المسألة الثامنة : قوله {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } : المعنى : إن خفتم الفقر بانقطاع مادة المشركين عنكم بالتجارة التي كانوا يجلبونها فإن الله يعوض عنها ; فدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=19653_19651تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز ، وإن كان الرزق مقدورا ، وأمر الله وقسمه له مفعولا ، ولكنه علقه بالأسباب حكمة ; لتعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب ، وليس ينافي النظر إلى السبب التوكل من حيث إنه مسخر مقدور ; وإنما يضاد التوكل النظر إليه بذاته ، والغفلة عن الذي سخره في أرضه وسماواته .
وفي الحديث الصحيح : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33613لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا } .
[ ص: 472 ] فأخبر أن
nindex.php?page=treesubj&link=19653_19651_19648التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق ، لكن شيوخ الصوفية قالوا : إنما تغدو وتروح في الطاعة ، فهو السبب الذي يجلب الرزق .
والدليل عليه أمران : قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=132وأمر أهلك بالصلاة } .
والثاني قوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } فليس ينزل الرزق من محله وهو السماء إلا ما يصعد إليها وهو الذكر الطيب والعمل الصالح ، وليس بالسعي في جهات الأرض ، فإنه ليس فيها رزق .
والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر ، وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة والغراسة .
ويدل عليه ما كانت الصحابة تعمله ، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم من التجارة في الأسواق ، والعمارة للأموال ، وغرس الثمار .
ومنهم من كان يضرب على الكفار لتكون كلمة الله هي العليا ، ويسترزق من أفضل وجوه رزق الله تعالى ، وهو الأغنام ، والنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله راض عنهم ، وهذه كانت صفة الخلفاء الذين لم يكن أحد أفضل منهم ; يسلكون هذه السبيل في الاكتساب والتعلق بالأسباب .
أما إنه لقد كان قوم يقعدون بصفة المسجد ما يحرثون ولا يتجرون ، ليس لهم كسب ولا مال ، إنما هم أضياف الإسلام إذا جاءت هدية أكلها النبي صلى الله عليه وسلم معهم ، وإن كانت صدقة خصهم بها ، ولم يكن ذلك بمعاب عليهم ، لإقبالهم على العبادة ، وملازمتهم للذكر والاعتكاف ، فصارت جادتين في الدين ومسلكين للمسلمين ، فمن آثر منهما واحدا لم يخرج عن سننه ، ولا اقتحم مكروها .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ {
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=28وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } : الْمَعْنَى : إنْ خِفْتُمْ الْفَقْرَ بِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْهَا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19653_19651تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْدُورًا ، وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ لَهُ مَفْعُولًا ، وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً ; لِتَعْلَمَ الْقُلُوبُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ ، وَلَيْسَ يُنَافِي النَّظَرَ إلَى السَّبَبِ التَّوَكُّلُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسَخَّرٌ مَقْدُورٌ ; وَإِنَّمَا يُضَادُّ التَّوَكُّلَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِذَاتِهِ ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الَّذِي سَخَّرَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=33613لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا } .
[ ص: 472 ] فَأَخْبَرَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19653_19651_19648التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ، لَكِنَّ شُيُوخَ الصُّوفِيَّةِ قَالُوا : إنَّمَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي الطَّاعَةِ ، فَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=132وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ } .
وَالثَّانِي قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=10إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فَلَيْسَ يَنْزِلُ الرِّزْقُ مِنْ مَحِلِّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ إلَّا مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا وَهُوَ الذِّكْرُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ، وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ وَالْغِرَاسَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُهُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ ، وَغَرْسِ الثِّمَارِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى الْكُفَّارِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَسْتَرْزِقُ مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ الْأَغْنَامُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاضٍ عَنْهُمْ ، وَهَذِهِ كَانَتْ صِفَةَ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ ; يَسْلُكُونَ هَذِهِ السَّبِيلَ فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ .
أَمَا إنَّهُ لَقَدْ كَانَ قَوْمٌ يَقْعُدُونَ بِصُفَّةِ الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا مَالٌ ، إنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ إذَا جَاءَتْ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً خَصَّهُمْ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُعَابٍ عَلَيْهِمْ ، لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِلذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ ، فَصَارَتْ جَادَّتَيْنِ فِي الدَّيْن وَمَسْلَكَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ آثَرَ مِنْهُمَا وَاحِدًا لَمْ يَخْرُج عَنْ سُنَنِهِ ، وَلَا اقْتَحَمَ مَكْرُوهًا .