ويمضي السياق في البيان ; لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح ، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية . . حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق . . وأن هناك فقط : ألوهية وعبودية . . ألوهية واحدة ، وعبودية تشمل كل شيء ، وكل أحد ، في هذا الوجود .
ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة
عيسى ، أو شركا في الألوهية كشركته في الألوهية :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .
لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير
nindex.php?page=treesubj&link=28663حقيقة وحدانية الله سبحانه ; وحدانية لا تتلبس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور ; وعني بتقرير أن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء . فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية . كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله - سبحانه - وكل شيء (بما في ذلك كل حي ) وهي أنها صلة ألوهية وعبودية . ألوهية الله ، وعبودية كل شيء لله . . والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق - أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه - بحيث لا تدع في النفس ظلا من شك أو شبهة أو غموض .
ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون . فقررها في سيرة كل رسول ، وفي دعوة كل رسول ; وجعلها محور الرسالة من عهد
نوح عليه السلام ، إلى عهد
محمد خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=59يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . .
وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية - وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة - يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة ; وينسب لله - سبحانه - البنين والبنات ; أو ينسب لله - سبحانه - الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم ; اقتباسا من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات !
ألوهية وعبودية . . ولا شيء غير هذه الحقيقة . ولا قاعدة إلا هذه القاعدة . ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية ، وصلة العبودية بالألوهية . .
ولا تستقيم تصورات الناس - كما لا تستقيم حياتهم - إلا بتمحيض هذه الحقيقة من كل غبش ، ومن كل شبهة ، ومن كل ظل ! أجل لا تستقيم تصورات الناس ، ولا تستقر مشاعرهم ، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم . .
[ ص: 819 ] هو إله لهم وهم عبيده . . هو خالق لهم وهم مخاليق . . هو مالك لهم وهم مماليك . . وهم كلهم سواء في هذه الصلة ، لا بنوة لأحد . ولا امتزاج بأحد . . ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه : التقوى والعمل الصالح . . وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله . فأما البنوة ، وأما الامتزاج فأنى بهما لكل أحد ؟ !
ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة ، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة : أنهم كلهم عبيد لرب واحد . . ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد . . فأما القربى إليه ففي متناول الجميع . .
عندئذ تكون المساواة بين بني الإنسان ، لأنهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان . . وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس ; وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس . . وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام !
فالمسألة - على هذا - ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين ، فحسب ، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة ، وارتباطات مجتمع ، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان .
إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام . . ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد . . ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام "كنيسة " تستذل رقاب الناس ، بوصفها الممثلة لابن الله ، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية ; المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم . ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم "بالحق الإلهي " زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله !
وقد ظل "الحق المقدس " للكنيسة والبابوات في جانب ; وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقا مقدسا كحق الكنيسة في جانب . . ظل هذا الحق أو ذاك قائما في
أوربا باسم (الابن ) أو مركب الأقانيم . حتى جاء الصليبيون إلى أرض الإسلام مغيرين . فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على "الحق المقدس " وكانت فيما بعد ثورات
مارتن لوثر و
كالفن و
زنجلي المسماة بحركة الإصلاح . . على أساس من تأثير الإسلام ، ووضوح التصور الإسلامي ، ونفي القداسة عن بني الإنسان ونفي التفويض في السلطان . . لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام . .
وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية
المسيح وبنوته ; وألوهية روح القدس (أحد الأقانيم ) وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله ، أو ألوهية أحد مع الله ، في أي شكل من الأشكال . . يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن
عيسى بن مريم عبد لله ; وأنه لن يستنكف أن يكون عبدا لله . وأن الملائكة المقربين عبيد لله ; وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله . وأن جميع خلائقه ستحشر إليه . وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم . وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .
[ ص: 820 ] إن
المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبدا لله . لأنه - عليه السلام - وهو نبي الله ورسوله خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ; وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان . وهو خير من يعرف أنه من خلق الله ; فلا يكون خلق الله كالله ; أو بعضا من الله ! وهو خير من يعرف أن العبودية لله - فضلا على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة - لا تنقص من قدره . فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء . وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله ، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده . . وكذلك الملائكة المقربون - وفيهم روح القدس
جبريل - شأنهم شأن
عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء ; فما بال جماعة من أتباع
المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة ؟ !
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . .
فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه . . سلطان الألوهية على العباد . . شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله . .
فأما الذين عرفوا الحق ، فأقروا بعبوديتهم لله ; وعملوا الصالحات لأن عمل الصالحات هو الثمرة الطبيعية لهذه المعرفة وهذا الإقرار ; فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . .
وما يريد الله - سبحانه - من عباده أن يقروا له بالعبودية ، وأن يعبدوه وحده ، لأنه بحاجة إلى عبوديتهم وعبادتهم ، ولا لأنها تزيد في ملكه تعالى أو تنقص من شيء . ولكنه يريد لهم أن يعرفوا حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، لتصح تصوراتهم ومشاعرهم ، كما تصح حياتهم وأوضاعهم . فما يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر ، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع ، على أساس سليم قويم ، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار ، وما يتبع الإقرار من آثار . .
يريد الله - سبحانه - أن تستقر هذه الحقيقة بجوانبها التي بيناها في نفوس الناس وفي حياتهم . ليخرجوا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ليعرفوا من صاحب السلطان في هذا الكون وفي هذه الأرض ; فلا يخضعوا إلا له ، وإلا لمنهجه وشريعته للحياة ، وإلا لمن يحكم حياتهم بمنهجه وشرعه دون سواه . يريد أن يعرفوا أن العبيد كلهم عبيد ; ليرفعوا جباههم أمام كل من عداه ; حين تعنو له وحده الوجوه والجباه . يريد أن يستشعروا العزة أمام المتجبرين والطغاة ، حين يخرون له راكعين ساجدين يذكرون الله ولا يذكرون أحدا إلا الله . يريد أن يعرفوا أن القربى إليه لا تجيء عن صهر ولا نسب . ولكن تجيء عن تقوى وعمل صالح ; فيعمرون الأرض ويعملون الصالحات قربى إلى الله . يريد أن تكون لهم معرفة بحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فتكون لهم غيرة على سلطان الله في الأرض أن يدعيه المدعون باسم الله أو باسم غير الله فيردون الأمر كله لله . . ومن ثم تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس . .
إن تقدير هذه الحقيقة الكبيرة ; وتعليق أنظار البشر لله وحده ; وتعليق قلوبهم برضاه ; وأعمالهم بتقواه ; ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه . . إن هذا كله رصيد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة يضاف إلى حساب البشرية في حياتها الأرضية ; وزاد من الخير والكرامة والحرية والعدل والاستقامة تستمتع به في الأرض . . في هذه الحياة . . فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقرين بالعبودية العاملين للصالحات ، في الآخرة ، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر . وفيض من عطاء الله .
وفي هذا الضوء يجب أن ننظر إلى قضية الإيمان بالله في الصورة الناصعة التي جاء بها الإسلام وقرر أنها
[ ص: 821 ] قاعدة الرسالة كلها ودعوة الرسل جميعا ; قبل أن يحرفها الأتباع ، وتشوهها الأجيال . . يجب أن ننظر إليها بوصفها ميلادا جديدا للإنسان ; تتوافر له معه الكرامة والحرية ، والعدل والصلاح ، والخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده في الشعائر وفي نظام الحياة سواء .
والذين يستنكفون من العبودية لله ، يذلون لعبوديات في هذه الأرض لا تنتهي . . يذلون لعبودية الهوى والشهوة . أو عبودية الوهم والخرافة . ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم ، ويحنون لهم الجباه . ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيدا مثلهم من البشر هم وهم سواء أمام الله . . ولكنهم يتخذونهم آلهة لهم من دون الله . . هذا في الدنيا . . أما في الآخرة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فيعذبهم عذابا أليما، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا . .
إنها القضية الكبرى في العقيدة السماوية تعرضها هذه الآية في هذا السياق في مواجهة انحراف أهل الكتاب من النصارى في ذلك الزمان . وفي مواجهة الانحرافات كلها إلى آخر الزمان . .
ومن ثم دعوة إلى الناس كافة - كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي - أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله . وهي نور كاشف للظلمات والشبهات . فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه ; وسيجد فضل الله يشمله ; وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطا مستقيما . .
وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم .
إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه ; يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر . . في مبناه وفي فحواه سواء . وهي قضية واضحة يدركها أحيانا من لا يفهمون من العربية حرفا واحدا ، بصورة تدعو إلى العجب .
كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى
نيويورك ، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب . . ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة . وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها . وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون ! وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا - من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية - سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى
الولايات المتحدة ! جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة . وقالت لنا في إنجليزية ضعيفة : أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم . . ولكن ليس هذا ما جئت من أجله . . إنني لا أفهم من لغتكم حرفا واحدا . غير أنني أحس أن فيها إيقاعا موسيقيا لم أعهده في أية لغة . . ثم . . إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب . هي أشد إيقاعا . ولها سلطان خاص على نفسي ! ! ! وعرفت طبعا أنها الآيات القرآنية ، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص !
لا أقول : إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية . . ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة !
[ ص: 822 ] فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة ، وحس خاص بأساليبها ، فقد كان من أمرهم ما كان ; يوم واجههم
محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن . . وقصة
الأخنس بن شريق ،
nindex.php?page=showalam&ids=12026وأبي سفيان بن حرب ،
وأبي جهل وعمرو بن هشام ، في الاستماع سرا للقرآن ، وهم به مأخوذون ، قصة مشهورة . وهي إحدى القصص الكثيرة . . والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب . .
فأما فحوى القرآن . . التصور الذي يحمله . والمنهج الذي يقرره . والنظام الذي يرسمه . و "التصميم " الذي يضعه للحياة . . فلا نملك هنا أن نفصله . . ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه ; وعلى أنه ليس من صنع الإنسان ، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان .
وفي هذا القرآن نور :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174وأنزلنا إليكم نورا مبينا . .
نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة ; ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محددا مرسوما . . في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء . . حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولا ; فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحا . . حيث يتلاشى الغبش وينكشف ; وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية ، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة ؟ !
وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة ; ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه ، يحس يسرا وبساطة ووضوحا في رؤية الأمور . ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء ; وتلتزم حقائقها في يسر ; وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية ، ونصاعتها كما خرجت من يد الله . .
ومهما قلت في هذا التعبير :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174وأنزلنا إليكم نورا مبينا . . فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته ، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه ! ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني ! ولا بد من التذوق الذاتي ! ولا بد من التجربة المباشرة !
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطا مستقيما . .
[ ص: 823 ] والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به . . متى صح الإيمان ، ومتى عرفت النفس حقيقة الله وعرفت حقيقة عبودية الكل له . فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده . وهو صاحب السلطان والقدرة وحده . . وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل . رحمة في هذه الحياة الدنيا - قبل الحياة الأخرى - وفضل في هذه العاجلة - قبل الفضل في الآجلة - فالإيمان هو الواحة الندية التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود . كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع ونظامه ; في كرامة وحرية ونظافة واستقامة - كما أسلفنا - حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته . عبد لله وسيد مع كل من عداه . . وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام الإيمان - كما جاء به الإسلام - هذا النظام الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . حين يوحد الألوهية ; ويسوي بين الخلائق جميعا في العبودية . وحيث يجعل السلطان لله وحده والحاكمية لله وحده ; فلا يخضع بشر لتشريع بشر مثله ، فيكون عبدا له مهما تحرر !
فالذين آمنوا في رحمة من الله وفضل ، في حياتهم الحاضرة ، وفي حياتهم الآجلة سواء . .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175ويهديهم إليه صراطا مستقيما . .
وكلمة "إليه " . . تخلع على التعبير حركة مصورة . إذ ترسم المؤمنين ويد الله تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة ; وتقربهم إليه خطوة خطوة . . وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة ، فيعتصم به على ثقة . . حيث يحس في كل لحظة أنه يهتدي ; وتتضح أمامه الطريق ; ويقترب فعلا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم .
إنه مدلول يذاق . . ولا يعرف حتى يذاق !
وَيَمْضِي السِّيَاقُ فِي الْبَيَانِ ; لِتَقْرِيرِ أَكْبَرِ قَضَايَا التَّصَوُّرِ الِاعْتِقَادِيِّ الصَّحِيحِ ، وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الَّتِي تَنْشَأُ فِي النَّفْسِ مِنْ تَقْرِيرِ حَقِيقَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ . . حَقِيقَةِ أَنَّ أُلُوهِيَّةَ الْخَالِقِ تَتْبَعُهَا عُبُودِيَّةُ الْخَلَائِقِ . . وَأَنَّ هُنَاكَ فَقَطْ : أُلُوهِيَّةً وَعُبُودِيَّةً . . أُلُوهِيَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَعُبُودِيَّةٌ تَشْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَكُلَّ أَحَدٍ ، فِي هَذَا الْوُجُودِ .
وَيُصَحِّحُ الْقُرْآنُ هُنَا عَقِيدَةَ النَّصَارَى كَمَا يُصَحِّحُ كُلَّ عَقِيدَةٍ تَجْعَلُ لِلْمَلَائِكَةِ بُنُوَّةً كَبُنُوَّةِ
عِيسَى ، أَوْ شِرْكًا فِي الْأُلُوهِيَّةِ كَشَرِكَتِهِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا .
لَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ عِنَايَةً بَالِغَةً بِتَقْرِيرِ
nindex.php?page=treesubj&link=28663حَقِيقَةِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ; وَحْدَانِيَّةٌ لَا تَتَلَبَّسُ بِشُبْهَةِ شِرْكٍ أَوْ مُشَابَهَةٍ فِي صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ ; وَعُنِيَ بِتَقْرِيرِ أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فَلَا يَشْتَرِكُ مَعَهُ شَيْءٌ فِي مَاهِيَّةٍ وَلَا صِفَةٍ وَلَا خَاصِّيَّةٍ . كَمَا عُنِيَ بِتَقْرِيرِ حَقِيقَةِ الصِّلَةِ بَيْنَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَكُلِّ شَيْءٍ (بِمَا فِي ذَلِكَ كُلُّ حَيٍّ ) وَهِيَ أَنَّهَا صِلَةُ أُلُوهِيَّةٍ وَعُبُودِيَّةٍ . أُلُوهِيَّةُ اللَّهِ ، وَعُبُودِيَّةُ كُلِّ شَيْءٍ لِلَّهِ . . وَالْمُتَتَبِّعُ لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ يَجِدُ الْعِنَايَةَ فِيهِ بَالِغَةً بِتَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ - أَوْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ بِجَوَانِبِهَا هَذِهِ - بِحَيْثُ لَا تَدَعُ فِي النَّفْسِ ظِلًّا مِنْ شَكٍّ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ غُمُوضٍ .
وَلَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ بِأَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرُّسُلُ أَجْمَعُونَ . فَقَرَّرَهَا فِي سِيرَةِ كُلِّ رَسُولٍ ، وَفِي دَعْوَةِ كُلِّ رَسُولٍ ; وَجَعَلَهَا مِحْوَرَ الرِّسَالَةِ مِنْ عَهْدِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، إِلَى عَهْدِ
مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَتَكَرَّرُ الدَّعْوَةُ بِهَا عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=59يَا قَوْمٍ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ . .
وَكَانَ مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ أَتْبَاعَ الدِّيَانَاتِ السَّمَاوِيَّةِ - وَهِيَ حَاسِمَةٌ وَصَارِمَةٌ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ - يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّفُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ ; وَيَنْسُبُ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ - الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ; أَوْ يَنْسُبُ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ - الِامْتِزَاجَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فِي صُورَةِ الْأَقَانِيمِ ; اقْتِبَاسًا مِنَ الْوَثَنِيَّاتِ الَّتِي عَاشَتْ فِي الْجَاهِلِيَّاتِ !
أُلُوهِيَّةٌ وَعُبُودِيَّةٌ . . وَلَا شَيْءَ غَيْرُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ . وَلَا قَاعِدَةَ إِلَّا هَذِهِ الْقَاعِدَةُ . وَلَا صِلَةَ إِلَّا صِلَةُ الْأُلُوهِيَّةِ بِالْعُبُودِيَّةِ ، وَصِلَةُ الْعُبُودِيَّةِ بِالْأُلُوهِيَّةِ . .
وَلَا تَسْتَقِيمُ تَصَوُّرَاتُ النَّاسِ - كَمَا لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاتُهُمْ - إِلَّا بِتَمْحِيضِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ غَبَشٍ ، وَمِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ ، وَمِنْ كُلِّ ظِلٍّ ! أَجَلْ لَا تَسْتَقِيمُ تَصَوُّرَاتُ النَّاسِ ، وَلَا تَسْتَقِرُّ مَشَاعِرُهُمْ ، إِلَّا حِينَ يَسْتَيْقِنُونَ حَقِيقَةَ الصِّلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ . .
[ ص: 819 ] هُوَ إِلَهٌ لَهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ . . هُوَ خَالِقٌ لَهُمْ وَهُمْ مَخَالِيقُ . . هُوَ مَالِكٌ لَهُمْ وَهُمْ مَمَالِيكُ . . وَهُمْ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي هَذِهِ الصِّلَةِ ، لَا بُنُوَّةَ لِأَحَدٍ . وَلَا امْتِزَاجَ بِأَحَدٍ . . وَمِنْ ثَمَّ لَا قُرْبَى لِأَحَدٍ إِلَّا بِشَيْءٍ يَمْلِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَيُوَجِّهُ إِرَادَتَهُ إِلَيْهِ فَيَبْلُغُهُ : التَّقْوَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ . . وَهَذَا فِي مُسْتَطَاعِ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُحَاوِلَهُ . فَأَمَّا الْبُنُوَّةُ ، وَأَمَّا الِامْتِزَاجُ فَأَنَّى بِهِمَا لِكُلِّ أَحَدٍ ؟ !
وَلَا تَسْتَقِيمُ حَيَاتُهُمْ وَارْتِبَاطَاتُهُمْ وَوَظَائِفُهُمْ فِي الْحَيَاةِ ، إِلَّا حِينَ تَسْتَقِرُّ فِي أَخْلَادِهِمْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ : أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ عَبِيدٌ لِرَبٍّ وَاحِدٍ . . وَمِنْ ثَمَّ فَمَوْقِفُهُمْ كُلُّهُمْ تُجَاهَ صَاحِبِ السُّلْطَانِ وَاحِدٌ . . فَأَمَّا الْقُرْبَى إِلَيْهِ فَفِي مُتَنَاوَلِ الْجَمِيعِ . .
عِنْدَئِذٍ تَكُونُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ بَنِي الْإِنْسَانِ ، لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي مَوْقِفِهِمْ مِنْ صَاحِبِ السُّلْطَانِ . . وَعِنْدَئِذٍ تَسْقُطُ كُلُّ دَعْوَى زَائِفَةٍ فِي الْوَسَاطَةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ ; وَتَسْقُطُ مَعَهَا جَمِيعُ الْحُقُوقِ الْمُدَّعَاةِ لِفَرْدٍ أَوْ لِمَجْمُوعَةٍ أَوْ لِسِلْسِلَةٍ مِنَ النَّسَبِ لِطَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ . . وَبِغَيْرِ هَذَا لَا تَكُونُ هُنَاكَ مُسَاوَاةٌ أَصِيلَةُ الْجُذُورِ فِي حَيَاةِ بَنِي الْإِنْسَانِ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَنِظَامِهِمْ وَوَضْعِهِمْ فِي هَذَا النِّظَامِ !
فَالْمَسْأَلَةُ - عَلَى هَذَا - لَيْسَتْ مَسْأَلَةَ عَقِيدَةٍ وِجْدَانِيَّةٍ يَسْتَقِرُّ فِيهَا الْقَلْبُ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ الرَّكِينِ ، فَحَسْبُ ، إِنَّمَا هِيَ كَذَلِكَ مَسْأَلَةُ نِظَامِ حَيَاةٍ ، وَارْتِبَاطَاتِ مُجْتَمَعٍ ، وَعَلَاقَاتِ أُمَمٍ وَأَجْيَالٍ مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ .
إِنَّهُ مِيلَادٌ جَدِيدٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى يَدِ الْإِسْلَامِ . . مِيلَادٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُتَحَرِّرِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْعِبَادِ ، بِالْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّ الْعِبَادِ . . وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَقُمْ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ "كَنِيسَةٌ " تَسْتَذِلُّ رِقَابَ النَّاسِ ، بِوَصْفِهَا الْمُمَثِّلَةَ لِابْنِ اللَّهِ ، أَوْ لِلْأُقْنُومِ الْمُتَمِّمِ لِلْأَقَانِيمِ الْإِلَهِيَّةِ ; الْمُسْتَمَدَّةَ لِسُلْطَانِهَا مِنْ سُلْطَانِ الِابْنِ أَوْ سُلْطَانِ الْأُقْنُومِ . وَلَمْ تَقُمْ كَذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ سُلْطَةٌ مُقَدَّسَةٌ تَحْكُمُ "بِالْحَقِّ الْإِلَهِيِّ " زَاعِمَةً أَنَّ حَقَّهَا فِي الْحُكْمِ وَالتَّشْرِيعِ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَرَابَتِهَا أَوْ تَفْوِيضِهَا مِنَ اللَّهِ !
وَقَدْ ظَلَّ "الْحَقُّ الْمُقَدَّسُ " لِلْكَنِيسَةِ وَالْبَابَوَاتِ فِي جَانِبٍ ; وَلِلْأَبَاطِرَةِ الَّذِينَ زَعَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ حَقًّا مُقَدَّسًا كَحَقِّ الْكَنِيسَةِ فِي جَانِبٍ . . ظَلَّ هَذَا الْحَقُّ أَوْ ذَاكَ قَائِمًا فِي
أُورُبَّا بِاسْمِ (الِابْنِ ) أَوْ مُرَكَّبِ الْأَقَانِيمِ . حَتَّى جَاءَ الصَّلِيبِيُّونَ إِلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ مُغِيرِينَ . فَلَمَّا ارْتَدُّوا أَخَذُوا مَعَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ بِذْرَةَ الثَّوْرَةِ عَلَى "الْحَقِّ الْمُقَدَّسِ " وَكَانَتْ فِيمَا بَعْدُ ثَوْرَاتُ
مَارْتِنْ لُوثَرَ وَ
كَالْفِنْ وَ
زِنْجِلِي الْمُسَمَّاةُ بِحَرَكَةِ الْإِصْلَاحِ . . عَلَى أَسَاسٍ مِنْ تَأْثِيرِ الْإِسْلَامِ ، وَوُضُوحِ التَّصَوُّرِ الْإِسْلَامِيِّ ، وَنَفْيِ الْقَدَاسَةِ عَنْ بَنِي الْإِنْسَانِ وَنَفْيِ التَّفْوِيضِ فِي السُّلْطَانِ . . لِأَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَالِكَ إِلَّا أُلُوهِيَّةٌ وَعُبُودِيَّةٌ فِي عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ . .
وَهُنَا يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلِمَةَ الْفَصْلِ فِي أُلُوهِيَّةِ
الْمَسِيحِ وَبُنُوَّتِهِ ; وَأُلُوهِيَّةِ رُوحِ الْقُدُسِ (أَحَدِ الْأَقَانِيمِ ) وَفِي كُلِّ أُسْطُورَةٍ عَنْ بُنُوَّةِ أَحَدٍ لِلَّهِ ، أَوْ أُلُوهِيَّةِ أَحَدٍ مَعَ اللَّهِ ، فِي أَيِّ شَكْلٍ مِنَ الْأَشْكَالِ . . يَقُولُ الْقُرْآنُ كَلِمَةَ الْفَصْلِ بِتَقْرِيرِهِ أَنَّ
عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ لِلَّهِ ; وَأَنَّهُ لَنْ يَسْتَنْكِفَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ . وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ عَبِيدٌ لِلَّهِ ; وَأَنَّهُمْ لَنْ يَسْتَنْكِفُوا أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ . وَأَنَّ جَمِيعَ خَلَائِقِهِ سَتُحْشَرُ إِلَيْهِ . وَأَنَّ الَّذِينَ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ يَنْتَظِرُهُمُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ . وَأَنَّ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَهُمُ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ - وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ - وَمَنْ يَسْتَنْكِفَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا .
[ ص: 820 ] إِنَّ
الْمَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ لَنْ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ . لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ ; وَأَنَّهُمَا مَاهِيَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَا تَمْتَزِجَانِ . وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ ; فَلَا يَكُونُ خَلْقُ اللَّهِ كَاللَّهِ ; أَوْ بَعْضًا مِنَ اللَّهِ ! وَهُوَ خَيْرُ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ - فَضْلًا عَلَى أَنَّهَا الْحَقِيقَةُ الْمُؤَكَّدَةُ الْوَحِيدَةُ - لَا تَنْقُصُ مِنْ قَدْرِهِ . فَالْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ مَرْتَبَةٌ لَا يَأْبَاهَا إِلَّا كَافِرٌ بِنِعْمَةِ الْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ . وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي يَصِفُ اللَّهُ بِهَا رُسُلَهُ ، وَهُمْ فِي أَرْقَى حَالَاتِهِمْ وَأَكْرَمِهَا عِنْدَهُ . . وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ - وَفِيهِمْ رُوحُ الْقُدُسِ
جِبْرِيلُ - شَأْنُهُمْ شَأْنُ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ ; فَمَا بَالُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَتْبَاعِ
الْمَسِيحِ يَأْبَوْنَ لَهُ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ وَيَعْرِفُهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ ؟ !
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=172وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا . .
فَاسْتِنْكَافُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ حَشْرِ اللَّهِ لَهُمْ بِسُلْطَانِهِ . . سُلْطَانِ الْأُلُوهِيَّةِ عَلَى الْعِبَادِ . . شَأْنُهُمْ فِي هَذَا شَأْنُ الْمُقِرِّينَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْمُسْتَسْلِمِينَ لِلَّهِ . .
فَأَمَّا الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ ، فَأَقَرُّوا بِعُبُودِيَّتِهِمْ لِلَّهِ ; وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ عَمَلَ الصَّالِحَاتِ هُوَ الثَّمَرَةُ الطَّبِيعِيَّةُ لِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَهَذَا الْإِقْرَارِ ; فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . .
وَمَا يُرِيدُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُقِرُّوا لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ بِحَاجَةٍ إِلَى عُبُودِيَّتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ ، وَلَا لِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي مُلْكِهِ تَعَالَى أَوْ تَنْقُصُ مِنْ شَيْءٍ . وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ لَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ ، لِتَصِحَّ تَصَوُّرَاتُهُمْ وَمَشَاعِرُهُمْ ، كَمَا تَصِحُّ حَيَاتُهُمْ وَأَوْضَاعُهُمْ . فَمَا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَقِرَّ التَّصَوُّرَاتُ وَالْمَشَاعِرُ ، وَلَا أَنْ تَسْتَقِرَّ الْحَيَاةُ وَالْأَوْضَاعُ ، عَلَى أَسَاسٍ سَلِيمٍ قَوِيمٍ ، إِلَّا بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ إِقْرَارٍ ، وَمَا يَتْبَعُ الْإِقْرَارَ مِنْ آثَارٍ . .
يُرِيدُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَنْ تَسْتَقِرَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بِجَوَانِبِهَا الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَفِي حَيَاتِهِمْ . لِيَخْرُجُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ . لِيَعْرِفُوا مَنْ صَاحِبُ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الْكَوْنِ وَفِي هَذِهِ الْأَرْضِ ; فَلَا يَخْضَعُوا إِلَّا لَهُ ، وَإِلَّا لِمَنْهَجِهِ وَشَرِيعَتِهِ لِلْحَيَاةِ ، وَإِلَّا لِمَنْ يَحْكُمُ حَيَاتَهُمْ بِمَنْهَجِهِ وَشَرْعِهِ دُونَ سِوَاهُ . يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْعَبِيدَ كُلَّهُمْ عَبِيدٌ ; لِيَرْفَعُوا جِبَاهَهُمْ أَمَامَ كُلِّ مَنْ عَدَاهُ ; حِينَ تَعْنُو لَهُ وَحْدَهُ الْوُجُوهُ وَالْجِبَاهُ . يُرِيدُ أَنْ يَسْتَشْعِرُوا الْعِزَّةَ أَمَامَ الْمُتَجَبِّرِينَ وَالطُّغَاةِ ، حِينَ يَخِرُّونَ لَهُ رَاكِعِينَ سَاجِدِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ وَلَا يَذْكُرُونَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهُ . يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْقُرْبَى إِلَيْهِ لَا تَجِيءُ عَنْ صِهْرٍ وَلَا نَسَبٍ . وَلَكِنْ تَجِيءُ عَنْ تَقْوَى وَعَمَلٍ صَالِحٍ ; فَيَعْمُرُونَ الْأَرْضَ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ قُرْبَى إِلَى اللَّهِ . يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِحَقِيقَةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ غَيْرَةٌ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَدَّعِيَهُ الْمُدَّعُونَ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ فَيَرُدُّونَ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ . . وَمِنْ ثَمَّ تَصْلُحُ حَيَاتُهُمْ وَتَرْقَى وَتَكْرُمُ عَلَى هَذَا الْأَسَاسِ . .
إِنَّ تَقْدِيرَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْكَبِيرَةِ ; وَتَعْلِيقَ أَنْظَارِ الْبَشَرِ لِلَّهِ وَحْدَهُ ; وَتَعْلِيقَ قُلُوبِهِمْ بِرِضَاهُ ; وَأَعْمَالِهِمْ بِتَقْوَاهُ ; وَنِظَامِ حَيَاتِهِمْ بِإِذْنِهِ وَشَرْعِهِ وَمَنْهَجِهِ دُونَ سِوَاهُ . . إِنَّ هَذَا كُلَّهُ رَصِيدٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ يُضَافُ إِلَى حِسَابِ الْبَشَرِيَّةِ فِي حَيَاتِهَا الْأَرْضِيَّةِ ; وَزَادٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدْلِ وَالِاسْتِقَامَةِ تَسْتَمْتِعُ بِهِ فِي الْأَرْضِ . . فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ . . فَأَمَّا مَا يَجْزِي اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقِرِّينَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْعَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ ، فِي الْآخِرَةِ ، فَهُوَ كَرَمٌ مِنْهُ وَفَضْلٌ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ . وَفَيْضٌ مِنْ عَطَاءِ اللَّهِ .
وَفِي هَذَا الضَّوْءِ يَجِبُ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى قَضِيَّةِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ فِي الصُّورَةِ النَّاصِعَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَقَرَّرَ أَنَّهَا
[ ص: 821 ] قَاعِدَةُ الرِّسَالَةِ كُلِّهَا وَدَعْوَةُ الرُّسُلِ جَمِيعًا ; قَبْلَ أَنْ يُحَرِّفَهَا الْأَتْبَاعُ ، وَتُشَوِّهَهَا الْأَجْيَالُ . . يَجِبُ أَنْ نَنْظُرَ إِلَيْهَا بِوَصْفِهَا مِيلَادًا جَدِيدًا لِلْإِنْسَانِ ; تَتَوَافَرُ لَهُ مَعَهُ الْكَرَامَةُ وَالْحُرِّيَّةُ ، وَالْعَدْلُ وَالصَّلَاحُ ، وَالْخُرُوجُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ فِي الشَّعَائِرِ وَفِي نِظَامِ الْحَيَاةِ سَوَاءٌ .
وَالَّذِينَ يَسْتَنْكِفُونَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ، يَذِلُّونَ لِعُبُودِيَّاتٍ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لَا تَنْتَهِي . . يَذِلُّونَ لِعُبُودِيَّةِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ . أَوْ عُبُودِيَّةِ الْوَهْمِ وَالْخُرَافَةِ . وَيَذِلُّونَ لِعُبُودِيَّةِ الْبَشَرِ مِنْ أَمْثَالِهِمْ ، وَيَحْنُونَ لَهُمُ الْجِبَاهَ . وَيُحَكِّمُونَ فِي حَيَاتِهِمْ وَأَنْظِمَتِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ وَقَوَانِينِهِمْ وَقِيَمِهِمْ وَمَوَازِينِهِمْ عَبِيدًا مِثْلَهُمْ مِنَ الْبَشَرِ هُمْ وَهُمْ سَوَاءٌ أَمَامَ اللَّهِ . . وَلَكِنَّهُمْ يَتَّخِذُونَهُمْ آلِهَةً لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ . . هَذَا فِي الدُّنْيَا . . أَمَّا فِي الْآخِرَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=173فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا . .
إِنَّهَا الْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى فِي الْعَقِيدَةِ السَّمَاوِيَّةِ تَعْرِضُهَا هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا السِّيَاقِ فِي مُوَاجَهَةِ انْحِرَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ . وَفِي مُوَاجَهَةِ الِانْحِرَافَاتِ كُلِّهَا إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ . .
وَمِنْ ثَمَّ دَعْوَةُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً - كَتِلْكَ الدَّعْوَةِ الَّتِي أَعْقَبَتِ الْمُوَاجَهَةَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ فِي الدَّرْسِ الْمَاضِي - أَنَّ الرِّسَالَةَ الْأَخِيرَةَ تَحْمِلُ بُرْهَانَهَا مِنَ اللَّهِ . وَهِيَ نُورٌ كَاشِفٌ لِلظُّلُمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ . فَمَنِ اهْتَدَى بِهَا وَاعْتَصَمَ بِاللَّهِ فَسَيَجِدُ رَحْمَةَ اللَّهِ تُؤْوِيهِ ; وَسَيَجِدُ فَضْلَ اللَّهِ يَشْمَلُهُ ; وَسَيَجِدُ فِي ذَلِكَ النُّورَ وَالْهُدَى إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . .
وَهَذَا الْقُرْآنُ يَحْمِلُ بُرْهَانَهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَبِّ النَّاسِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ .
إِنَّ طَابِعَ الصَّنْعَةِ الرَّبَّانِيَّةِ ظَاهِرٌ فِيهِ ; يَفْرِقُهُ عَنْ كَلَامِ الْبَشَرِ وَعَنْ صُنْعِ الْبَشَرِ . . فِي مَبْنَاهُ وَفِي فَحْوَاهُ سَوَاءٌ . وَهِيَ قَضِيَّةٌ وَاضِحَةٌ يُدْرِكُهَا أَحْيَانًا مَنْ لَا يَفْهَمُونَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ حَرْفًا وَاحِدًا ، بِصُورَةٍ تَدْعُو إِلَى الْعَجَبِ .
كُنَّا عَلَى ظَهْرِ الْبَاخِرَةِ فِي عَرْضِ الْأَطْلَنْطِيِّ فِي طَرِيقِنَا إِلَى
نِيُويُورْكَ ، حِينَمَا أَقَمْنَا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ عَلَى ظَهْرِ الْمَرْكِبِ . . سِتَّةٌ مِنَ الرُّكَّابِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بِلَادٍ عَرَبِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَكَثِيرٌ مِنْ عُمَّالِ الْمَرْكِبِ أَهْلُ النُّوبَةِ . وَأَلْقَيْتُ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ مُتَضَمِّنَةً آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ثَنَايَاهَا . وَسَائِرُ رُكَّابٍ السَّفِينَةِ مِنْ جِنْسِيَّاتٍ شَتَّى مُتَحَلِّقُونَ يُشَاهِدُونَ ! وَبَعْدَ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ جَاءَتْ إِلَيْنَا - مِنْ بَيْنِ مَنْ جَاءَ يُعَبِّرُ لَنَا عَنْ تَأَثُّرِهِ الْعَمِيقِ بِالصَّلَاةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - سَيِّدَةٌ يُوغُسْلَافِيَّةٌ فَارَّةٌ مِنَ الشُّيُوعِيَّةِ إِلَى
الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ ! جَاءَتْنَا وَفِي عَيْنَيْهَا دُمُوعٌ لَا تَكَادُ تُمْسِكُ بِهَا وَفِي صَوْتِهَا رَعْشَةٌ . وَقَالَتْ لَنَا فِي إِنْجِلِيزِيَّةٍ ضَعِيفَةٍ : أَنَا لَا أَمْلِكُ نَفْسِي مِنَ الْإِعْجَابِ الْبَالِغِ بِالْخُشُوعِ الْبَادِي فِي صَلَاتِكُمْ . . وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَا جِئْتُ مِنْ أَجْلِهِ . . إِنَّنِي لَا أَفْهَمُ مِنْ لُغَتِكُمْ حَرْفًا وَاحِدًا . غَيْرَ أَنَّنِي أُحِسُّ أَنَّ فِيهَا إِيقَاعًا مُوسِيقِيًّا لَمْ أَعْهَدْهُ فِي أَيَّةِ لُغَةٍ . . ثُمَّ . . إِنَّ هُنَاكَ فِقْرَاتٍ مُمَيَّزَةً فِي خُطْبَةِ الْخَطِيبِ . هِيَ أَشَدُّ إِيقَاعًا . وَلَهَا سُلْطَانٌ خَاصٌّ عَلَى نَفْسِي ! ! ! وَعَرَفْتُ طَبْعًا أَنَّهَا الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ ، الْمُمَيَّزَةُ الْإِيقَاعِ ذَاتُ السُّلْطَانِ الْخَاصِّ !
لَا أَقُولُ : إِنَّ هَذِهِ قَاعِدَةً عِنْدَ كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَرَبِيَّةَ . . وَلَكِنَّهَا وَلَا شَكَّ ظَاهِرَةٌ ذَاتُ دَلَالَةٍ !
[ ص: 822 ] فَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ ذَوْقٌ خَاصٌّ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ ، وَحِسٌّ خَاصٌّ بِأَسَالِيبِهَا ، فَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ ; يَوْمَ وَاجَهَهُمْ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقُرْآنِ . . وَقِصَّةُ
الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12026وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ،
وَأَبِي جَهْلٍ وَعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ ، فِي الِاسْتِمَاعِ سِرًّا لِلْقُرْآنِ ، وَهُمْ بِهِ مَأْخُوذُونَ ، قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ . وَهِيَ إِحْدَى الْقِصَصِ الْكَثِيرَةِ . . وَالَّذِينَ لَهُمْ ذَوْقٌ فِي أَيِّ جِيلٍ يَعْرِفُونَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ وَسُلْطَانٍ وَبُرْهَانٍ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ . .
فَأَمَّا فَحَوَى الْقُرْآنِ . . التَّصَوُّرُ الَّذِي يَحْمِلُهُ . وَالْمَنْهَجُ الَّذِي يُقَرِّرُهُ . وَالنِّظَامُ الَّذِي يَرْسُمُهُ . وَ "التَّصْمِيمُ " الَّذِي يَضَعُهُ لِلْحَيَاةِ . . فَلَا نَمْلِكُ هُنَا أَنْ نُفَصِّلَهُ . . وَلَكِنَّ فِيهِ الْبُرْهَانَ كُلَّ الْبُرْهَانِ عَلَى الْمَصْدَرِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ ; وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْإِنْسَانِ ، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ طَابَعَ صَنْعَةٍ كَامِلَةٍ لَيْسَ هُوَ طَابَعَ الْإِنْسَانِ .
وَفِي هَذَا الْقُرْآنِ نُورٌ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا . .
نُورٌ تَتَجَلَّى تَحْتَ أَشِعَّتِهِ الْكَاشِفَةِ حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ وَاضِحَةً ; وَيَبْدُو مَفْرِقُ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مُحَدَّدًا مَرْسُومًا . . فِي دَاخِلِ النَّفْسِ وَفِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ سَوَاءٌ . . حَيْثُ تَجِدُ النَّفْسُ مِنْ هَذَا النُّورِ مَا يُنِيرُ جَوَانِبَهَا أَوَّلًا ; فَتَرَى كُلَّ شَيْءٍ فِيهَا وَمِنْ حَوْلِهَا وَاضِحًا . . حَيْثُ يَتَلَاشَى الْغَبَشُ وَيَنْكَشِفُ ; وَحَيْثُ تَبْدُو الْحَقِيقَةُ بَسِيطَةً كَالْبَدِيهِيَّةِ ، وَحَيْثُ يَعْجَبُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ كَيْفَ كَانَ لَا يَرَى هَذَا الْحَقَّ وَهُوَ بِهَذَا الْوُضُوحِ وَبِهَذِهِ الْبَسَاطَةِ ؟ !
وَحِينَ يَعِيشُ الْإِنْسَانُ بِرُوحِهِ فِي الْجَوِّ الْقُرْآنِيِّ فَتْرَةً ; وَيَتَلَقَّى مِنْهُ تَصَوُّرَاتِهِ وَقِيَمَهُ وَمَوَازِينَهُ ، يُحِسُّ يُسْرًا وَبَسَاطَةً وَوُضُوحًا فِي رُؤْيَةِ الْأُمُورِ . وَيَشْعُرُ أَنَّ مُقَرَّرَاتٍ كَثِيرَةً كَانَتْ قَلِقَةً فِي حِسِّهِ قَدْ رَاحَتْ تَأْخُذُ أَمَاكِنَهَا فِي هُدُوءٍ ; وَتَلْتَزِمُ حَقَائِقَهَا فِي يُسْرٍ ; وَتَنْفِي مَا عَلِقَ بِهَا مِنَ الزِّيَادَاتِ الْمُتَطَفِّلَةِ لِتَبْدُوَ فِي بَرَاءَتِهَا الْفِطْرِيَّةِ ، وَنَصَاعَتِهَا كَمَا خَرَجَتْ مِنْ يَدِ اللَّهِ . .
وَمَهْمَا قُلْتُ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=174وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا . . فَإِنَّنِي لَنْ أُصَوِّرَ بِأَلْفَاظِي حَقِيقَتَهُ ، لِمَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فِي نَفْسِهِ ! وَلَا بُدَّ مِنَ الْمُكَابَدَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي ! وَلَا بُدَّ مِنَ التَّذَوُّقِ الذَّاتِيِّ ! وَلَا بُدَّ مِنَ التَّجْرِبَةِ الْمُبَاشِرَةِ !
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . .
[ ص: 823 ] وَالِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ ثَمَرَةُ مُلَازَمَةِ لِلْإِيمَانِ بِهِ . . مَتَى صَحَّ الْإِيمَانُ ، وَمَتَى عَرَفَتِ النَّفْسُ حَقِيقَةَ اللَّهِ وَعَرَفَتْ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّةِ الْكُلِّ لَهُ . فَلَا يَبْقَى أَمَامَهَا إِلَّا أَنْ تَعْتَصِمَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ . وَهُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ وَالْقُدْرَةِ وَحْدَهُ . . وَهَؤُلَاءِ يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ . رَحْمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - قَبْلَ الْحَيَاةِ الْأُخْرَى - وَفَضْلٌ فِي هَذِهِ الْعَاجِلَةِ - قَبْلَ الْفَضْلِ فِي الْآجِلَةِ - فَالْإِيمَانُ هُوَ الْوَاحَةُ النَّدِيَّةُ الَّتِي تَجِدُ فِيهَا الرُّوحُ الظِّلَالَ مِنْ هَاجِرَةِ الضَّلَالِ فِي تِيهِ الْحَيْرَةِ وَالْقَلَقِ وَالشُّرُودِ . كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْقَاعِدَةُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الْمُجْتَمَعِ وَنِظَامُهُ ; فِي كَرَامَةٍ وَحُرِّيَّةٍ وَنَظَافَةٍ وَاسْتِقَامَةٍ - كَمَا أَسْلَفْنَا - حَيْثُ يَعْرِفُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَكَانَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ . عَبْدٌ لِلَّهِ وَسَيِّدٌ مَعَ كُلِّ مَنْ عَدَاهُ . . وَلَيْسَ هَذَا فِي أَيِّ نِظَامٍ آخَرَ غَيْرَ نِظَامِ الْإِيمَانِ - كَمَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ - هَذَا النِّظَامُ الَّذِي يُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ . حِينَ يُوَحِّدُ الْأُلُوهِيَّةَ ; وَيُسَوِّي بَيْنَ الْخَلَائِقِ جَمِيعًا فِي الْعُبُودِيَّةِ . وَحَيْثُ يَجْعَلُ السُّلْطَانَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالْحَاكِمِيَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ; فَلَا يَخْضَعُ بَشَرٌ لِتَشْرِيعِ بَشَرٍ مِثْلِهِ ، فَيَكُونُ عَبْدًا لَهُ مَهْمَا تَحَرَّرَ !
فَالَّذِينَ آمَنُوا فِي رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ، فِي حَيَاتِهِمُ الْحَاضِرَةِ ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الْآجِلَةِ سَوَاءٌ . .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=175وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . .
وَكَلِمَةُ "إِلَيْهِ " . . تَخْلَعُ عَلَى التَّعْبِيرِ حَرَكَةً مُصَوَّرَةً . إِذْ تَرْسُمُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَدُ اللَّهِ تَنْقُلُ خُطَاهُمْ فِي الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ ; وَتَقَرُّبِهِمْ إِلَيْهِ خَطْوَةً خَطْوَةً . . وَهِيَ عِبَارَةٌ يَجِدُ مَدْلُولَهَا فِي نَفْسِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، فَيَعْتَصِمُ بِهِ عَلَى ثِقَةٍ . . حَيْثُ يُحِسُّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ أَنَّهُ يَهْتَدِي ; وَتَتَّضِحُ أَمَامَهُ الطَّرِيقُ ; وَيَقْتَرِبُ فِعْلًا مِنَ اللَّهِ كَأَنَّمَا هُوَ يَخْطُو إِلَيْهِ فِي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ .
إِنَّهُ مَدْلُولٌ يُذَاقُ . . وَلَا يَعْرِفُ حَتَّى يُذَاقَ !