، إلا إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره ، ففي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341372إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له ، وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341373ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، ذلك لأنه أول من سن القتل وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341374من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286nindex.php?page=treesubj&link=28973_29468_30531_28642لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَيَكُونُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَحْكِيَّةِ بِالْقَوْلِ ، وَفَائِدَتُهُ إِظْهَارُ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ ، وَالتَّسْلِيمِ ، وَالطَّاعَةِ ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الدِّينِ التَّكْلِيفَ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَبْشِيرٌ بِاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِمُ الْمُلَقَّنَةِ ، أَوِ الَّتِي أُلْهِمُوهَا : وَهِيَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْكِيَ دَعَوَاتِهِمْ تِلْكَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ ، كَأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=285سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ، أَيْ : عَلِمْنَا تَأْوِيلَ قَوْلِ رَبِّنَا
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِمَا فِي الْوُسْعِ ، مِمَّا أُبْدِيَ وَمَا أُخْفِيَ ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ اخْتِيَارًا ، أَوْ يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَيَطَمْئِنُّ بِهِ ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ إلخ ، يُبْعِدُ هَذَا ، إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ .
[ ص: 135 ] فَعَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ نَسْخٌ لِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341371لَمَّا نَزَلَتْ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَأَتَوْهُ وَقَالُوا لَا نُطِيقُهَا ، فَقَالَ النَّبِيءُ : قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا ، فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ : nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ ، وَالْمُرَادُ الْبَيَانُ وَالتَّخْصِيصُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَتَابِعَةُ النَّظْمِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مُنَجَّمَةً ، فَحَدَثَ بَيْنَ فَتْرَةِ نُزُولِهَا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ حَرَجًا .
وَ " الْوُسْعُ " فِي الْقُرْآنِ بِضَمِّ الْوَاوِ ، وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُثَلَّثُ الْوَاوِ ، وَهُوَ الطَّاقَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا يُطَاقُ وَيُسْتَطَاعُ ، فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ ، وَالْمُسْتَطَاعُ هُوَ مَا اعْتَادَ النَّاسُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى أَنْ يَفْعَلُوهُ إِنْ تَوَجَّهَتْ إِرَادَتُهُمْ لِفِعْلِهِ مَعَ السَّلَامَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ
nindex.php?page=treesubj&link=20716التَّكْلِيفِ بِمَا فَوْقَ الطَّاقَةِ فِي أَدْيَانِ اللَّهِ تَعَالَى لِعُمُومِ ( نَفْسًا ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا شَرَعَ التَّكْلِيفَ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ ، فَلَا يُكَلِّفُهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ فِعْلَهُ ، وَمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ فِي سِيَاقِ الْعُقُوبَاتِ ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا .
وَامْتَازَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِالْيُسْرِ وَالرِّفْقِ ، بِشَهَادَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْعَامَّةِ : الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ ، وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ مَظِنَّةَ الرُّخْصَةِ ، وَضَبْطُ الْمَشَاقِّ الْمُسْقِطَةِ لِلْعِبَادَةِ مَذْكُورٌ فِي الْأُصُولِ ، وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى ( مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ ) وَمَا وَرَدَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ فَأَمْرٌ نَادِرٌ ، فِي أَوْقَاتِ الضَّرُورَةِ ، كَتَكْلِيفِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالثَّبَاتِ لِلْعَشْرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمُعَنْوَنَةُ فِي كُتُبِ الْأَصْلَيْنِ بِمَسْأَلَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=28077التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ ، وَالتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَرَنَّتْ بِهَا كُتُبُ
الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا
[ ص: 136 ] شَهِيرًا دَعَا إِلَيْهِ الْتِزَامُ الْفَرِيقَيْنِ لِلَوَازِمِ أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ ، فَقَالَتِ
الْأَشَاعِرَةُ : يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلَاحِ عَلَى اللَّهِ ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ تَعَالَى كُلُّهُ عَدْلٌ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْعِبَادِ ، وَقَاعِدَتُهُمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَعَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ لَا تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ بَلْ قَدْ تَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْجِيزِ وَالِابْتِلَاءِ وَجَعْلِ الِامْتِثَالِ عَلَامَةً عَلَى السَّعَادَةِ ، وَانْتِفَائِهِ عَلَامَةً عَلَى الشَّقَاوَةِ وَتَرَتُّبِ الْإِثْمِ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى إِثَابَةَ الْعَاصِي ، وَتَعْذِيبَ الْمُطِيعِ ، فَبِالْأَوْلَى تَعْذِيبُ مَنْ يَأْمُرُهُ بِفِعْلٍ مُسْتَحِيلٍ أَوْ مُتَعَذَّرٍ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَكْلِيفِ الْمُصَوِّرِ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الصُّورَةِ وَمَا هُوَ بِنَافِخٍ ، وَتَكْلِيفِ الْكَاذِبِ فِي الرُّؤْيَا بِالْعَقْدِ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَمَا هُوَ بِفَاعِلٍ ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ هَذَا فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ ، وَلِأَنَّهُمَا خَبَرَا آحَادٍ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهَا أُصُولُ الدِّينِ . وَقَالَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ : يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّهُ يَجِبُ لِلَّهِ فِعْلُ الصَّلَاحِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ عَنْهُ ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْمُنْكَرَاتِ مِنَ الْأَفْعَالِ ، وَقَاعِدَتِهِمْ فِي أَنَّ ثَمَرَةَ التَّكْلِيفِ هُوَ الِامْتِثَالُ ، وَإِلَّا لَصَارَ عَبَثًا وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ وَإِثَابَةُ الْعَاصِي .
وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أُصُولِهَا ، مِثْلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ إلخ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخَوْضِ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْمُنَاظَرَةُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ، فَإِنَّ
الْأَشْعَرِيَّ لَمَّا نَفَى قُدْرَةَ الْعَبْدِ ، وَقَالَ بِالْكَسْبِ ، وَفَسَّرَهُ بِمُقَارَنَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ لِحُصُولِ الْمَقْدُورِ دُونَ أَنْ تَكُونَ قُدْرَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ ، أَلْزَمَهُمُ
الْمُعْتَزِلَةُ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْعِبَادَ بِمَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِهِمْ ، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ ، فَالْتَزَمَ
الْأَشْعَرِيُّ ذَلِكَ ، وَخَالَفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14847وَالْغَزَالِيُّ وَالْأَشْعَرِيُّ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ، وَالْآيَةُ لَا تَنْهَضُ حُجَّةً عَلَى كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ إِمْكَانِ ذَلِكَ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ : هَلْ هُوَ وَاقِعٌ ، وَقَدْ حَكَى
الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ فِي الْحِكَايَةِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12441إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ : وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا عِنْدَ
الْأَشْعَرِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَاتِ كُلَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِأَفْعَالٍ هِيَ عِنْدَ
الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا
[ ص: 137 ] يُقْدِرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إِرَادَةِ الْفِعْلِ مَعَ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ .
وَمَا أَلْزَمَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12441إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْأَشْعَرِيَّ إِلْزَامٌ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَا يُطَاقُ مَا لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ الظَّاهِرَةُ ، الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْكَسْبِ ، لِلْفَرْقِ الْبَيِّنِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ ، وَبَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَسْتُورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَكَذَلِكَ لَا مَعْنًى لِإِدْخَالِ مَا عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ وُقُوعِهِ ، كَأَمْرِ
أَبِي جَهْلٍ بِالْإِيمَانِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ، فِي مَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ، أَوْ بِالْمُحَالِ ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا
أَبَا لَهَبٍ إِلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=1تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=111&ayano=3سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ فَقَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُخَاطَبْ بِطَلَبِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا خُوطِبَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبِذَلِكَ نَسْلَمُ مِنْ أَنْ نَقُولَ : إِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الدَّعْوَةِ وَمِنْ أَنْ نَقُولَ : إِنَّهُ مُخَاطَبٌ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فِي الشَّرِيعَةِ ، بِحَسَبِ الْمُتَعَارَفِ فِي إِرَادَةِ الْبَشَرِ وَقُدَرِهِمْ ، دُونَ مَا هُوَ بِحَسَبِ سِرِّ الْقَدَرِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا الرَّدُّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ حَالٌ مِنْ " نَفْسًا " لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُسْعِ الَّذِي كُلِّفَتْ بِهِ النَّفْسُ : وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ جَاءَتْ بِخَيْرٍ كَانَ نَفْعُهُ لَهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِشَرٍّ كَانَ ضَرُّهُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ حَاصِلٌ مِنَ التَّعْلِيقِ بِوَاسِطَةِ ( اللَّامِ ) مَرَّةً وَبِوَاسِطَةٍ ( عَلَى ) أُخْرَى ، وَأَمَّا ( كَسَبَتْ وَاكْتَسَبَتْ ) فَبِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، لِأَنَّ الْمُطَاوَعَةَ فِي ( اكْتَسَبَ ) لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ هُنَا مَرَّةً بِـ ( كَسَبَ ) وَأُخْرَى بِـ ( اكْتَسَبَ ) تَفَنُّنًا وَكَرَاهِيَةَ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ بِعَيْنِهَا ، كَمَا فَعَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذُو الرُّمَّةِ فِي قَوْلِهِ :
وَمُطْعَمِ الصَّيْدِ هَبَّالٍ لِبُغْيَتِهِ أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ مُكْتَسِبَا
وَقَوْلُ
النَّابِغَةِ :
فَحَمَلْتُ بَرَّةَ وَاحْتَمَلْتَ فَجَارِ
وَابْتُدِئَ أَوَّلًا بِالْمَشْهُورِ الْكَثِيرِ ، ثُمَّ أُعِيدَ بِمُطَاوِعِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِي اخْتِيَارِ الْفِعْلِ الَّذِي أَصْلُهُ دَالٌّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ ، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الشُّرُورَ يَأْمُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ ، فَتَأْتَمِرُ
[ ص: 138 ] النَّفْسُ وَتُطَاوِعُهُ وَذَلِكَ تَبْغِيضٌ مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ فِي الذُّنُوبِ ، وَاخْتِيرَ الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى اخْتِيَارِ النَّفْسِ لِلْحَسَنَاتِ ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ يَسُوقُ إِلَيْهَا النَّاسَ بِالْفِطْرَةِ ، وَوَقَعَ فِي الْكَشَّافِ أَنَّ فِعْلَ الْمُطَاوَعَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الِاعْتِمَالِ ، وَكَانَ الشَّرُّ مُشْتَهًى لِلنَّفْسِ ، فَهِيَ تَجِدُّ فِي تَحْصِيلِهِ ، فَعَبَّرَ عَنْ فِعْلِهَا ذَلِكَ بِالِاكْتِسَابِ .
وَالْمُرَادُ بِـ ( مَا اكْتَسَبَتْ ) الشُّرُورُ ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكَسْبَ هُوَ اجْتِنَاءُ الْخَيْرِ ، وَالِاكْتِسَابُ هُوَ اجْتِنَاءُ الشَّرِّ ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; فَفِي الْقُرْآنِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا -
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=52ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ - وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ( اكْتَسَبَ ) إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ ( كَسَبَ ) خُصَّ بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ تَكَلُّفٌ ، لَكِنْ لَمْ يَرِدِ التَّعْبِيرُ بِـ ( اكْتَسَبَ ) فِي جَانِبِ فِعْلِ الْخَيْرِ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَأْخَذٌ حَسَنٌ
nindex.php?page=showalam&ids=13711لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِطَاعَةَ الْعَبْدِ كَسْبًا وَاكْتِسَابًا ; فَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَصِفِ الْعِبَادَ بِالْقُدْرَةِ ، وَلَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمْ فِعْلَ " قَدَرَ " وَإِنَّمَا أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْكَسْبَ ، وَهُوَ قَوْلٌ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ وَيَفِي بِتَحْقِيقِ إِضَافَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ ، مَعَ الْأَدَبِ فِي عَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةِ الْقُدْرَةِ لِلْعِبَادِ ، وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ أَوَّلَ مَنِ اسْتَعْمَلَ كَلِمَةَ الْكَسْبِ هُوَ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّجَّارُ ، رَأْسُ الْفِرْقَةِ
النَّجَّارِيَّةِ ، مِنَ
الْجَبْرِيَّةِ ، وَكَانَ مُعَاصِرًا لِلنَّظَّامِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بِهَا
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ حَتَّى قَالَ الطَّلَبَةُ فِي وَصْفِ الْأَمْرِ الْخَفِيِّ : أَدَقُّ مِنْ كَسْبِ
الْأَشْعَرِيِّ .
وَتَعْرِيفُ الْكَسْبِ عِنْدَ
الْأَشْعَرِيِّ : هُوَ حَالَةُ الْعَبْدِ يُقَارِنُهَا خَلْقُ اللَّهِ فِعْلًا مُتَعَلِّقًا بِهَا ، وَعَرَّفَهُ
الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ تَحْصُلُ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ لِفِعْلِهِ الْحَاصِلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَلِلْكَسْبِ تَعَارِيفُ أُخَرُ .
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْكَسْبِ وَمَا دَعَا إِلَى إِثْبَاتِهِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ ، وَجَبَ أَنْ يُقَرِّرَ عُمُومَ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِئَلَّا تَكُونَ قُدْرَةُ اللَّهِ غَيْرَ مُتَسَلِّطَةٍ عَلَى بَعْضِ الْكَائِنَاتِ ، إِعْمَالًا لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَيْسَ لِعُمُومِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ دَلِيلٌ يُخَصِّصُهُ ، فَوَجَبَ إِعْمَالُ هَذَا الْعُمُومِ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدَّعَى كَوْنُ الْعَبْدِ مَجْبُورًا عَلَى أَفْعَالِهِ لِلْفَرْقِ الضَّرُورِيِّ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ ، وَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ،
[ ص: 139 ] كَحَرَكَةِ الْمَاشِي وَالْقَاتِلِ ، وَرَعْيًا لِحَقِيقَةِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ لِئَلَّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا وَلِحَقِّيَّةِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِئَلَّا يَكُونَا بَاطِلًا ، تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ ، وَتَرْكِ مَا يُرِيدُ تَرْكَهُ ، وَهِيَ مَيْلُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ سَمَّاهَا
الْأَشْعَرِيُّ الِاسْتِطَاعَةَ ، وَسَمَّاهَا كَسْبًا ، وَقَالَ : إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الْفِعْلَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا وَمَالَ إِلَيْهَا .
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي الْآيَةِ : لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ . أَيْ لَا يَلْحَقُ غَيْرَهَا شَيْءٌ وَلَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا ، وَكَأَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ : مِنِ اعْتِقَادِ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ .
وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ أَثَرٌ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ ، فَفِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341372إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ، وَفِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341373مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ وَفِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341374مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .