[ ص: 191 ] قال شيخ الإسلام رحمه الله وقدس سره : - فصل ( الأقوال نوعان : أقوال ثابتة عن الأنبياء فهي معصومة ; يجب أن يكون معناها حقا عرفه من عرفه وجهله من جهله والبحث عنها إنما هو عما أرادته الأنبياء ; فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبعا له ; فإن وافقه قبله وإلا رده وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلا مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء فهو محرف للكلم عن مواضعه لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم .
النوع الثاني : ما ليس منقولا عن الأنبياء فمن سواهم ليس معصوما فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده ومعرفة صلاحه من فساده
[ ص: 192 ] فمن قال من أهل الكلام : إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب ; بل يفعل عندها لا بها ولا يفعل لحكمة ولا في الأفعال المأمور بها ما لأجله كانت حسنة ولا المنهي عنها ما لأجله كانت سيئة فهذا مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة من
السلف . وأول من قاله في الإسلام
جهم بن صفوان الذي أجمعت الأمة على ضلالته ; فإنه
nindex.php?page=treesubj&link=28790_28836_28713أول من أنكر الأسباب والطبائع كما أنه
nindex.php?page=treesubj&link=28836_28712_28713أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات nindex.php?page=treesubj&link=28836_28713وأول من قال بخلق كلام الله وإنكار رؤيته في الآخرة .
ونصوص الكتاب والسنة في إبطال هذا كثيرة جدا كقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2573&ayano=21قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم } فسلب النار طبيعتها . وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5765&ayano=78لنخرج به حبا ونباتا } وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1018&ayano=7حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } فأخبر أن الرياح تقل السحاب أي تحمله فجعل هذا الجماد فاعلا بطبعه .
وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2622&ayano=22اهتزت وربت وأنبتت } فجعلها فاعلة بطبعها . وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3510&ayano=31فأنبتنا فيها من كل زوج كريم } وهو الكثير المنفعة والزوج الصنف . والأدلة في ذلك كثيرة يخبر فيها أنه يخلق بالأسباب والحكم وأخبر أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا فلا يضع شيئا في غير موضعه ولا يسوي بين مختلفين ولا يفرق بين متماثلين كما قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4539&ayano=45أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم } الآية . وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4026&ayano=38أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } الآية وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5374&ayano=68أفنجعل المسلمين كالمجرمين } الآية . وقال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3714&ayano=35وما يستوي الأعمى والبصير } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3715&ayano=35ولا الظلمات } الآية وغيرها كثير . وقوله : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1118&ayano=7الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } الآية . فدلت هذه الآية وغيرها : على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب فهو مناسب لها مصلح لفسادها ; ليس معنى كونه معروفا أنه مأمور به إذ هذا قدر مشترك فعلم أن ما يأمر به رسوله مختص وما نهى عنه مختص بأنه منكر محذور وما يحله مختص بأنه طيب وما يحرمه مختص بأنه خبيث ومثل هذا كثير في القرآن وغيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ ص: 191 ] قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّسَ سِرَّهُ : - فَصْلٌ ( الْأَقْوَالُ نَوْعَانِ : أَقْوَالٌ ثَابِتَةٌ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ مَعْصُومَةٌ ; يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا حَقًّا عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَالْبَحْثُ عَنْهَا إنَّمَا هُوَ عَمَّا أَرَادَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ ; فَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِهِمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُعْرَفُ مُرَادُهُمْ فَقَدْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى وَمَنْ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالُوهُ تَبَعًا لَهُ ; فَإِنْ وَافَقَهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ وَتَكَلَّفَ لَهُ مِنْ التَّحْرِيفِ مَا يُسَمِّيهِ تَأْوِيلًا مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَهُ لَمْ تُرِدْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مُحَرِّفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ لَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا لَيْسَ مَنْقُولًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ فَمَنْ سِوَاهُمْ لَيْسَ مَعْصُومًا فَلَا يُقْبَلُ كَلَامُهُ وَلَا يُرَدُّ إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ مُرَادِهِ وَمَعْرِفَةِ صَلَاحِهِ مِنْ فَسَادِهِ
[ ص: 192 ] فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : إنَّهُ لَا يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ بِالْأَسْبَابِ ; بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا وَلَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَلَا فِي الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَا لِأَجْلِهِ كَانَتْ حَسَنَةً وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مَا لِأَجْلِهِ كَانَتْ سَيِّئَةً فَهَذَا مُخَالِفٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ
السَّلَفِ . وَأَوَّلُ مَنْ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ
جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ الَّذِي أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَتِهِ ; فَإِنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28790_28836_28713أَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ الْأَسْبَابَ وَالطَّبَائِعَ كَمَا أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28836_28712_28713أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الصِّفَاتِ nindex.php?page=treesubj&link=28836_28713وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ .
وَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي إبْطَالِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2573&ayano=21قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ } فَسَلَبَ النَّارَ طَبِيعَتَهَا . وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5765&ayano=78لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1018&ayano=7حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّيَاحَ تُقِلُّ السَّحَابَ أَيْ تَحْمِلُهُ فَجَعَلَ هَذَا الْجَمَادَ فَاعِلًا بِطَبْعِهِ .
وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2622&ayano=22اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ } فَجَعَلَهَا فَاعِلَةً بِطَبْعِهَا . وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3510&ayano=31فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } وَهُوَ الْكَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ وَالزَّوْجُ الصِّنْفُ . وَالْأَدِلَّةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ يُخْبِرُ فِيهَا أَنَّهُ يَخْلُقُ بِالْأَسْبَابِ وَالْحُكْمِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا فَلَا يَضَعُ شَيْئًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ كَمَا قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4539&ayano=45أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ } الْآيَةَ . وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=4026&ayano=38أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=5374&ayano=68أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=3714&ayano=35وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } {
nindex.php?page=tafseer&surano=3715&ayano=35وَلَا الظُّلُمَاتُ } الْآيَةَ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ . وَقَوْلِهِ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=1118&ayano=7الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } الْآيَةَ . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا : عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي نَفْسِهِ تَعْرِفُهُ الْقُلُوبُ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لَهَا مُصْلِحٌ لِفَسَادِهَا ; لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَعْرُوفًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ إذْ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَعُلِمَ أَنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ رَسُولَهُ مُخْتَصٌّ وَمَا نَهَى عَنْهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مَحْذُورٌ وَمَا يُحِلُّهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ طَيِّبٌ وَمَا يُحَرِّمُهُ مُخْتَصٌّ بِأَنَّهُ خَبِيثٌ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .