قوله : ( وتقع واحدة رجعية ، وإن نوى الأكثر أو الإبانة أو لم ينو شيئا ) بيان لأحكام الصريح وهي ثلاثة الأول وقوع الرجعي به ولا تصح نية الإبانة لقوله تعالى { وبعولتهن أحق بردهن } بعد صريح طلاقه المفاد بقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن } فعلم أن الصريح يستعقبها للإجماع على أن المراد بالبعولة في الآية المطلقون صريحا حقيقة كان أو مجازا غير متوقف على إثبات كون المطلق طلاقا رجعيا بعلا حقيقة ويدل عليه أيضا قوله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فإنه أعقبه الرجعة التي هي المراد بالإمساك ، وفي الصيرفية : لو قال لها أنت طالق ولا رجعة لي عليك فرجعية ولو قال على أن لا رجعة لي عليك فبائن ا هـ .
أطلق وقوع الرجعي به لأن الطلاق عند تسمية مال أو في مقابلة إبراء أو عند وصفه بما ينبئ عن الشدة أو عند تقدم طلاق بائن ليس منه فلا حاجة إلى الاحتراز عنه بشيء ، وإن كان من الصريح فالمراد عند عدم العارض ، وفي هذه المواضع البينونة للعارض واختار الأول في فتح القدير واختار الثاني في البدائع مقتصرا عليه فقال : الصريح نوعان صريح رجعي وصريح بائن فالصريح الرجعي أن يكون الطلاق بعد الدخول حقيقة ليس مقرونا بعوض ولا بعدد الثلاث لا نصا ولا إشارة ولا موصوفا بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف ولا مشبه بعدد أو صفة تدل عليها وأما الصريح البائن فبخلافه وهو أن يكون بحروف الإبانة أو بحروف الطلاق لكن قبل الدخول حقيقة أو بعده لكن مقرونا بعدد الثلاث نصا أو إشارة أو موصوفا بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف أو مشبها بعدد أو صفة تدل عليها ا هـ .
وهو الظاهر لأن حد الصريح يشمل الكل وأما عدم صحة نية الإبانة فلأنه نوى تغيير الشرع لأن الشرع أثبت البينونة بهذا اللفظ مؤجلا إلى ما بعد انقضاء العدة فإذا نوى إثباتها للحال معجلا فقد نوى تغيير الشرع وليس له هذه الولاية فبطلت نيته الثاني وقوع الواحدة به ولا تصح نية الأكثر ثنتين أو ثلاثا وقال الأئمة الثلاثة : يقع ما نوى وهو قول الإمام الأول لأنه نوى محتمل لفظه لأن ذكر الطلاق ذكر للطلاق المصدر لأن الوصف كالفعل جزء مفهومه المصدر وهو يحتمله اتفاقا ولذا صح قران العدد به تفسيرا حتى ينصب على التمييز وحاصل التمييز ليس إلا تعيين أحد محتملات اللفظ ولذا صحت نية الثلاث في قوله أنت بائن وهو كناية ففي الصريح الأقوى أولى ولنا أن الشارع نقله من الإخبار إلى إنشاء الواحدة إذ لا يفهم من أنت طالق قط لازم الإخبار وهو احتمال الصدق ، والكذب فجعله موقعا به ما شاء استعمالا في غير المنقول إليه وملاحظة ما يصح أن يراد بالمصدر إنما يتفرع عن إرادة الاستعمال اللغوي ونقله إلى الإنشاء يباينه لأنه جعل اللفظ علة لدخول المعنى الخاص في الوجود المخالف لمقتضاه لغة على أن المصدر الذي يدل عليه اللفظ هو الانطلاق الذي هو وصفها وذلك لا يتعدد أصلا وبهذا يظهر عدم صحة إرادة الثلاث في مطلقة وطلقتك لأنه صار إنشاء في الواحدة غير ملاحظ فيه معنى اللغة وعلى هذا فالعدد نحو ثلاثا لا يكون صفة لمصدر الوصف بل لمصدر غيره أي طلاقا أي تطليقا ثلاثا كما ينصب في الفعل مصدر غيره مثل : { أنبتكم من الأرض نباتا } أو يضمر له فعل على الخلاف فيه بخلاف طلقتها وطلقي نفسك .
لأن المصدر المحتمل للكل مذكور لغة فصح إرادته منه لأنه لا نقل فيه إلى إيقاع واحدة ، وفيه أبحاث مذكورة في فتح القدير وإنما صحت نية الثلاث في الكنايات لأنها عاملة بحقائقها وهي متنوعة إلى غليظة وخفيفة فعند عدم النية يثبت الأخف للتيقن به قيد بالنية لأنه لو طلقها بعد الدخول واحدة ثم قال جعلت تلك التطليقة بائنة أو [ ص: 276 ] جعلتها ثلاثا اختلفت الروايات ، والصحيح أن على قول أبي حنيفة تصير بائنا وثلاثا وعلى قول محمد لا تصير بائنا ولا ثلاثا وعلى قول أبي يوسف يصح جعلها بائنا ولا يصح جعلها ثلاثا ولو طلق امرأته بعد الدخول واحدة ثم قال بعد العدة ألزمت امرأتي ثلاث تطليقات بتلك التطليقة أو قال ألزمتها تطليقتين بتلك التطليقة فهو على ما قال إن ألزمها ثلاثا فهي ثلاث ، وإن قال ألزمها تطليقتين فهي ثنتان ولو طلقها واحدة ثم راجعها ثم قال جعلت تلك التطليقة بائنة لا تصير بائنة لأنه لا يملك إبطال الرجعة ولو قال لها بعد الدخول إذا طلقتك واحدة فهي بائن أو هي ثلاث فطلقها واحدة فإنه يملك الرجعة ولا يكون بائنا ولا ثلاثا لأنه قدم القول قبل نزول الطلاق .
ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم قال جعلت هذه التطليقة بائنا أو قال جعلتها ثلاثا قال هذه المقالة قبل دخول الدار لا تلزمه هذه المقالة لأن التطليقة لم تقع عليها كذا في الخانية ، وفي التتمة : لو طلقها واحدة ثم قال جعلتها بائنة رأس الشهر قال إن لم يراجعها فهي بائن ، وإن راجعها فيما بين ذلك لا يكون بائنا ولو طلقها رجعية ثم قال جعلتها ثلاثا رأس الشهر ثم راجعها قال تكون رأس الشهر ثلاثا قال وليس يشبه قوله : جعلتها بائنا قوله جعلتها ثلاثا ا هـ .
أما قول محمد فظاهر وأما قول أبي يوسف فإن الرجعية تصير بائنة بانقضاء العدة وأما الواحدة فلا تصير ثلاثا وأما قول الإمام فلأنه يملك إيقاعها بائنة من الابتداء فيملك إلحاقها بالبائنة لأنه يملك إنشاء الإبانة في هذه الحالة كما كان يملكها في الابتداء ومعنى جعل الواحدة ثلاثا أنه ألحق بها تطليقتين أخريين لا أنه جعل الواحدة ثلاثا كذا في البدائع ، وفي الولوالجية لو قال أنت طالق ألبتة وقعت بائنة إلا إذا نوى تطليقة أخرى سوى قوله أنت طالق فهما بائنتان ا هـ .
الثالث عدم توقفه على النية ونقل فيه إجماع الفقهاء ولأن احتمال إرادة الطلاق عن غير قيد النكاح احتمال بعيد عند خطاب المرأة فلا عبرة به فصار اللفظ بمنزلة المعنى ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث أمره بالمراجعة ولم يسأله أنوى أم لا يدل على ذلك فإن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال كالعموم في المقال وعدل المصنف عن قوله ، وإن نوى غيره ليفيد أنه لو نوى غيره صدق ولذا قال في فتح القدير ثم قولنا لا يتوقف على النية معناه إذا لم ينو شيئا أصلا يقع لا أنه يقع ، وإن نوى شيئا آخر لما ذكر أنه إذا نوى الطلاق عن وثاق صدق إلى آخره ا هـ .
وحاصل ما ذكروه هنا ثلاثة ألفاظ الوثاق ، والقيد ، والعمل وكل منهما إما أن يذكر أو ينوى فإن ذكر فإما أن يقرن بالعدد أو لا فإن قرن بالعدد لا يلتفت إليه ويقع الطلاق بلا نية كما لو قال : أنت طالق ثلاثا من هذا القيد تطلق ثلاثا ولا يصدق في القضاء كما في المحيط .
وإن لم يقرن بالعدد وقع في ذكر العمل قضاء لا ديانة نحو أنت طالق من هذا العمل كما في البزازية وغيرها وهو يدل على أنه لو قال : علي الطلاق من ذراعي لا أفعل كذا كما يحلف به بعض العوام أنه يقع قضاء بالأولى ، وفي لفظي الوثاق ، والقيد لا يقع أصلا ، وإن لم يذكر شيئا من هذه الثلاثة وإنما نواها لا يدين في لفظ العمل أصلا ويدين في الوثاق ، والقيد ويقع قضاء إلا أن [ ص: 277 ] يكون مكرها ، والمرأة كالقاضي إذا سمعته أو أخبرها عدل لا يحل لها تمكينه هكذا اقتصر الشارحون وذكر في البزازية وذكر الأوزجندي أنها ترفع الأمر إلى القاضي فإن لم يكن لها بينة يحلفه فإن حلف فالإثم عليه ا هـ . ولا فرق في البائن بين الواحدة ، والثلاث ا هـ .
وهل لها أن تقتله إذا أراد جماعها بعد علمها بالبينونة فيه قولان ، والفتوى أنه ليس لها أن تقتله وعلى القول بقتله تقتله بالدواء فإن قتلته بالسلاح وجب القصاص عليها وليس لها أن تقتل نفسها وعليها أن تفدي نفسها بمال أو تهرب وليس له أن يقتلها إذا حرمت عليه ولا يقدر أن يتخلص منها بسبب أنه كلما هرب ردته بالسحر الكل في شرح المنظومة لابن الشحنة وسيأتي في فصل ما تحل به المطلقة أنه هل لها أن تتزوج بغيره في غيبته إذا علمت بالبينونة وهو ينكر قال في المصباح : والوثاق بفتح الواو وكسرها القيد وجمعه وثق كرباط وربط وأفاد بعدم توقفه على النية أنه لا يشترط العلم بمعناه فلو لقنته لفظ الطلاق فتلفظ به غير عالم بمعناه وقع قضاء لا ديانة وقال مشايخ أوزجند لا يقع أصلا صيانة لأملاك الناس عن الضياع بالتلبيس كما في البدائع كذا في البزازية ، والعتاق ، والتدبير .
والإبراء عن المهر كالطلاق كما في البزازية ، والطلاق وما معه يقاس على النكاح بخلاف البيع ، والإبراء لا يصحان إذا لم يعلم المعنى كما في الخانية وأفاد أن طلاق الهازل ، واللاعب ، والمخطئ واقع كما قدمناه لكنه في القضاء وأما فيما بينه وبين الله تعالى فلا يقع على المخطئ وما في الخلاصة من أن طلاق المخطئ واقع أي في القضاء بدليل أنه قال بعده : ولو كان بالعتاق يدين لأنه لا فرق بين العتاق ، والطلاق وهو الظاهر من قول الإمام كما في الخانية خلافا لأبي يوسف ولا خلاف أن المنذور يلزمه ولا خلاف أنه لو جرى على لسانه الكفر [ ص: 278 ] مخطئا لا يكفر كما في الخانية أيضا وكذا إذا تلفظ به غير عالم بمعناه وإنما يقع قضاء فقط بدليل ما في الخلاصة قالت لزوجها اقرأ علي اعتدي أنت طالق ثلاثا ففعل طلقت ثلاثا في القضاء لا فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يعلم الزوج ولم ينو بخلاف الهازل فإنه يقع عليه قضاء وديانة لأنه مكابر باللفظ فيستحق التغليظ وما في الخلاصة معزيا إلى الأصل له امرأتان زينب وعمرة فقال يا زينب فأجابته عمرة فقال أنت طالق ثلاثا طلقت المجيبة فلو قال نويت زينب طلقت هذه بالإشارة وتلك بالاعتراف ا هـ .
محمول على القضاء أما في الديانة فلا يقع على واحدة منهما لما في الحاوي معزيا إلى الجامع الصغير أن أسدا سئل عمن أراد أن يقول زينب طالق فجرى على لسانه عمرة على أيهما يقع الطلاق فقال في القضاء تطلق التي سمى ، وفيما بينه وبين الله تعالى لا تطلق واحدة منهما أما التي سمى فلانة لم يردها وأما غيرها فلأنها لو طلقت طلقت بمجرد النية قال في فتح القدير وأما ما روى عنهما نصير من أن من أراد أن يتكلم فجرى على لسانه الطلاق يقع ديانة وقضاء فلا يعول عليه ا هـ .
والحاصل أن قولهم الصريح لا يحتاج إلى النية إنما هو في القضاء أما في الديانة فمحتاج إليها لكن وقوعه في القضاء بلا نية إنما هو بشرط أن يقصدها بالخطاب بدليل ما قالوا لو كرر مسائل الطلاق بحضرة زوجته ويقول أنت طالق ولا ينوي لا تطلق ، وفي متعلم يكتب ناقلا من كتاب رجل قال ثم يقف ويكتب : امرأتي طالق وكلما كتب قرن الكتابة باللفظ بقصد الحكاية لا يقع عليه وما في القنية : امرأة كتبت أنت طالق ثم قالت لزوجها : اقرأ علي فقرأ لا تطلق ا هـ .
وأما ما في فتح القدير ولا بد من القصد بالخطاب بلفظ الطلاق عالما بمعناه أو النسبة إلى الغائبة كما يفيده فروع وذكر ما ذكرناه فليس بصحيح لأنه إن كان شرطا للوقوع قضاء وديانة فليس بصحيح لأنه صرح بالوقوع قضاء فيمن سبق لسانه ، وإن كان شرطا للوقوع ديانة لا قضاء فكذلك لأنه يقتضي الوقوع قضاء فيما لو كرر مسائل الطلاق بحضرتها ، وفي المتعلم وليس كذلك فالحق ما اقتصرنا عليه ، وفي القنية ظن أنه وقع الطلاق الثلاث على امرأته بإفتاء من لم يكن أهلا للفتوى وكلف الحاكم كتبها في الصك فكتبت ثم استفتى من هو أهل للفتوى فأفتى بأنها لا تقع ، والتطليقات مكتوبة في الصك بالظن فله أن يعود إليها فيما بينه وبين الله تعالى ولكن لا يصدق في الحكم ا هـ .
وهذا من باب الإقرار بالطلاق كاذبا وقدمنا [ ص: 279 ] أنه يقع قضاء لا ديانة ، وفي البزازية قال لها ما بقي لك سوى طلاق واحد فطلقها واحدا لا يمكن له التزوج بها وإقراره حجة عليه ولو قال لها بقي لك طلاق واحد ، والمسألة بحالها كان له أن يتزوج بها لأن التخصيص بالواحد لا يدل له على نفي بقاء الآخر لأن النص على العدد لا ينفي الزائد كما في أسماء الأجناس ا هـ .
وينبغي أن تكون المسألة الأولى إنما هو في القضاء أما في الديانة فلا يقع إلا ما كان أوقعه .
[ ص: 275 ]


