المسألة الرابعة : من الناس من
nindex.php?page=treesubj&link=19153_19154عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه :
أحدها : أنه تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197ولا جدال في الحج ) وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلا إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير كان الاشتغال بالجدال في الحج
[ ص: 143 ] ضم طاعة إلى طاعة ، فكان أولى بالترغيب فيه .
وثانيها : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) [الزخرف : 58] عابهم بكونهم من أهل الجدل ، وذلك يدل على أن الجدل مذموم .
وثالثها : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=46ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) [الأنفال : 46] نهي عن المنازعة .
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [النحل : 125] وبقوله تعالى حكاية عن الكفار أنهم قالوا
لنوح عليه السلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) [هود : 32] ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين .
إذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التوفيق بين هذه النصوص ، فنحمل
nindex.php?page=treesubj&link=19153_19154_19152الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال والجاه ،
nindex.php?page=treesubj&link=19154_19152والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذب عن دين الله تعالى .
أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وأتموا الحج والعمرة لله ) وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197فمن فرض فيهن الحج ) ونهى عما هو شر ومعصية فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ثم عقب الكل بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال : وما تفعلوا من شيء يعلمه الله ، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر ، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف :
أحدها : إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته ؛ لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا ، فكيف في العقبى .
وثانيها : أن من المفسرين من قال في تفسير قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=15إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) [طه : 15] معناه : لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية ، كأنه قيل للعبد : ما تفعله من خير علمته ، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك .
وثالثها : أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ، ومطلع عليه ، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم ، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد ، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب ، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب .
ورابعها : أن
جبريل عليه السلام لما قال :
nindex.php?page=treesubj&link=19798_19801ما الإحسان ؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011835الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك فههنا بين للعبد أنه يراه ، ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات ؛ لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة ، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله ، كان أحرص على العمل ، وأكثر التذاذا به ، وأقل نفرة عنه .
وخامسها : أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك ، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مِنَ النَّاسِ مَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19153_19154عَابَ الِاسْتِدْلَالَ وَالْبَحْثَ وَالنَّظَرَ وَالْجِدَالَ وَاحْتَجَّ بِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْجِدَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةً وَسَبِيلًا إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا نَهَى عَنْهُ فِي الْحَجِّ ، بَلْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِالْجِدَالِ فِي الْحَجِّ
[ ص: 143 ] ضَمَّ طَاعَةٍ إِلَى طَاعَةٍ ، فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّرْغِيبِ فِيهِ .
وَثَانِيهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) [الزُّخْرُفِ : 58] عَابَهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَدَلَ مَذْمُومٌ .
وَثَالِثُهَا : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=46وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) [الْأَنْفَالِ : 46] نَهْيٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ .
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْجِدَالُ فِي الدِّينِ طَاعَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=125ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النَّحْلِ : 125] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا
لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=32قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ) [هُودٍ : 32] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ ذَلِكَ الْجِدَالُ إِلَّا لِتَقْرِيرِ أُصُولِ الدِّينِ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : لَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ ، فَنَحْمِلُ
nindex.php?page=treesubj&link=19153_19154_19152الْجَدَلَ الْمَذْمُومَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْبَاطِلِ ، وَطَلَبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19154_19152وَالْجَدَلَ الْمَمْدُوحَ عَلَى الْجَدَلِ فِي تَقْرِيرِ الْحَقِّ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالذَّبِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا هُوَ خَيْرٌ وَطَاعَةٌ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ) وَنَهَى عَمَّا هُوَ شَرٌّ وَمَعْصِيَةٌ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) ثُمَّ عَقَّبَ الْكُلَّ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ : وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ شَيْءٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ، حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّ الْخَيْرَ بِأَنَّهُ يَعْلَمُهُ اللَّهُ لِفَوَائِدَ وَلَطَائِفَ :
أَحَدُهَا : إِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الْخَيْرَ ذَكَرْتُهُ وَشَهَّرْتُهُ ، وَإِذَا عَلِمْتُ مِنْكَ الشَّرَّ سَتَرْتُهُ وَأَخْفَيْتُهُ ؛ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ رَحْمَتِي بِكَ فِي الدُّنْيَا هَكَذَا ، فَكَيْفَ فِي الْعُقْبَى .
وَثَانِيهَا : أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=15إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) [طه : 15] مَعْنَاهُ : لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أُخْفِيَهَا عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ فَكَذَا هَذِهِ الْآيَةُ ، كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْعَبْدِ : مَا تَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ عَلِمْتُهُ ، وَأَمَّا الَّذِي تَفْعَلُهُ مِنَ الشَّرِّ فَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ أُخْفِيَهُ عَنْ نَفْسِي لَفَعَلْتُ ذَلِكَ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ السُّلْطَانَ الْعَظِيمَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ الْمُطِيعِ : كُلُّ مَا تَتَحَمَّلُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ وَالْخِدْمَةِ فِي حَقِّي فَأَنَا عَالِمٌ بِهِ ، وَمُطَّلِعٌ عَلَيْهِ ، كَانَ هَذَا وَعْدًا لَهُ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ الْمُذْنِبِ الْمُتَمَرِّدِ كَانَ تَوَعُّدًا بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْدِ بِالثَّوَابِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعِيدِ بِالْعِقَابِ .
وَرَابِعُهَا : أَنَّ
جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=19798_19801مَا الْإِحْسَانُ ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011835الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ فَهَهُنَا بَيَّنَ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ يَرَاهُ ، وَيَعْلَمُ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ ؛ لِتَكُونَ طَاعَةُ الْعَبْدِ لِلرَّبِّ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّ الْخَادِمَ مَتَّى عَلِمَ أَنَّ مَخْدُومَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَافِلٍ عَنْ أَحْوَالِهِ ، كَانَ أَحْرَصَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَأَكْثَرَ الْتِذَاذًا بِهِ ، وَأَقَلَّ نُفْرَةً عَنْهُ .
وَخَامِسُهَا : أَنَّ الْخَادِمَ إِذَا عَلِمَ اطِّلَاعَ الْمَخْدُومِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ كَانَ جِدُّهُ وَاجْتِهَادُهُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَفِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَحْظُورَاتِ أَشَدَّ مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَتْبَعَ تَعَالَى الْأَمْرَ بِالْحَجِّ وَالنَّهْيَ عَنِ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=197وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ) .