القول في
nindex.php?page=treesubj&link=28973تأويل قوله تعالى ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )
قال
أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، ولم نجعل صرفك عن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا
محمد فصرفناك عنها ، إلا لنعلم من يتبعك ممن لا يتبعك ، ممن ينقلب على عقبيه .
والقبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، التي عناها الله بقوله : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، هي القبلة التي كنت تتوجه إليها قبل أن يصرفك إلى
الكعبة ، كما : -
2201 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " ، يعني :
بيت المقدس .
2202 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
[ ص: 156 ] nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قلت
لعطاء : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها " . قال : القبلة
بيت المقدس .
قال
أبو جعفر : وإنما ترك ذكر "الصرف عنها " ، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه ، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نظائره .
وإنما قلنا : ذلك معناه ، لأن محنة الله أصحاب رسوله في القبلة ، إنما كانت - فيما تظاهرت به الأخبار - عند التحويل من
بيت المقدس إلى
الكعبة ، حتى ارتد - فيما ذكر - رجال ممن كان قد أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم ، وقالوا : ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون ، في من مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو
بيت المقدس : بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت! وقال المشركون : تحير
محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في دينه! فكان ذلك فتنة للناس ، وتمحيصا للمؤمنين .
فلذلك قال جل ثناؤه : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ، أي : وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها ، وتحويلك إلى غيرها ، كما قال جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) [ سورة الإسراء : 60 ] بمعنى : وما جعلنا خبرك عن الرؤيا التي أريناك . وذلك أنه لو لم يكن أخبر القوم بما كان أري ، لم يكن فيه على أحد فتنة ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو
بيت المقدس ، لو لم يكن صرف عنها إلى
الكعبة ، لم يكن فيها على أحد فتنة ولا محنة .
ذكر الأخبار التي رويت في ذلك بمعنى ما قلنا :
[ ص: 157 ]
2203 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد ، عن
سعيد ، عن
قتادة قال : كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص . صلت
الأنصار نحو
بيت المقدس حولين قبل قدوم نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة مهاجرا نحو
بيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى
الكعبة البيت الحرام ، فقال في ذلك قائلون من الناس : "ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " ؟ لقد اشتاق الرجل إلى مولده! قال الله عز وجل : "قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " . فقال أناس - لما
nindex.php?page=treesubj&link=29376صرفت القبلة نحو البيت الحرام - : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ؟ فأنزل الله عز وجل : "وما كان الله ليضيع إيمانكم " . وقد يبتلي الله العباد بما شاء من أمره ، الأمر بعد الأمر ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، وكل ذلك مقبول ، إذ كان في [ ذلك ] إيمان بالله ، وإخلاص له ، وتسليم لقضائه .
2204 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل
بيت المقدس ، فنسختها
الكعبة . فلما وجه قبل
المسجد الحرام ، اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها ؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل
بيت المقدس ! هل تقبل الله منا ومنهم ، أو لا ؟ وقالت
اليهود : إن
محمدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال
[ ص: 158 ] المشركون من
أهل مكة : تحير على
محمد دينه ، فتوجه بقبلته إليكم ، وعلم أنكم كنتم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين : "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله : "وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله " ، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها .
2205 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثنا
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قلت
لعطاء : "إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ؟ فقال
عطاء : يبتليهم ، ليعلم من يسلم لأمره . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : بلغني أن ناسا ممن أسلم رجعوا فقالوا : مرة هاهنا ومرة هاهنا!
قال
أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : أوما كان الله عالما بمن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، إلا بعد اتباع المتبع ، وانقلاب المنقلب على عقبيه ، حتى قال : ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه ؟
قيل : إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قبل كونها ، وليس قوله : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " يخبر [ عن ] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجوده .
فإن قال : فما معنى ذلك ؟
قيل له : أما معناه عندنا ، فإنه : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ، فقال جل ثناؤه : "إلا لنعلم " ، ومعناه : ليعلم رسولي وأوليائي . إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ ص: 159 ] وأولياءه من حزبه ، وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس إلى الرئيس ، وما فعل بهم إليه ، نحو قولهم : "فتح عمر بن الخطاب سواد العراق ، وجبى خراجها " ، وإنما فعل ذلك أصحابه ، عن سبب كان منه في ذلك . وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله جل ثناؤه : مرضت فلم يعدني عبدي ، واستقرضته فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني .
2206 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
خالد ، عن
محمد بن جعفر ، عن
العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811265قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني! يقول : وادهراه! وأنا الدهر ، أنا الدهر .
2207 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه .
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه ، وقد كان ذلك بغيره ، إذ كان ذلك عن سببه .
وقد حكي عن العرب سماعا : "أجوع في غير بطني ، وأعرى في غير
[ ص: 160 ] ظهري " ، بمعنى : جوع أهله وعياله وعري ظهورهم ،
فكذلك قوله : "إلا لنعلم " ، بمعنى : يعلم أوليائي وحزبي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
2208 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو صالح قال : حدثني
معاوية بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " ، قال
ابن عباس : لنميز أهل اليقين من أهل الشرك والريبة .
وقال بعضهم : إنما قيل ذلك ، من أجل أن العرب تضع "العلم " مكان "الرؤية " ، و"الرؤية " مكان "العلم " ، كما قال جل ذكره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=105&ayano=1ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) [ سورة الفيل : 1 ] ، فزعم أن معنى "ألم تر " ، ألم تعلم ؟ وزعم أن معنى قوله : "إلا لنعلم " ، بمعنى : إلا لنرى من يتبع الرسول . وزعم أن قول القائل : "رأيت ، وعلمت ، وشهدت " ، حروف تتعاقب ، فيوضع بعضها موضع بعض ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15626جرير بن عطية كأنك لم تشهد لقيطا وحاجبا وعمرو بن عمرو إذ دعا يال دارم
بمعنى : كأنك لم تعلم لقيطا ، لأن بين هلك لقيط وحاجب وزمان جرير ، ما لا يخفى بعده من المدة . وذلك أن الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية ، وجرير كان بعد برهة مضت من مجيء الإسلام .
[ ص: 161 ]
قال
أبو جعفر : وهذا تأويل بعيد ، من أجل أن "الرؤية " ، وإن استعملت في موضع "العلم " ، من أجل أنه مستحيل أن يرى أحد شيئا ، فلا توجب رؤيته إياه علما بأنه قد رآه ، إذا كان صحيح الفطرة . فجاز من الوجه الذي أثبته رؤية ، أن يضاف إليه إثباته إياه علما ، وصح أن يدل بذكر "الرؤية " على معنى "العلم " من أجل ذلك . فليس ذلك ، وإن كان [ جائزا ] في الرؤية - لما وصفنا - بجائز في العلم ، فيدل بذكر الخبر عن "العلم " على "الرؤية " . لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها ، ويستحيل أن يرى شيئا إلا علمه ، كما قد قدمنا البيان [ عنه ] . مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال : "علمت كذا " ، بمعنى رأيته . وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على
محمد صلى الله عليه وسلم من الكلام ، إلى ما كان موجودا مثله في كلام العرب ، دون ما لم يكن موجودا في كلامها . فموجود في كلامها "رأيت " بمعنى : علمت ، وغير موجود في كلامها "علمت " بمعنى : رأيت ، فيجوز توجيه : "إلا لنعلم " إلى معنى : إلا لنرى .
وقال آخرون : إنما قيل : "إلا لنعلم " ، من أجل أن المنافقين
واليهود وأهل الكفر بالله ، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يعلم الشيء قبل كونه . وقالوا - إذ قيل لهم : إن قوما من أهل القبلة سيرتدون على أعقابهم ، إذا حولت قبلة
محمد صلى الله عليه وسلم إلى
الكعبة - : ذلك غير كائن! أو قالوا : ذلك باطل! فلما فعل الله ذلك ، وحول القبلة ، وكفر من أجل ذلك من كفر ، قال الله جل
[ ص: 162 ] ثناؤه : ما فعلت إلا لنعلم ما علمه غيركم - أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه - : أني عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد .
فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله : "إلا لنعلم " : إلا لنبين لكم أنا نعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وهذا وإن كان وجها له مخرج ، فبعيد من المفهوم .
وقال آخرون : إنما قيل : "إلا لنعلم " ، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال ، على وجه الترفق بعباده ، واستمالتهم إلى طاعته ، كما قال جل ثناؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=24قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) [ سورة سبأ : 24 ] ، وقد علم أنه على هدى ، وأنهم على ضلال مبين ، ولكنه رفق بهم في الخطاب ، فلم يقل : أنا على هدى ، وأنتم على ضلال . فكذلك قوله : "إلا لنعلم " ، معناه عندهم : إلا لتعلموا أنتم ، إذ كنتم جهالا به قبل أن يكون . فأضاف العلم إلى نفسه ، رفقا بخطابهم .
وقد بينا القول الذي هو أولى في ذلك بالحق .
وأما قوله : "من يتبع الرسول " . فإنه يعني : الذي يتبع
محمدا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به ، فيوجه نحو الوجه الذي يتوجه نحوه
محمد صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 163 ]
وأما قوله : "ممن ينقلب على عقبيه " ، فإنه يعني : من الذي يرتد عن دينه ، فينافق ، أو يكفر ، أو يخالف
محمدا صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ممن يظهر اتباعه ، كما : -
2209 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " قال : من إذا دخلته شبهة رجع عن الله ، وانقلب كافرا على عقبيه .
وأصل "المرتد على عقبيه " ، هو : "المنقلب على عقبيه " ، الراجع مستدبرا في الطريق الذي قد كان قطعه ، منصرفا عنه . فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه ، من دين أو خير . ومن ذلك قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=64فارتدا على آثارهما قصصا ) [ سورة الكهف : 64 ] ، بمعنى : رجعا في الطريق الذي كانا سلكاه ، وإنما قيل للمرتد : "مرتد " ، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها .
وإنما قيل : "رجع على عقبيه " ، لرجوعه دبرا على عقبه ، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مرجعه عنه . فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرا وآخذ آخر غيره ، إذا انصرف عما كان فيه ، إلى الذي كان له تاركا فأخذه . فقيل : "ارتد فلان على عقبه ، وانقلب على عقبيه " .
الْقَوْلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28973تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا " ، وَلَمْ نَجْعَلْ صَرْفَكَ عَنِ الْقِبْلَةِ الَّتِي كُنْتَ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا يَا
مُحَمَّدُ فَصَرَفْنَاكَ عَنْهَا ، إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُكَ مِمَّنْ لَا يَتَّبِعُكَ ، مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ .
وَالْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا ، الَّتِي عَنَاهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ : "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا " ، هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كُنْتَ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَكَ إِلَى
الْكَعْبَةِ ، كَمَا : -
2201 - حَدَّثَنِي
مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ : حَدَّثَنَا
عَمْرٌو قَالَ : حَدَّثَنَا
أَسْبَاطٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا " ، يَعْنِي :
بَيْتَ الْمَقْدِسِ .
2202 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنِ
[ ص: 156 ] nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قُلْتُ
لِعَطَاءٍ : "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا " . قَالَ : الْقِبْلَةُ
بَيْتُ الْمَقْدِسِ .
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ "الصَّرْفِ عَنْهَا " ، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا قَدْ ذَكَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ ، كَسَائِرِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ نَظَائِرِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : ذَلِكَ مَعْنَاهُ ، لِأَنَّ مِحْنَةَ اللَّهِ أَصْحَابَ رَسُولِهِ فِي الْقِبْلَةِ ، إِنَّمَا كَانَتْ - فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ - عِنْدَ التَّحْوِيلِ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى
الْكَعْبَةِ ، حَتَّى ارْتَدَّ - فِيمَا ذُكِرَ - رِجَالٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَظْهَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نِفَاقَهُمْ ، وَقَالُوا : مَا بَالُ مُحَمَّدٍ يُحَوِّلُنَا مَرَّةً إِلَى هَاهُنَا وَمَرَّةً إِلَى هَاهُنَا! وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ ، فِي مَنْ مَضَى مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ : بَطَلَتْ أَعْمَالُنَا وَأَعْمَالُهُمْ وَضَاعَتْ! وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : تَحَيَّرَ
مُحَمَّدٌ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] فِي دِينِهِ! فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ، وَتَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ .
فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " ، أَيْ : وَمَا جَعَلْنَا صَرْفَكَ عَنِ الْقِبْلَةِ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ، وَتَحْوِيلَكَ إِلَى غَيْرِهَا ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=60وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 60 ] بِمَعْنَى : وَمَا جَعَلْنَا خَبَرَكَ عَنِ الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَخْبَرَ الْقَوْمَ بِمَا كَانَ أُرِي ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ فِتْنَةٌ ، وَكَذَلِكَ الْقِبْلَةُ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ نَحْوَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، لَوْ لَمْ يَكُنْ صُرِفَ عَنْهَا إِلَى
الْكَعْبَةِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ فِتْنَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ .
ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا :
[ ص: 157 ]
2203 - حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ : حَدَّثَنَا
يَزِيدُ ، عَنْ
سَعِيدٍ ، عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ : كَانَتِ الْقِبْلَةُ فِيهَا بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ . صَلَّتِ
الْأَنْصَارُ نَحْوَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَوْلَيْنِ قَبْلَ قُدُومِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا نَحْوَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى
الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ قَائِلُونَ مِنَ النَّاسِ : "مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " ؟ لَقَدِ اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى مَوْلِدِهِ! قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : "قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " . فَقَالَ أُنَاسٌ - لَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29376صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ نَحْوَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ - : كَيْفَ بِأَعْمَالِنَا الَّتِي كُنَّا نَعْمَلُ فِي قِبْلَتِنَا الْأُولَى ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ " . وَقَدْ يَبْتَلِي اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِهِ ، الْأَمْرَ بَعْدَ الْأَمْرِ ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ ، إِذْ كَانَ فِي [ ذَلِكَ ] إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، وَإِخْلَاصٌ لَهُ ، وَتَسْلِيمٌ لِقَضَائِهِ .
2204 - حَدَّثَنِي
مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا
عَمْرٌو قَالَ : حَدَّثَنَا
أَسْبَاطٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي قِبَلَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَنَسَخَتْهَا
الْكَعْبَةُ . فَلَمَّا وُجِّهَ قِبَلَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا ، فَكَانُوا أَصْنَافًا ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ : مَا بَالُهُمْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ زَمَانًا ، ثُمَّ تَرَكُوهَا وَتَوَجَّهُوا إِلَى غَيْرِهَا ؟ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : لَيْتَ شِعْرَنَا عَنْ إِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ قِبَلَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ! هَلْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْهُمْ ، أَوْ لَا ؟ وَقَالَتِ
الْيَهُودُ : إِنَّ
مُحَمَّدًا اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِ أَبِيهِ وَمَوْلِدِهِ ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى قِبْلَتِنَا لَكُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبُنَا الَّذِي نَنْتَظِرُ! وَقَالَ
[ ص: 158 ] الْمُشْرِكُونَ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ : تَحَيَّرَ عَلَى
مُحَمَّدٍ دِينُهُ ، فَتَوَجَّهَ بِقِبْلَتِهِ إِلَيْكُمْ ، وَعَلِمَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ ، وَيُوشِكُ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِكُمْ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ : "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا " إِلَى قَوْلِهِ : "وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ " ، وَأَنْزَلَ فِي الْآخَرِينَ الْآيَاتِ بَعْدَهَا .
2205 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ : حَدَّثَنَا
حَجَّاجٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : قُلْتُ
لِعَطَاءٍ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " ؟ فَقَالَ
عَطَاءٌ : يَبْتَلِيهِمْ ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُسَلِّمُ لِأَمْرِهِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنُ جُرَيْجٍ : بَلَغَنِي أَنَّ نَاسًا مِمَّنْ أَسْلَمَ رَجَعُوا فَقَالُوا : مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا!
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : أَوَمَا كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِمَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، إِلَّا بَعْدَ اتِّبَاعِ الْمُتَّبِعِ ، وَانْقِلَابِ الْمُنْقَلِبِ عَلَى عَقِبَيْهِ ، حَتَّى قَالَ : مَا فِعْلُنَا الَّذِي فَعَلْنَا مِنْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَّا لِنَعْلَمَ الْمُتَّبِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنْقَلِبِ عَلَى عَقِبَيْهِ ؟
قِيلَ : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ الْعَالِمُ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا قَبْلَ كَوْنِهَا ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ : "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " يُخْبِرُ [ عَنْ ] أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ .
فَإِنْ قَالَ : فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ ؟
قِيلَ لَهُ : أَمَّا مَعْنَاهُ عِنْدَنَا ، فَإِنَّهُ : وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِيَعْلَمَ رَسُولِي وَحِزْبِي وَأَوْلِيَائِي مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " ، وَمَعْنَاهُ : لِيَعْلَمَ رَسُولِي وَأَوْلِيَائِي . إِذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[ ص: 159 ] وَأَوْلِيَاءُهُ مِنْ حِزْبِهِ ، وَكَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِضَافَةُ مَا فَعَلَتْهُ أَتْبَاعُ الرَّئِيسِ إِلَى الرَّئِيسِ ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ إِلَيْهِ ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ : "فَتَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَوَادَ الْعِرَاقِ ، وَجَبَى خَرَاجَهَا " ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ، عَنْ سَبَبٍ كَانَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ . وَكَالَّذِي رُوِيَ فِي نَظِيرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : مَرِضْتُ فَلَمْ يَعُدْنِي عَبْدِي ، وَاسْتَقْرَضْتُهُ فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي .
2206 - حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا
خَالِدٌ ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنِ
الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=811265قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ : اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي! يَقُولُ : وَادَهْرَاهْ! وَأَنَا الدَّهْرُ ، أَنَا الدَّهْرُ .
2207 - حَدَّثَنَا
ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ
الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ .
فَأَضَافَ تَعَالَى ذِكْرُهُ الِاسْتِقْرَاضَ وَالْعِيَادَةَ إِلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ سَبَبِهِ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا : "أَجُوعُ فِي غَيْرِ بَطْنِي ، وَأُعَرَّى فِي غَيْرِ
[ ص: 160 ] ظَهْرِي " ، بِمَعْنَى : جُوعِ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَعُرْيِ ظُهُورِهِمْ ،
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " ، بِمَعْنَى : يَعْلَمُ أَوْلِيَائِي وَحِزْبِي .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
2208 - حَدَّثَنِي
الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا
أَبُو صَالِحٍ قَالَ : حَدَّثَنِي
مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ : "وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالرِّيبَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ "الْعِلْمَ " مَكَانَ "الرُّؤْيَةِ " ، وَ"الرُّؤْيَةَ " مَكَانَ "الْعِلْمِ " ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=105&ayano=1أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) [ سُورَةُ الْفِيلِ : 1 ] ، فَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى "أَلَمْ تَرَ " ، أَلَمْ تَعْلَمْ ؟ وَزَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " ، بِمَعْنَى : إِلَّا لِنَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ . وَزَعَمَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "رَأَيْتُ ، وَعَلِمْتُ ، وَشَهِدْتُ " ، حُرُوفٌ تَتَعَاقَبُ ، فَيُوضَعُ بَعْضُهَا مَوْضِعَ بَعْضٍ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15626جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا وَعَمْرَو بْنَ عَمْرٍو إِذْ دَعَا يَالَ دَارِمِ
بِمَعْنَى : كَأَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْ لَقِيطًا ، لِأَنَّ بَيْنَ هُلْكِ لَقِيطٍ وَحَاجِبٍ وَزَمَانِ جَرِيرٍ ، مَا لَا يَخْفَى بُعْدُهُ مِنَ الْمُدَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ هَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَجَرِيرٌ كَانَ بَعْدَ بُرْهَةٍ مَضَتْ مِنْ مَجِيءِ الْإِسْلَامِ .
[ ص: 161 ]
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ "الرُّؤْيَةَ " ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ "الْعِلْمِ " ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَرَى أَحَدٌ شَيْئًا ، فَلَا تُوجِبُ رُؤْيَتُهُ إِيَّاهُ عِلْمًا بِأَنَّهُ قَدْ رَآهُ ، إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْفِطْرَةِ . فَجَازَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ رُؤْيَةً ، أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ إِثْبَاتُهُ إِيَّاهُ عِلْمًا ، وَصَحَّ أَنْ يَدُلَّ بِذِكْرِ "الرُّؤْيَةِ " عَلَى مَعْنَى "الْعِلْمِ " مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ . فَلَيْسَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ [ جَائِزًا ] فِي الرُّؤْيَةِ - لِمَا وَصَفْنَا - بِجَائِزٍ فِي الْعِلْمِ ، فَيَدُلُّ بِذِكْرِ الْخَبَرِ عَنِ "الْعِلْمِ " عَلَى "الرُّؤْيَةِ " . لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَعْلَمُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يَرَهَا وَلَا يَرَاهَا ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَرَى شَيْئًا إِلَّا عَلِمَهُ ، كَمَا قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ [ عَنْهُ ] . مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ : "عَلِمْتُ كَذَا " ، بِمَعْنَى رَأَيْتُهُ . وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَوْجِيهُ مَعَانِي مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَنَزَلَهُ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منَ الْكَلَامِ ، إِلَى مَا كَانَ مَوْجُودًا مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي كَلَامِهَا . فَمَوْجُودٌ فِي كَلَامِهَا "رَأَيْتُ " بِمَعْنَى : عَلِمْتُ ، وَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهَا "عَلِمْتُ " بِمَعْنَى : رَأَيْتُ ، فَيَجُوزُ تَوْجِيهُ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " إِلَى مَعْنَى : إِلَّا لِنَرَى .
وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا قِيلَ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ
وَالْيَهُودَ وَأَهْلَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ ، أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ . وَقَالُوا - إِذْ قِيلَ لَهُمْ : إِنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ سَيَرْتَدُّونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ ، إِذَا حُوِّلَتْ قِبْلَةُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْكَعْبَةِ - : ذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ! أَوْ قَالُوا : ذَلِكَ بَاطِلٌ! فَلَمَّا فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَحَوَّلَ الْقِبْلَةَ ، وَكَفَرَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنْ كَفَرَ ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ
[ ص: 162 ] ثَنَاؤُهُ : مَا فَعَلْتُ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَا عَلِمَهُ غَيْرُكُمْ - أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ عِلْمِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهِ - : أَنِّي عَالِمٌ بِمَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ .
فَكَأَنَّ مَعْنَى قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " : إِلَّا لِنُبَيِّنَ لَكُمْ أَنَّا نَعْلَمُ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا لَهُ مَخْرَجٌ ، فَبَعِيدٌ مِنَ الْمَفْهُومِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا قِيلَ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " ، وَهُوَ بِذَلِكَ عَالِمٌ قَبْلَ كَوْنِهِ وَفِي كُلِّ حَالٍ ، عَلَى وَجْهِ التَّرَفُّقِ بِعِبَادِهِ ، وَاسْتِمَالَتِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=24قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) [ سُورَةُ سَبَأٍ : 24 ] ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى هُدًى ، وَأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ ، وَلَكِنَّهُ رَفَقَ بِهِمْ فِي الْخِطَابِ ، فَلَمْ يَقُلْ : أَنَا عَلَى هُدًى ، وَأَنْتُمْ عَلَى ضَلَالٍ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : "إِلَّا لِنَعْلَمَ " ، مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ : إِلَّا لِتَعْلَمُوا أَنْتُمْ ، إِذْ كُنْتُمْ جُهَّالًا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ . فَأَضَافَ الْعِلْمَ إِلَى نَفْسِهِ ، رِفْقًا بِخِطَابِهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : "مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ " . فَإِنَّهُ يَعْنِي : الَّذِي يَتَّبِعُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِهِ ، فَيُوَجَّهُ نَحْوَ الْوَجْهِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ نَحْوَهُ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
[ ص: 163 ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ : "مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " ، فَإِنَّهُ يَعْنِي : مِنَ الَّذِي يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ ، فَيُنَافِقُ ، أَوْ يَكْفُرُ ، أَوْ يُخَالِفُ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ، مِمَّنْ يُظْهِرُ اتِّبَاعَهُ ، كَمَا : -
2209 - حَدَّثَنِي
يُونُسُ قَالَ : أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : قَالَ
ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " قَالَ : مَنْ إِذَا دَخَلَتْهُ شُبْهَةٌ رَجَعَ عَنِ اللَّهِ ، وَانْقَلَبَ كَافِرًا عَلَى عَقِبَيْهِ .
وَأَصْلُ "الْمُرْتَدِّ عَلَى عَقِبَيْهِ " ، هُوَ : "الْمُنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ " ، الرَّاجِعُ مُسْتَدْبِرًا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي قَدْ كَانَ قَطَعَهُ ، مُنْصَرِفًا عَنْهُ . فَقِيلَ ذَلِكَ لِكُلِّ رَاجِعٍ عَنْ أَمْرٍ كَانَ فِيهِ ، مِنْ دِينٍ أَوْ خَيْرٍ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=64فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 64 ] ، بِمَعْنَى : رَجَعَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي كَانَا سَلَكَاهُ ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُرْتَدِّ : "مُرْتَدٌ " ، لِرُجُوعِهِ عَنْ دِينِهِ وَمِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا .
وَإِنَّمَا قِيلَ : "رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ " ، لِرُجُوعِهِ دُبُرًا عَلَى عَقِبِهِ ، إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بَدْءُ سَيْرِهِ قَبْلَ مَرْجِعِهِ عَنْهُ . فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مَثَلًا لِكُلِّ تَارِكٍ أَمْرًا وَآخِذٍ آخَرَ غَيْرَهُ ، إِذَا انْصَرَفَ عَمَّا كَانَ فِيهِ ، إِلَى الَّذِي كَانَ لَهُ تَارِكًا فَأَخَذَهُ . فَقِيلَ : "ارْتَدَّ فَلَانٌ عَلَى عَقِبِهِ ، وَانْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ " .