nindex.php?page=treesubj&link=25875_30457_32410_34091_7860_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كتب عليكم القتال وهو كره لكم بين سبحانه الطريق لدفع الضراء ، والآلام الداخلية ، وهو التعاون ، ثم بين بعد ذلك ما يدفع البأساء ، وهي الشدائد التي تدهم الجماعة من الخارج ، وهو أخذ الأهبة والاستعداد للقتال ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كتب عليكم القتال وهو كره وقد قرئ بضم الكاف وفتحها ، والضم أكثر ، وهو بمعنى الكراهة ; أي القتال لشدة ويلاته وما فيه من إزهاق الأرواح كأنه الكراهة نفسها ويصح أن يكون كره بمعنى المكروه أي خبز بمعنى المخبوز ، أي هو أمر مكروه في
[ ص: 681 ] ذاته وعلى قراءة الفتح يكون فيه معنى الإكراه ، فيكون المعنى عليه : كتب عليكم القتال ، وهو أمر أنتم تلجئون إليه إلجاء ، وتضطرون إليه اضطرارا ; إذ إن الكره ضد الطوع ; فكأنكم لا تدخلون الحرب طائعين ، بل تدخلونها مكرهين كارهين ، مضطرين غير مختارين ، ألجأكم إليها الاعتداء عليكم ، وانتهاك الحرمات والفتنة في الدين ، فأنتم مضطرون مكرهون على القتال ; لإزالة الفتنة وصونا للحرمات ، وذودا عن الدين ، تقاتلون حتى يكون الدين كله لله .
والأمر على قراءة الفتح واضح ; لأن القتال في الإسلام أمر غير مرغوب فيه لذاته ، إنما اضطر إليه المسلمون اضطرارا ، كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=39أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير
وأما على القراءة المشهورة ، وهي قراءة ضم الكاف ، فكيف كان القتال مكروها ، مع أن الصحابة كان الموت في سبيل الله أحب إليهم ، وكانوا يرون الشهادة في سبيل الحق غنما وليست غرما .
لقد قال المفسرون : إن القتال مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد تتلوها شدائد ، ومشقات تتلوها مشقات ; فلا يمكن أن يكون محبوبا مع ما فيه من صعاب ، ومع ما يكتنفه من شدائد ، فهو كان مكروها لشدائده ، والعافية أحب .
ولكن ذلك لا يتفق مع ما عرف عن
العرب عامة من أنهم أهل بأس وقوة ، وعزيمة ونجدة ، ولا ما عرف عن أصحاب محمد خاصة من أنهم كانوا يتنافسون على أماكن الردى ، يلقون بأنفسهم في مواطن الموت ، لا يهمهم إلا أن يغنموا النصر أو يغنموا الشهادة ، ففي كليهما فضل عظيم .
ولذا لا بد أن نبحث عن سبب آخر للكراهة ; وذلك السبب هو الذي يتفق مع الهدي المحمدي ، والمنزع الإسلامي ، ذلك أن الإسلام أودع قلوب المؤمنين رأفة ورحمة ، وإلفا وائتلافا ، وسلاما واطمئنانا ، وبرا بالرحم ، وحنانا على الأقربين ; وتلك المبادئ لا تلتقي في قلب مع الحب في إزهاق الروح ، وقتل النفوس ، وإلقاء الحتوف في ميادين القتال ، فليس من خلق المؤمن المحب للسلام ، أن يكون محبا
[ ص: 682 ] للقتال ، ولعله كان من الصحابة من يؤثرون مطاولة المشركين ، رجاء إيمانهم ، ورغبة في هدايتهم ، مساوقا بذلك الهدي الإسلامي ، ولكن الله سبحانه وتعالى كتب القتال مع هذه الكراهة ، لأنه الأهدى سبيلا بعد أن قامت الحجة ، ووضحت المحجة ، واستطالوا على المؤمنين بالأذى ، وأخرجوهم من ديارهم ، وألبوا العرب عليهم ، وجمعوا الجموع .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم أي عسى أن تكرهوا القتال رحمة بمخالفيكم ورجاء هدايتهم ، ورجاء الخير منهم ، وهم لا يريدون لكم إلا خبالا ، ولو سكتم عنهم لكان أمرهم وأمركم وبالا ، وفسدت أمورهم وأموركم ، واضطربت حالهم وحالكم ، فكانوا يغيرون عليكم ، وأنتم ساكتون ; ولو قاتلتموهم وأريتموهم الحق مؤيدا بالسلاح يقمع رءوس المعاندين المعتدين الذين يفتنون الناس عن دينهم ويحاولون نشر الفساد ، لكان ذلك خيرا لكم ولهم . ووجه الخير لكم أنه رد الاعتداء ، ووقف الأعداء ، والذود عن الحياض ; وأما وجه الخير لهم فهو أنهم عساهم يهتدون ; فإن الناس أقسام ثلاثة في قبول الحق : نوع يقنعه الدليل ويهديه البرهان ، ونوع تجديه الموعظة الحسنة ، ونوع جائر بائر طاغ فاسد مفسد لا تجدي فيه الموعظة ولا يقنعه الدليل ، فقال الله فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنـزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس فبقتاله قد يسكت عن الشر واللجاجة فيه ، ويتدبر الأمر من جديد ، كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبو سفيان في غزوة : لو كانت آلهتنا تنفع وتضر لنفعتنا ! فكان ذلك هو السبيل لدخول الإيمان إلى قلبه ، فآمن وصار من المهتدين وإن لم يكن من السابقين بالقبول والإحسان .
ثم عسى أن تحبوا الأمن والسلام وتؤثروا المحبة على الخصام ، وأعداؤكم يتربصون بكم الدوائر ، ويرتعون في الشر رتعا شديدا ، فلو تركتموهم وأمرهم لكان ذلك شرا لكم ، ولكانوا هم قوما بورا ، لا يرشدون ولا يسترشدون ; فمن الرحمة ما تحوي في نفسها أقسى الظلم ، ومن الرفق ما يشجع أشد العنف ; ولذا ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216والله يعلم وأنتم لا تعلمون فالله يعلم مغيب الأمور
[ ص: 683 ] ومكنون المستقبل وأنتم لا تعلمون ، والله يعلم ما تكنه الصدور وما تخفيه وأنتم لا تعلمون ، والله يعلم ما تصلح به أمور الناس في الدنيا والآخرة وأنتم لا تعلمون ; وأنى يكون علم المخلوق كعلم الخالق ، وعلم الناقص كعلم الكامل ، وعلم القاصر كعلم اللطيف الخبير ! .
وقبل أن ننهي الكلام في تفسير هذه الآية نقرر أمرين :
أحدهما : أن قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم هي قضية عامة في كل التكليفات الشرعية يجب أن نقر صاغرين بها ، وأن نقبلها طائعين ما دامت قد ثبتت بدليل قطعي لا شبهة فيه ، وألا نمكن أهواءنا من التحكم في أمور ديننا ، فعسى أن يكون ما نحب شرا ، وما نكره خيرا ; كما يجب ألا نتململ بأحكام الشارع بدعوى معارضتها للمصالح ، أو لروح العصر ، فقد يكون ذلك هوى لا مصلحة ، وفسادا ومضرة . وليس صلاحا ومنفعة ! .
ثانيهما : أن هذه الآية فيها فرضية القتال ; وظاهرها أنها تفرض الجهاد على جميع الناس القادرين عليه ، وقد قال بعض العلماء لهذا : إن
nindex.php?page=treesubj&link=7918الجهاد فرض عين على القادرين عليه ; ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "
من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية " وقال بعض العلماء : إن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الحرج عن الباقين ; وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين ، وإذا استغيث أن يغيث ، وإذا استنفر أن ينفر . وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسلمين ، كل بمقدار قدرته ; وقد ابتلى الله أكثر البلاد الإسلامية بالعدو نزل بساحتها ، فالجهاد حق على كل مسلم حتى لا يكون فيها عدو متحكم ، وتكون العزة لله ولرسوله ، وللمؤمنين .
* * *
nindex.php?page=treesubj&link=25875_30457_32410_34091_7860_28973nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ الطَّرِيقَ لِدَفْعِ الضَّرَّاءِ ، وَالْآلَامِ الدَّاخِلِيَّةِ ، وَهُوَ التَّعَاوُنُ ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ الْبَأْسَاءَ ، وَهِيَ الشَّدَائِدُ الَّتِي تَدْهَمُ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْخَارِجِ ، وَهُوَ أَخْذُ الْأُهْبَةِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْقِتَالِ ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ وَقَدْ قُرِئَ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا ، وَالضَّمُّ أَكْثَرُ ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ ; أَيِ الْقِتَالُ لِشِدَّةِ وَيْلَاتِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ إِزْهَاقِ الْأَرْوَاحِ كَأَنَّهُ الْكَرَاهَةُ نَفْسُهَا وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ كُرْهٌ بِمَعْنَى الْمَكْرُوهِ أَيْ خُبْزٌ بِمَعْنَى الْمَخْبُوزِ ، أَيْ هُوَ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ فِي
[ ص: 681 ] ذَاتِهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ، وَهُوَ أَمْرٌ أَنْتُمْ تَلْجَئُونَ إِلَيْهِ إِلْجَاءً ، وَتَضْطَرُّونَ إِلَيْهِ اضْطِرَارًا ; إِذْ إِنَّ الْكَرْهُ ضِدُّ الطَّوْعِ ; فَكَأَنَّكُمْ لَا تَدْخُلُونَ الْحَرْبَ طَائِعِينَ ، بَلْ تَدْخُلُونَهَا مُكْرَهِينَ كَارِهِينَ ، مُضْطَرِّينَ غَيْرَ مُخْتَارِينَ ، أَلْجَأَكُمْ إِلَيْهَا الِاعْتِدَاءُ عَلَيْكُمْ ، وَانْتِهَاكُ الْحُرُمَاتِ وَالْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ ، فَأَنْتُمْ مُضْطَرُّونَ مُكْرَهُونَ عَلَى الْقِتَالِ ; لِإِزَالَةِ الْفِتْنَةِ وَصَوْنًا لِلْحُرُمَاتِ ، وَذَوْدًا عَنِ الدِّينِ ، تُقَاتِلُونَ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ .
وَالْأَمْرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الْقِتَالَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ لِذَاتِهِ ، إِنَّمَا اضْطَرَّ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ اضْطِرَارًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=39أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ضَمِّ الْكَافِ ، فَكَيْفَ كَانَ الْقِتَالُ مَكْرُوهًا ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ الْمَوْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ غُنْمًا وَلَيْسَتْ غُرْمًا .
لَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِنَّ الْقِتَالَ مَهْمَا يَكُنْ أَمْرُهُ فِيهِ وَيْلَاتٌ وَشَدَائِدُ تَتْلُوهَا شَدَائِدُ ، وَمَشَقَّاتٌ تَتْلُوهَا مَشَقَّاتٌ ; فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ صِعَابٍ ، وَمَعَ مَا يَكْتَنِفُهُ مِنْ شَدَائِدَ ، فَهُوَ كَانَ مَكْرُوهًا لِشَدَائِدِهِ ، وَالْعَافِيَةُ أَحَبُّ .
وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا عُرِفَ عَنِ
الْعَرَبِ عَامَّةً مِنْ أَنَّهُمْ أَهْلُ بَأْسٍ وَقُوَّةٍ ، وَعَزِيمَةٍ وَنَجْدَةٍ ، وَلَا مَا عُرِفَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ عَلَى أَمَاكِنِ الرَّدَى ، يُلْقُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فِي مُوَاطِنِ الْمَوْتِ ، لَا يَهُمُّهُمْ إِلَّا أَنْ يَغْنَمُوا النَّصْرَ أَوْ يَغْنَمُوا الشَّهَادَةَ ، فَفِي كِلَيْهِمَا فَضْلٌ عَظِيمٌ .
وَلِذَا لَا بُدَّ أَنْ نَبْحَثَ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ لِلْكَرَاهَةِ ; وَذَلِكَ السَّبَبُ هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ الْهَدْيِ الْمُحَمَّدِيِّ ، وَالْمَنْزَعِ الْإِسْلَامِيِّ ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَوْدَعَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ، وَإِلْفًا وَائْتِلَافًا ، وَسَلَامًا وَاطْمِئْنَانًا ، وَبِرًّا بِالرَّحِمِ ، وَحَنَانًا عَلَى الْأَقْرَبِينَ ; وَتِلْكَ الْمَبَادِئُ لَا تَلْتَقِي فِي قَلْبٍ مَعَ الْحُبِّ فِي إِزْهَاقِ الرُّوحِ ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ ، وَإِلْقَاءِ الْحُتُوفِ فِي مَيَادِينِ الْقِتَالِ ، فَلَيْسَ مِنْ خُلُقِ الْمُؤْمِنِ الْمُحِبِّ لِلسَّلَامِ ، أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا
[ ص: 682 ] لِلْقِتَالِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ يُؤْثِرُونَ مُطَاوَلَةَ الْمُشْرِكِينَ ، رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ ، وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِمْ ، مُسَاوِقًا بِذَلِكَ الْهِدْيَ الْإِسْلَامِيَّ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَبَ الْقِتَالَ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ ، لِأَنَّهُ الْأَهْدَى سَبِيلًا بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الْحُجَّةُ ، وَوَضَحَتِ الْمَحَجَّةُ ، وَاسْتَطَالُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَذَى ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَأَلَّبُوا الْعَرَبَ عَلَيْهِمْ ، وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ أَيْ عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا الْقِتَالَ رَحْمَةً بِمُخَالِفِيكُمْ وَرَجَاءَ هِدَايَتِهِمْ ، وَرَجَاءَ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ لَكُمْ إِلَّا خَبَالًا ، وَلَوْ سَكَتُّمْ عَنْهُمْ لَكَانَ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُكُمْ وَبَالًا ، وَفَسَدَتْ أُمُورُهُمْ وَأُمُورُكُمْ ، وَاضْطَرَبَتْ حَالُهُمْ وَحَالُكُمْ ، فَكَانُوا يُغِيرُونَ عَلَيْكُمْ ، وَأَنْتُمْ سَاكِتُونَ ; وَلَوْ قَاتَلْتُمُوهُمْ وَأَرَيْتُمُوهُمُ الْحَقَّ مُؤَيَّدًا بِالسِّلَاحِ يَقْمَعُ رُءُوسَ الْمُعَانِدِينَ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ يَفْتِنُونَ النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ وَيُحَاوِلُونَ نَشْرَ الْفَسَادِ ، لَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَكُمْ وَلَهُمْ . وَوَجْهُ الْخَيْرِ لَكُمْ أَنَّهُ رَدُّ الِاعْتِدَاءِ ، وَوَقْفُ الْأَعْدَاءِ ، وَالذَّوْدُ عَنِ الْحِيَاضِ ; وَأَمَّا وَجْهُ الْخَيْرِ لَهُمْ فَهُوَ أَنَّهُمْ عَسَاهُمْ يَهْتَدُونَ ; فَإِنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ فِي قَبُولِ الْحَقِّ : نَوْعٌ يُقْنِعُهُ الدَّلِيلُ وَيَهْدِيهِ الْبُرْهَانُ ، وَنَوْعٌ تُجْدِيهِ الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ ، وَنَوْعٌ جَائِرٌ بَائِرٌ طَاغٍ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لَا تُجْدِي فِيهِ الْمَوْعِظَةُ وَلَا يُقْنِعُهُ الدَّلِيلُ ، فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْـزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فَبِقِتَالِهِ قَدْ يَسْكُتُ عَنِ الشَّرِّ وَاللَّجَاجَةِ فِيهِ ، وَيَتَدَبَّرُ الْأَمْرَ مِنْ جَدِيدٍ ، كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12026أَبُو سُفْيَانَ فِي غَزْوَةٍ : لَوْ كَانَتْ آلِهَتُنَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ لَنَفَعَتْنَا ! فَكَانَ ذَلِكَ هُوَ السَّبِيلُ لِدُخُولِ الْإِيمَانِ إِلَى قَلْبِهِ ، فَآمَنَ وَصَارَ مِنَ الْمُهْتَدِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّابِقِينَ بِالْقَبُولِ وَالْإِحْسَانِ .
ثُمَّ عَسَى أَنْ تُحِبُّوا الْأَمْنَ وَالسَّلَامَ وَتُؤْثِرُوا الْمَحَبَّةَ عَلَى الْخِصَامِ ، وَأَعْدَاؤُكُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ، وَيَرْتَعُونَ فِي الشَّرِّ رَتْعًا شَدِيدًا ، فَلَوْ تَرَكْتُمُوهُمْ وَأَمَرَهُمْ لَكَانَ ذَلِكَ شَرًّا لَكُمْ ، وَلَكَانُوا هُمْ قَوْمًا بُورًا ، لَا يَرْشُدُونَ وَلَا يَسْتَرْشِدُونَ ; فَمِنَ الرَّحْمَةِ مَا تَحْوِي فِي نَفْسِهَا أَقْسَى الظُّلْمِ ، وَمِنَ الرِّفْقِ مَا يُشَجِّعُ أَشَدَّ الْعُنْفِ ; وَلِذَا ذَيَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَةَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَغِيبَ الْأُمُورِ
[ ص: 683 ] وَمَكْنُونَ الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ الصُّدُورُ وَمَا تُخْفِيهِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْلُحُ بِهِ أُمُورُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ; وَأَنَّى يَكُونُ عِلْمُ الْمَخْلُوقِ كَعِلْمِ الْخَالِقِ ، وَعِلْمُ النَّاقِصِ كَعِلْمِ الْكَامِلِ ، وَعِلْمُ الْقَاصِرِ كَعِلْمِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ ! .
وَقَبْلَ أَنْ نُنْهِيَ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ نُقَرِّرُ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=216وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ هِيَ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ التَّكْلِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ أَنْ نُقِرَّ صَاغِرِينَ بِهَا ، وَأَنْ نَقْبَلَهَا طَائِعِينَ مَا دَامَتْ قَدْ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ ، وَأَلَّا نُمَكِّنَ أَهْوَاءَنَا مِنَ التَّحَكُّمِ فِي أُمُورِ دِينِنَا ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَا نُحِبُّ شَرًّا ، وَمَا نَكْرَهُ خَيْرًا ; كَمَا يَجِبُ أَلَّا نَتَمَلْمَلَ بِأَحْكَامِ الشَّارِعِ بِدَعْوَى مُعَارَضَتِهَا لِلْمَصَالِحِ ، أَوْ لِرُوحِ الْعَصْرِ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ هَوًى لَا مَصْلَحَةً ، وَفَسَادًا وَمَضَرَّةً . وَلَيْسَ صَلَاحًا وَمَنْفَعَةً ! .
ثَانِيهِمَا : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا فَرْضِيَّةُ الْقِتَالِ ; وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا تَفْرِضُ الْجِهَادَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِهَذَا : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=7918الْجِهَادَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ ; وَلَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الْجِهَادَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ ; وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزُّهْرِيُّ : الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ غَزَا أَوْ قَعَدَ ، فَالْقَاعِدُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعِينَ أَنْ يُعِينَ ، وَإِذَا اسْتُغِيثَ أَنْ يُغِيثَ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرَ أَنْ يَنْفِرَ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ بِسَاحَةِ الْبِلَادِ وَجَبَ الْقِتَالُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ ، كُلٌّ بِمِقْدَارِ قُدْرَتِهِ ; وَقَدِ ابْتَلَى اللَّهُ أَكْثَرَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِالْعَدُوِّ نَزَلَ بِسَاحَتِهَا ، فَالْجِهَادُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا عَدُوٌّ مُتَحَكِّمٌ ، وَتَكُونَ الْعِزَّةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ .
* * *