5 - وكان عمرو يتمتع بحاسة متميزة لتأثير طبيعة الأرض في سير القتال، فهو الذي أشار على قادة المسلمين في بلاد الشام بالاجتماع في
اليرموك ، فلما نزل الروم معسكرهم، انتقل المسلمون من معسكرهم القديم إلى معسكر جديد مناسب، فنزلوا على طريق انسحاب الروم، وليس للروم طريق إلا على المسلمين!.. حينذاك " هـتف عمرو: أيها الناس! أبشروا، حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير "
[1] .
[ ص: 34 ]
وكما كان يحرص على جمع المعلومات عن العدو والأرض، كان يحرص على منع العدو من جمع المعلومات عن قواته وأرضه. فقد منع رجاله في سرية ذات السلاسل -وفيهم كبار الصحابة:
أبو بكر ،
وعمر بن الخطاب ،
وأبو عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنهم ، وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار- من إشعال النار ليلا، على الرغم من شدة البرد وقسوته، ليحول دون كشف مواضعهم للعدو، وكشف عددهم القليل للعدو أيضا.
وهذا المثال يدل على إيمان عمرو بأهمية الضبط، والطاعة، والسيطرة، لذلك كان يفرض على رجاله ضبطا عاليا، ويطالبهم بالطاعة المطلقة لأوامره، ويسيطر عليهم سيطرة تامة، وهو يدل على شدة ضبط عمرو، وسيطرته النافذة على مرءوسيه، بصرف النظر عن قيمتهم الاجتماعية، والدينية، والسياسية.
6 - وكان على جانب عظيم من الشجاعة الشخصية، فقد كان من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهلية، مذكورا بذلك فيهم
[2] ، وكان جريئا مقداما، " وقد وصفه
عثمان بن عفان لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، بقوله: إن عمرا لمجرأ، وفيه إقدام، وحب للإمارة... "
[3] ، وقد باشر القتال في القلب أيام صفين، فلما كان يوم
[ ص: 35 ] من تلك الأيام، " اقتتل أهل العراق، وأهل الشام حتى غابت الشمس، ثم اقتتلوا ساعة من الليل، حتى كثرت القتلى بينهم، فصاح عمرو بأصحابه: الأرض... الأرض... يا أهل الشام! فترجلوا ودب بهم، وترجل أهل العراق أيضا، فكان عمرو يقاتل وهو يقول:
وصبرنا على مواطن ضنك وخطوب تري البياض الوليدا
فأقبل رجل من أهل العراق، فضرب عمرا ضربة جرحه على العاتق، فأدركه عمرو فضربه ضربة قضت عليه. "
[4] .
ومواقفه البطولية، التي تدل على شجاعته الشخصية، أكثر من أن تعد وتحصى.
7 - ولكنه كان يحارب بعقله، كما كان يحارب بسيفه، بل كان عقله أمضى حدا من سيفه، فيستعمل عقله في الحرب، أكثر مما يستعمل سيفه.
ففي فتح مصر، استهان القبط بالفاتحين، وقال قائلهم: (ما أرث
[5] العرب، ما رأينا مثلنا دان لمثلهم) ، فخاف
عمرو أن يطمعهم ذلك، فأرى عمرو المصريين حال العرب في بلادهم قبل
[ ص: 36 ] الفتح، وكيف أصبحوا بعد الفتح في تمتعهم بأسباب الحياة، وحالهم في الحرب، ثم " قال للمصريين: علمت حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا
[6] على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث، غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول. "
وتفرق المصريون وهم يقولون: (لقد رمتكم العرب برجلهم) .
" وبلغ
عمر بن الخطاب ذلك، فقال: والله إن حربه للينة، مالها سطوة ولا سورة
[7] كسورات الحروب من غيره. "
[8] .
لقد كان عمرو يجيد حرب الدعاية، ويؤمن بمبدأ: الحرب خدعة.
وكان يحارب بعقله وسيفه، ولا يحارب بسيفه إلا إذا أعيته الحرب بعقله، ولم يبق أمامه لتحقيق أهدافه إلا السيف، وكان يمتلك في الحربين الشجاعة الشخصية، التي تقود إلى النصر ولا تقود إلى الهزيمة.
[ ص: 37 ]
8 - وكان يتحلى بالإرادة القوية الثابتة، قبل إسلامه، وبعد إسلامه، حتى مضى إلى جوار الله.
كانت إرادته القوية الثابتة قبل إسلامه، تتركز على محاربة الإسلام والمسلمين، فحارب هـذا الدين، والذين اعتنقوه، حربا لا هـوادة فيها في ميدان القتال، فقاتل المسلمين في أحد والأحزاب .
وكانت تلك الإرادة تتركز بعد إسلامه في خدمة الإسلام والمسلمين، فحقق ذلك عن طريق سفارته النبوية، وولايته على عمان، وتوليه جمع الصدقات -أحد أعمالها- للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، حقق إرادته في خدمة الإسلام والمسلمين عن طريق حرب الردة ، وفتوح الشام ومصر وليبيا، والتمهيد المؤثر في فتح إفريقية.
ولكن إرادته القوية الثابتة، تتمثل في تحقيق طموحه في فتح مصر، وإقناع عمر بن الخطاب للموافقة على هـذا الفتح، ومسيرته الطويلة الشاقة في فتح مصر، بالسيف تارة، وبالمفاوضات تارة أخرى، وبالقتال مرة، وبالسلام مرة أخرى، حتى حقق طموحه في فتح مصر.
إن إرادة عمرو القوية الثابتة، تبدو واضحة على كل أعماله، إنسانا، وقائدا، وإداريا، وسفيرا.
9 - وكان يتحمل المسئولية، ويحبها ولا يتهرب منها، ولا يلقيها على عواتق الآخرين خوفا من عواقبها، وبخاصة في حالات الإخفاق.
[ ص: 38 ]
وقد نافس
أبا عبيدة بن الجراح على الإمارة في سرية ذات السلاسل ، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فرضخ أبو عبيدة
لعمرو ، خوفا من الاختلاف.
وكان يطمح أن يتولى القيادة العامة في فتح بلاد الشام، منافسا في ذلك أبا عبيدة بن الجراح دون أن ينافسه أبو عبيدة، فكانت المنافسة من طرف واحد، ولكن
أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، لم يحقق له هـذا الطموح، ولم يؤيده عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، ولم يعاونه في تحقيق ما طمح له من منصب رفيع.
والتطلع إلى الإمارة بما فيها من مسئوليات جسام، يدل على أن الذي يتطلع إليها، يحب المسئولية، ولا يتهرب منها، أو يبتعد عنها بالوقوف في الظل مغمورا لا يعرف الناس، ولا يعرفه الناس.
ولا يقتصر حب عمرو للمسئولية على قيادته العسكرية، بل يتعداها إلى مختلف نشاطه، في الجانب غير العسكري من حياته، فإقدامه على الاجتهاد في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة، والقرآن الكريم ينزل، وعرضه وجهة نظره في اجتهاده للنبي صلى الله عليه وسلم -كما حدث بعد عودته من سرية ذات السلاسل- دليل على حبه للمسئولية الأدبية الكاملة، وتمسكه بمسئوليته الكاملة، دون خوف أو وجل.
لقد كان عمرو بحق يحب المسئولية، ويريدها لنفسه، ويطالب بها، ولا يستطيع الصبر على التخلي عنها طويلا.
[ ص: 39 ]
5 - وكان عمرو يتمتع بحاسة متميزّة لتأثير طبيعة الأرض في سير القتال، فهو الذي أشار على قادة المسلمين في بلاد الشام بالاجتماع في
اليرموك ، فلما نزل الروم معسكرهم، انتقل المسلمون من معسكرهم القديم إلى معسكر جديد مناسب، فنزلوا على طريق انسحاب الروم، وليس للرّوم طريق إلا على المسلمين!.. حينذاك " هـتف عمرو: أيها الناس! أبشروا، حُصرت والله الروم، وقلّما جاء محصور بخير "
[1] .
[ ص: 34 ]
وكما كان يحرص على جمع المعلومات عن العدو والأرض، كان يحرص على منع العدو من جمع المعلومات عن قواته وأرضه. فقد منع رجاله في سرية ذات السلاسل -وفيهم كبار الصحابة:
أبو بكر ،
وعمر بن الخطاب ،
وأبو عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنهم ، وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار- من إشعال النار ليلا، على الرغم من شدة البرد وقسوته، ليحول دون كشف مواضعهم للعدو، وكشف عددهم القليل للعدو أيضًا.
وهذا المثال يدل على إيمان عمرو بأهمية الضبط، والطاعة، والسيطرة، لذلك كان يفرض على رجاله ضبطًا عاليًا، ويطالبهم بالطاعة المطلقة لأوامره، ويسيطر عليهم سيطرة تامة، وهو يدل على شدة ضبط عمرو، وسيطرته النافذة على مرءوسيه، بصرف النظر عن قيمتهم الاجتماعية، والدينية، والسياسية.
6 - وكان على جانب عظيم من الشجاعة الشخصية، فقد كان من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهلية، مذكورًا بذلك فيهم
[2] ، وكان جريئًا مِقْدامًا، " وقد وصفه
عثمان بن عفان لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، بقوله: إن عَمْرًا لَمُجَرَّأٌ، وفيه إقدامٌ، وحبٌّ للإمارة... "
[3] ، وقد باشر القتال في القلب أيام صفين، فلما كان يوم
[ ص: 35 ] من تلك الأيام، " اقتتل أهل العراق، وأهل الشام حتى غابت الشمس، ثم اقتتلوا ساعة من الليل، حتى كثرت القتلى بينهم، فصاح عمرو بأصحابه: الأرض... الأرض... يا أهل الشام! فترجّلوا ودبَّ بهم، وترجّل أهل العراق أيضًا، فكان عمرو يقاتل وهو يقول:
وصَبَرْنا على مَواطِنِ ضَنْكٍ وخُطوبٍ تُري البياض الوليدا
فأقبل رجل من أهل العراق، فضرب عمرًا ضربةً جَرَحَهُ على العاتق، فأَدْرَكَهُ عمرو فضربهُ ضربةً قضت عليه. "
[4] .
ومَوَاقِفُهُ البطولية، التي تدل على شجاعته الشخصية، أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
7 - ولكنه كان يحارب بعقله، كما كان يحارب بسيفه، بل كان عقله أمضى حَدًّا من سيفه، فيستعمل عقله في الحرب، أكثر مما يستعمل سيفه.
ففي فتح مصر، استهان القِبط بالفاتحين، وقال قائلهم: (ما أرَثَّ
[5] العرب، ما رأينا مِثْلَنَا دان لمِثْلِهِم) ، فخاف
عمرو أن يطمّعهم ذلك، فأرى عمرو المصريين حال العرب في بلادهم قبل
[ ص: 36 ] الفتح، وكيف أصبحوا بعد الفتح في تمتعهم بأسباب الحياة، وحالهم في الحرب، ثم " قال للمصريين: علمتُ حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب، فخشيتُ أن تهلكوا، فأحببتُ أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم، وذلك عيشهم، وقد كَلبوا
[6] على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أنّ ما رأيتم في اليوم الثالث، غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول. "
وتفرّق المصريون وهم يقولون: (لقد رمتكم العرب برجلهم) .
" وبلغ
عمر بن الخطاب ذلك، فقال: والله إنّ حربه لَلَيِّنة، مالها سطوة ولا سَوْرة
[7] كسَوْرات الحروب من غيره. "
[8] .
لقد كان عمرو يجيد حرب الدعاية، ويؤمن بمبدأ: الحرب خُدعة.
وكان يحارب بعقله وسيفه، ولا يحارب بسيفه إلا إذا أعيته الحرب بعقله، ولم يبق أمامه لتحقيق أهدافه إلا السيف، وكان يمتلك في الحربين الشجاعة الشخصية، التي تقود إلى النصر ولا تقود إلى الهزيمة.
[ ص: 37 ]
8 - وكان يتحلّى بالإرادة القوية الثابتة، قبل إسلامه، وبعد إسلامه، حتى مضى إلى جوار الله.
كانت إرادته القوية الثابتة قبل إسلامه، تتركّز على محاربة الإسلام والمسلمين، فحارب هـذا الدين، والذين اعتنقوه، حربًا لا هـوادة فيها في ميدان القتال، فقاتل المسلمين في أُحُد والأحزاب .
وكانت تلك الإرادة تتركّز بعد إسلامه في خدمة الإسلام والمسلمين، فحقّق ذلك عن طريق سفارته النبوية، وولايته على عُمان، وتولّيه جمع الصدقات -أحد أعمالها- للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، حقّق إرادته في خدمة الإسلام والمسلمين عن طريق حرب الردة ، وفتوح الشام ومصر وليبيا، والتمهيد المؤثِّر في فتح إفريقية.
ولكن إرادته القوية الثابتة، تتمثل في تحقيق طموحه في فتح مصر، وإقناع عمر بن الخطاب للموافقة على هـذا الفتح، ومسيرته الطويلة الشاقة في فتح مصر، بالسيف تارة، وبالمفاوضات تارة أخرى، وبالقتال مرة، وبالسلام مرة أخرى، حتى حقّق طموحه في فتح مصر.
إن إرادة عمرو القوية الثابتة، تبدو واضحة على كل أعماله، إنسانًا، وقائدًا، وإداريًّا، وسفيرًا.
9 - وكان يتحمّل المسئولية، ويحبّها ولا يتهرّب منها، ولا يلقيها على عواتق الآخرين خوفًا من عواقبها، وبخاصة في حالات الإخفاق.
[ ص: 38 ]
وقد نافس
أبا عبيدة بن الجراح على الإمارة في سرية ذات السلاسل ، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فرضخ أبو عبيدة
لعمرو ، خوفًا من الاختلاف.
وكان يطمح أن يتولى القيادة العامة في فتح بلاد الشام، منافسًا في ذلك أبا عُبيدة بن الجراح دون أن ينافسه أبو عبيدة، فكانت المنافسة من طرف واحد، ولكنّ
أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، لم يحقق له هـذا الطموح، ولم يؤيّده عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، ولم يعاونه في تحقيق ما طمح له من منصب رفيع.
والتطلع إلى الإمارة بما فيها من مسئوليات جسام، يدلّ على أن الذي يتطلّع إليها، يحبّ المسئولية، ولا يتهرّب منها، أو يبتعد عنها بالوقوف في الظلّ مغمورًا لا يعرف الناس، ولا يعرفه الناس.
ولا يقتصر حب عمرو للمسئولية على قيادته العسكرية، بل يتعدّاها إلى مختلف نشاطه، في الجانب غير العسكري من حياته، فإقدامه على الاجتهاد في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة، والقرآن الكريم ينزل، وعَرْضِه وجهةَ نظره في اجتهاده للنبي صلى الله عليه وسلم -كما حدث بعد عودته من سرية ذات السلاسل- دليل على حبه للمسئولية الأدبية الكاملة، وتمسكه بمسئوليته الكاملة، دون خوف أو وَجَل.
لقد كان عمرو بحق يحب المسئولية، ويريدها لنفسه، ويطالب بها، ولا يستطيع الصبر على التخلي عنها طويلا.
[ ص: 39 ]