ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ... . .
[ ص: 976 ] بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان ، وغاية كيده ، وثمرة رجسه . . إنها
nindex.php?page=treesubj&link=17196_28798إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد "الذين آمنوا " عن ذكر الله وعن الصلاة . . ويا لها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون أن يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم ، وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصاحبها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات وأحقاد ; إذ المقمور لا بد أن يحقد على قامره الذي يستولي على ماله أمام عينيه ، ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء ، مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28798الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي ، والميسر يلهي ، وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم المقامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب "الذين آمنوا " وتحفزها ، يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه وهو يسمع :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91فهل أنتم منتهون ؟
فيجيب لتوه : "انتهينا . انتهينا . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=92وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا. فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . .
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله : طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة ، والتهديد الملفوف :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=92فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . .
وقد بلغ وبين ، فتحددت التبعة على المخالفين ، بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم ، في هذا الأسلوب الملفوف ، الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأدى ; ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم ، وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين !
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب ، فتفتح له مغاليقها ، وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي :
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود بسنده عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - : "كل مخمر خمر . وكل مسكر حرام . .
وخطب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحضر جماعة من الصحابة فقال : "يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل . . (ذكره
القرطبي في تفسيره ) .
[ ص: 977 ] فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر . . وأنه ليس مقصورا على نوع بعينه . وأن كل ما أسكر فهو حرام .
إن غيبوبة السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة ، مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها ، وفي صيانتها من الضعف والفساد ، وفي حماية نفسه وماله وعرضه ، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ; فعليه في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه ، وتكاليف لنفسه ، وتكاليف لأهله ، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها ، وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع ، فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ; وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق ، وأن يواجهوها ، ويعيشوا فيها ، ويصرفوا حياتهم وفقها ، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ; أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل ، ووهن العزيمة ، وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة ، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الإنسان .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية . أو في اعتبار شربها هو المحرم . والأول قول الجمهور ، والثاني قول
ربيعة nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد nindex.php?page=showalam&ids=15215والمزني صاحب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين . . وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات ، وذكر فيها تحريم الخمر ، ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة ، مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا : فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم (أي قبل تحريمها ) .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ; يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع ، أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ; وهي رجس من عمل الشيطان ، ماتوا والرجس في بطونهم ! عندئذ نزلت هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات. ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين . .
نزلت لتقرر أولا أن
nindex.php?page=treesubj&link=29703_30504ما لم يحرم لا يحرم ; وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ; وأنه لا يحرم بأثر رجعي ; فلا عقوبة إلا بنص ; سواء في الدنيا أو في الآخرة ; لأن النص هو الذي ينشئ الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم ، وهي لم تحرم بعد ، ليس عليهم جناح ; فإنهم لم يتناولوا محرما ; ولم يرتكبوا معصية . . لقد
[ ص: 978 ] كانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس : هل هو ناشئ عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها ، أم إنه ناشئ عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها ، أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم ، أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته ، أو من ناحية مصلحة الجماعة . .
فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ; والطاعة لأمره واجبة ، والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد : إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه ! ! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ; وما يراه علة قد لا يكون هو العلة . والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ ، سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام - وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها ، وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟
ونخلص من هذا إلى تركيب الآية ودلالة هذا التركيب :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا، إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات. ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين . .
ولم أجد في أقوال المفسرين ما تستريح إليه النفس في صياغة العبارة القرآنية على هذا النحو وتكرار التقوى مرة مع الإيمان والعمل الصالح ، ومرة مع الإيمان ، ومرة مع الإحسان . . كذلك لم أجد في تفسيري لهذا التكرار في الطبعة الأولى من هذه الظلال ما تستريح إليه نفسي الآن . . وأحسن ما قرأت - وإن كان لا يبلغ من حسي مبلغ الارتياح - هو ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري : "الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل . والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق والثالث الاتقاء بالإحسان والتقرب بالنوافل " . .
وكان الذي ذكرته في الطبعة الأولى في هذا الموضع هو : "إنه توكيد عن طريق التفصيل بعد الإجمال . فقد أجمل التقوى والإيمان والعمل الصالح في الأولى . ثم جعل التقوى مرة مع الإيمان في الثانية ، ومرة مع الإحسان - وهو العمل الصالح - في الثالثة . . ذلك التوكيد مقصود هنا للاتكاء على هذا المعنى . ولإبراز ذلك القانون الثابت في تقدير الأعمال بما يصاحبها من شعور باطني . فالتقوى . . تلك الحساسية المرهفة برقابة الله ، والاتصال به في كل لحظة . والإيمان بالله والتصديق بأوامره ونواهيه ، والعمل الصالح الذي هو الترجمة
[ ص: 979 ] الظاهرة للعقيدة المستكنة . والترابط بين العقيدة الباطنة والعمل المعبر عنها . . هذه هي مناط الحكم ، لا الظواهر والأشكال . . وهذه القاعدة تحتاج إلى التوكيد والتكرار والبيان " .
وأنا ، اللحظة لا أجد في هذا القول ما يريح أيضا . . ولكنه لم يفتح علي بشيء آخر . . والله المستعان .
ثُمَّ يَسْتَمِرُّ السِّيَاقُ فِي كَشْفِ خُطَّةِ الشَّيْطَانِ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الرِّجْسِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ... . .
[ ص: 976 ] بِهَذَا يَنْكَشِفُ لِضَمِيرِ الْمُسْلِمِ هَدَفُ الشَّيْطَانِ ، وَغَايَةُ كَيْدِهِ ، وَثَمَرَةُ رِجْسِهِ . . إِنَّهَا
nindex.php?page=treesubj&link=17196_28798إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فِي الصَّفِّ الْمُسْلِمِ - فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - كَمَا أَنَّهَا هِيَ صَدُّ "الَّذِينَ آمَنُوا " عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ . . وَيَا لَهَا إِذَنْ مِنْ مَكِيدَةٍ !
وَهَذِهِ الْأَهْدَافُ الَّتِي يُرِيدُهَا الشَّيْطَانُ أُمُورٌ وَاقِعَةٌ يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَرَوْهَا فِي عَالَمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ تَصْدِيقِهَا مِنْ خِلَالِ الْقَوْلِ الْإِلَهِيِّ الصَّادِقِ بِذَاتِهِ . فَمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى طُولِ بَحْثٍ حَتَّى يَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ - فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ - بَيْنَ النَّاسِ . فَالْخَمْرُ بِمَا تَفْقِدُ مِنَ الْوَعْيِ وَبِمَا تُثِيرُ مِنْ عِرَامَةِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ ، وَبِمَا تُهَيِّجُ مِنْ نَزَوَاتٍ وَدُفُعَاتٍ . وَالْمَيْسِرُ الَّذِي يُصَاحِبُهَا وَتُصَاحِبُهُ بِمَا يَتْرُكُهُ فِي النُّفُوسِ مِنْ خَسَارَاتٍ وَأَحْقَادٍ ; إِذِ الْمَقْمُورُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْقِدَ عَلَى قَامِرِهِ الَّذِي يَسْتَوْلِي عَلَى مَالِهِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ ، وَيَذْهَبُ بِهِ غَانِمًا وَصَاحِبُهُ مَقْمُورٌ مَقْهُورٌ . . إِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنْ تُثِيرَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، مَهْمَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْقُرَنَاءِ فِي مَجَالَاتٍ مِنَ الْعَرْبَدَةِ وَالِانْطِلَاقِ اللَّذَيْنِ يُخَيَّلُ لِلنَّظْرَةِ السَّطْحِيَّةِ أَنَّهُمَا أُنْسٌ وَسَعَادَةٌ !
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28798الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، فَلَا يَحْتَاجَانِ إِلَى نَظَرٍ . . فَالْخَمْرُ تُنْسِي ، وَالْمَيْسِرُ يُلْهِي ، وَغَيْبُوبَةُ الْمَيْسِرِ لَا تَقِلُّ عَنْ غَيْبُوبَةِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُقَامِرِينَ ; وَعَالَمُ الْمُقَامِرِ كَعَالَمِ السِّكِّيرِ لَا يَتَعَدَّى الْمَوَائِدَ وَالْأَقْدَاحَ وَالْقِدَاحَ !
وَهَكَذَا عِنْدَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَدَفِ الشَّيْطَانِ مِنْ هَذَا الرِّجْسِ غَايَتَهَا مِنْ إِيقَاظِ قُلُوبِ "الَّذِينَ آمَنُوا " وَتُحَفِّزُهَا ، يَجِيءُ السُّؤَالُ الَّذِي لَا جَوَابَ لَهُ عِنْدَئِذٍ إِلَّا جَوَابَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَسْمَعُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=91فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ؟
فَيُجِيبُ لِتَوِّهِ : "انْتَهَيْنَا . انْتَهَيْنَا . .
وَلَكِنَّ السِّيَاقَ يَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ يُوقِعُ إِيقَاعَهُ الْكَبِيرَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=92وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ . .
إِنَّهَا الْقَاعِدَةُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الْأَمْرُ كُلُّهُ : طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ الرَّسُولِ . . الْإِسْلَامُ . . الَّذِي لَا تَبْقَى مَعَهُ إِلَّا الطَّاعَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . وَالْحَذَرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ ، وَالتَّهْدِيدُ الْمَلْفُوفُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=92فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ . .
وَقَدْ بَلَّغَ وَبَيَّنَ ، فَتَحَدَّدَتِ التَّبِعَةُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ ، بَعْدَ الْبَلَاغِ الْمُبِينِ . .
إِنَّهُ التَّهْدِيدُ الْقَاصِمُ ، فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمَلْفُوفِ ، الَّذِي تَرْتَعِدُ لَهُ فَرَائِصُ الْمُؤْمِنِينَ ! . . إِنَّهُمْ حِينَ يَعْصُونَ وَلَا يُطِيعُونَ لَا يَضُرُّونَ أَحَدًا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ . لَقَدْ بَلَّغَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدَّى ; وَلَقَدْ نَفَضَ يَدَيْهِ مِنْ أَمْرِهِمْ إِذَنْ فَمَا هُوَ بِمَسْؤُولٍ عَنْهُمْ ، وَمَا هُوَ بِدَافِعٍ عَنْهُمْ عَذَابًا - وَقَدْ عَصَوْهُ وَلَمْ يُطِيعُوهُ - وَلَقَدْ صَارَ أَمْرُهُمْ كُلُّهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مُجَازَاةِ الْعُصَاةِ الْمُتَوَلِّينَ !
إِنَّهُ الْمَنْهَجُ الرَّبَّانِيُّ يَطْرُقُ الْقُلُوبَ ، فَتَفْتَحُ لَهُ مَغَالِيقَهَا ، وَتَتَكَشَّفُ لَهُ فِيهَا الْمَسَالِكُ وَالدُّرُوبُ . .
وَلَعَلَّهُ يَحْسُنُ هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ مَا هِيَ الْخَمْرُ الَّتِي نَزَلَ فِيهَا هَذَا النَّهْيُ :
أَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=11998أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - : "كُلُّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ . وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . .
وَخَطَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ : مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ . وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ . . (ذَكَرَهُ
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ) .
[ ص: 977 ] فَدَلَّ هَذَا وَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ تَشْمَلُ كُلَّ مُخَمَّرٍ يُحْدِثُ السُّكْرَ . . وَأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى نَوْعٍ بِعَيْنِهِ . وَأَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ .
إِنَّ غَيْبُوبَةَ السُّكْرِ - بِأَيِّ مُسْكِرٍ - تُنَافِي الْيَقَظَةَ الدَّائِمَةَ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِسْلَامُ عَلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ لِيَكُونَ مَوْصُولًا بِاللَّهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ، مُرَاقِبًا لِلَّهِ فِي كُلِّ خَطَرَةٍ . ثُمَّ لِيَكُونَ بِهَذِهِ الْيَقَظَةِ عَامِلًا إِيجَابِيًّا فِي نَمَاءِ الْحَيَاةِ وَتَجَدُّدِهَا ، وَفِي صِيَانَتِهَا مِنَ الضَّعْفِ وَالْفَسَادِ ، وَفِي حِمَايَةِ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ ، وَحِمَايَةِ أَمْنِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ وَشَرِيعَتِهَا وَنِظَامِهَا مِنْ كُلِّ اعْتِدَاءٍ . وَالْفَرْدُ الْمُسْلِمُ لَيْسَ مَتْرُوكًا لِذَاتِهِ وَلِلَذَّاتِهِ ; فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ تَكَالِيفُ تَسْتَوْجِبُ الْيَقَظَةَ الدَّائِمَةَ . تَكَالِيفُ لِرَبِّهِ ، وَتَكَالِيفُ لِنَفْسِهِ ، وَتَكَالِيفُ لِأَهْلِهِ ، وَتَكَالِيفُ لِلْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا ، وَتَكَالِيفُ لِلْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا لِيَدْعُوَهَا وَيَهْدِيَهَا . وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْيَقَظَةِ الدَّائِمَةِ لِيَنْهَضَ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ . وَحَتَّى حِينَ يَسْتَمْتِعُ بِالطَّيِّبَاتِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ يَقِظًا لِهَذَا الْمَتَاعِ ، فَلَا يُصْبِحُ عَبْدًا لِشَهْوَةٍ أَوْ لَذَّةٍ . إِنَّمَا يُسَيْطِرُ دَائِمًا عَلَى رَغَبَاتِهِ فَيُلَبِّيهَا تَلْبِيَةَ الْمَالِكِ لِأَمْرِهِ . . وَغَيْبُوبَةُ السُّكْرِ لَا تَتَّفِقُ فِي شَيْءٍ مَعَ هَذَا الِاتِّجَاهِ .
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْغَيْبُوبَةَ فِي حَقِيقَتِهَا إِنْ هِيَ إِلَّا هُرُوبٌ مِنْ وَاقِعِ الْحَيَاةِ فِي فَتْرَةٍ مِنَ الْفَتَرَاتِ ; وَجُنُوحٌ إِلَى التَّصَوُّرَاتِ الَّتِي تُثِيرُهَا النَّشْوَةُ أَوِ الْخِمَارُ . وَالْإِسْلَامُ يُنْكِرُ عَلَى الْإِنْسَانِ هَذَا الطَّرِيقَ وَيُرِيدُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَرَوُا الْحَقَائِقَ ، وَأَنْ يُوَاجِهُوهَا ، وَيَعِيشُوا فِيهَا ، وَيَصْرِفُوا حَيَاتَهُمْ وَفْقَهَا ، وَلَا يُقِيمُوا هَذِهِ الْحَيَاةَ عَلَى تَصَوُّرَاتٍ وَأَوْهَامٍ . . إِنَّ مُوَاجَهَةَ الْحَقَائِقِ هِيَ مِحَكُّ الْعَزِيمَةِ وَالْإِرَادَةِ ; أَمَّا الْهُرُوبُ مِنْهَا إِلَى تَصَوُّرَاتٍ وَأَوْهَامٍ فَهُوَ طَرِيقُ التَّحَلُّلِ ، وَوَهْنُ الْعَزِيمَةِ ، وَتَذَاوُبُ الْإِرَادَةِ . وَالْإِسْلَامُ يَجْعَلُ فِي حِسَابِهِ دَائِمًا تَرْبِيَةَ الْإِرَادَةِ ، وَإِطْلَاقَهَا مِنْ قُيُودِ الْعَادَةِ الْقَاهِرَةِ . . الْإِدْمَانِ . . وَهَذَا الِاعْتِبَارُ كَافٍ وَحْدَهُ مِنْ وُجْهَةِ النَّظَرِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمِ سَائِرِ الْمُخَدِّرَاتِ . . وَهِيَ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ . . مُفْسِدٌ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ ذَاتِ الْخَمْرِ نَجِسَةً كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ الْحِسِّيَّةِ . أَوْ فِي اعْتِبَارِ شُرْبِهَا هُوَ الْمُحَرَّمُ . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَالثَّانِي قَوْلُ
رَبِيعَةَ nindex.php?page=showalam&ids=15124وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ nindex.php?page=showalam&ids=15215وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ . . وَحَسْبُنَا هَذَا الْقَدْرُ فِي سِيَاقِ الظِّلَالِ .
وَقَدْ حَدَثَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ، وَذُكِرَ فِيهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، وَوُصِفَتْ بِأَنَّهَا رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أَنِ انْطَلَقَتْ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ صَيْحَتَانِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الصِّيغَةِ ، مُخْتَلِفَتَانِ فِي الْبَاعِثِ وَالْهَدَفِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَحَرِّجِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَيْفَ بِأَصْحَابِنَا وَقَدْ مَاتُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ . . أَوْ قَالُوا : فَمَا بَالُ قَوْمٍ قُتِلُوا فِي أُحُدٍ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ (أَيْ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ) .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُشَكِّكِينَ الَّذِينَ يَهْدِفُونَ إِلَى الْبَلْبَلَةِ وَالْحَيْرَةِ . . هَذَا الْقَوْلُ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ ; يُرِيدُونَ أَنْ يَنْشُرُوا فِي النُّفُوسِ قِلَّةَ الثِّقَةِ فِي أَسْبَابِ التَّشْرِيعِ ، أَوِ الشُّعُورَ بِضَيَاعِ إِيمَانِ مَنْ مَاتُوا وَالْخَمْرُ لَمْ تُحَرَّمْ ; وَهِيَ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، مَاتُوا وَالرِّجْسُ فِي بُطُونِهِمْ ! عِنْدَئِذٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . .
نَزَلَتْ لِتُقَرِّرَ أَوَّلًا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29703_30504مَا لَمْ يُحَرَّمْ لَا يَحْرُمُ ; وَأَنَّ التَّحْرِيمَ يَبْدَأُ مِنَ النَّصِّ لَا قَبْلَهُ ; وَأَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ بِأَثَرٍ رَجْعِيٍّ ; فَلَا عُقُوبَةَ إِلَّا بِنَصٍّ ; سَوَاءٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَنَّ النَّصَّ هُوَ الَّذِي يُنْشِئُ الْحُكْمَ . . وَالَّذِينَ مَاتُوا وَالْخَمْرُ فِي بُطُونِهِمْ ، وَهِيَ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ ، لَيْسَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَنَاوَلُوا مُحَرَّمًا ; وَلَمْ يَرْتَكِبُوا مَعْصِيَةً . . لَقَدْ
[ ص: 978 ] كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وَيُرَاقِبُونَ اللَّهَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى نَوَايَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ . . وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ لَا يَتَنَاوَلُ مُحَرَّمًا وَلَا يَرْتَكِبُ مَعْصِيَةً .
وَلَا نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ بِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْجَدَلِ الَّذِي أَثَارَهُ الْمُعْتَزِلَةُ حَوْلَ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْخَمْرَ رِجْسٌ : هَلْ هُوَ نَاشِئٌ عَنْ أَمْرِ الشَّارِعِ - سُبْحَانَهُ - بِتَحْرِيمِهَا ، أَمْ إِنَّهُ نَاشِئٌ عَنْ صِفَةٍ مُلَازِمَةٍ لِلْخَمْرِ فِي ذَاتِهَا . وَهَلِ الْمُحَرَّمَاتُ مُحَرَّمَاتٌ لِصِفَةٍ مُلَازِمَةٍ لَهَا ، أَمْ إِنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ تَلْزَمُهَا مِنَ التَّحْرِيمِ . . فَهُوَ جَدَلٌ عَقِيمٌ فِي نَظَرِنَا وَغَرِيبٌ عَلَى الْحِسِّ الْإِسْلَامِيِّ ! . . وَاللَّهُ حِينَ يُحَرِّمُ شَيْئًا يَعْلَمُ - سُبْحَانَهُ - لِمَ حَرَّمَهُ . سَوَاءٌ ذَكَرَ سَبَبَ التَّحْرِيمِ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ . وَسَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ لِصِفَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الْمُحَرَّمِ ، أَوْ لِعِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَتَنَاوَلُهُ مِنْ نَاحِيَةِ ذَاتِهِ ، أَوْ مِنْ نَاحِيَةِ مَصْلَحَةِ الْجَمَاعَةِ . .
فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْأَمْرَ كُلَّهُ ; وَالطَّاعَةُ لِأَمْرِهِ وَاجِبَةٌ ، وَالْجَدَلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُمَثِّلُ حَاجَةً وَاقِعِيَّةً . وَالْوَاقِعِيَّةُ هِيَ طَابَعُ هَذَا الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ . . وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ : إِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِصِفَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ أُبِيحَ إِذَنْ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ ! ! فَلَا بُدَّ أَنَّ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ - حِكْمَةً فِي تَرْكِهِ فَتْرَةً بِلَا تَحْرِيمٍ . وَمَرَدُّ الْأَمْرِ كُلِّهِ إِلَى اللَّهِ . وَهَذَا مُقْتَضَى أُلُوهِيَّتِهِ - سُبْحَانَهُ - وَاسْتِحْسَانُ الْإِنْسَانِ أَوِ اسْتِقْبَاحُهُ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْأَمْرِ ; وَمَا يَرَاهُ عِلَّةً قَدْ لَا يَكُونُ هُوَ الْعِلَّةَ . وَالْأَدَبُ مَعَ اللَّهِ يَقْتَضِي تَلَقِّي أَحْكَامِهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّنْفِيذِ ، سَوَاءٌ عُرِفَتْ حِكْمَتُهَا أَوْ عِلَّتُهَا أَمْ ظَلَّتْ خَافِيَةً . . وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ .
إِنَّ الْعَمَلَ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَقُومَ ابْتِدَاءً عَلَى الْعُبُودِيَّةِ . . عَلَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ لَهُ سُبْحَانَهُ . . فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ - بِمَعْنَى الِاسْتِسْلَامِ - وَبَعْدَ الطَّاعَةِ يَجُوزُ لِلْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يَتَلَمَّسَ حِكْمَةَ اللَّهِ - بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ - فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ - سَوَاءٌ بَيَّنَ اللَّهُ حِكْمَتَهُ أَمْ لَمْ يُبَيِّنْهَا ، وَسَوَاءٌ أَدْرَكَهَا الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ أَمْ لَمْ يُدْرِكْهَا - فَالْحُكْمُ فِي اسْتِحْسَانِ شَرِيعَةِ اللَّهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ لَيْسَ هُوَ الْإِنْسَانُ ! إِنَّمَا الْحَكَمُ هُوَ اللَّهُ . فَإِذَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ نَهَى فَقَدِ انْتَهَى الْجَدَلُ وَلَزِمَ الْأَمْرُ أَوِ النَّهْيُ . . فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ الْحُكْمَ لِلْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ هُمُ الْمَرْجِعُ الْأَخِيرُ فِي شَرْعِ اللَّهِ . . فَأَيْنَ مَكَانُ الْأُلُوهِيَّةِ إِذَنْ وَأَيْنَ مَكَانُ الْعُبُودِيَّةِ ؟
وَنَخْلُصُ مِنْ هَذَا إِلَى تَرْكِيبِ الْآيَةِ وَدَلَالَةِ هَذَا التَّرْكِيبِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=93لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا، إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . .
وَلَمْ أَجِدْ فِي أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ مَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ النَّفْسُ فِي صِيَاغَةِ الْعِبَارَةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَتَكْرَارِ التَّقْوَى مَرَّةً مَعَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَمَرَّةً مَعَ الْإِيمَانِ ، وَمَرَّةً مَعَ الْإِحْسَانِ . . كَذَلِكَ لَمْ أَجِدْ فِي تَفْسِيرِي لِهَذَا التَّكْرَارِ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الظِّلَالِ مَا تَسْتَرِيحُ إِلَيْهِ نَفْسِي الْآنَ . . وَأَحْسَنُ مَا قَرَأْتُ - وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُ مِنْ حِسِّي مَبْلَغَ الِارْتِيَاحِ - هُوَ مَا قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : "الِاتِّقَاءُ الْأَوَّلُ هُوَ الِاتِّقَاءُ بِتَلَقِّي أَمْرِ اللَّهِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالدَّيْنُونَةِ بِهِ وَالْعَمَلِ . وَالِاتِّقَاءُ الثَّانِي الِاتِّقَاءُ بِالثَّبَاتِ عَلَى التَّصْدِيقِ وَالثَّالِثُ الِاتِّقَاءُ بِالْإِحْسَانِ وَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ " . .
وَكَانَ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي الطَّبْعَةِ الْأُولَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ : "إِنَّهُ تَوْكِيدٌ عَنْ طَرِيقِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ . فَقَدْ أَجْمَلَ التَّقْوَى وَالْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي الْأُولَى . ثُمَّ جَعَلَ التَّقْوَى مَرَّةً مَعَ الْإِيمَانِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَمَرَّةً مَعَ الْإِحْسَانِ - وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ - فِي الثَّالِثَةِ . . ذَلِكَ التَّوْكِيدُ مَقْصُودٌ هُنَا لِلِاتِّكَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . وَلِإِبْرَازِ ذَلِكَ الْقَانُونِ الثَّابِتِ فِي تَقْدِيرِ الْأَعْمَالِ بِمَا يُصَاحِبُهَا مِنْ شُعُورٍ بَاطِنِيٍّ . فَالتَّقْوَى . . تِلْكَ الْحَسَاسِيَةُ الْمُرْهَفَةُ بِرِقَابَةِ اللَّهِ ، وَالِاتِّصَالِ بِهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ . وَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالتَّصْدِيقُ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي هُوَ التَّرْجَمَةُ
[ ص: 979 ] الظَّاهِرَةُ لِلْعَقِيدَةِ الْمُسْتَكِنَّةِ . وَالتَّرَابُطُ بَيْنَ الْعَقِيدَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْعَمَلِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا . . هَذِهِ هِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ ، لَا الظَّوَاهِرُ وَالْأَشْكَالُ . . وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَحْتَاجُ إِلَى التَّوْكِيدِ وَالتَّكْرَارِ وَالْبَيَانِ " .
وَأَنَا ، اللَّحْظَةَ لَا أَجِدُ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَا يُرِيحُ أَيْضًا . . وَلَكِنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ عَلَيَّ بِشَيْءٍ آخَرَ . . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .