ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) إشارة إلى جواب سؤال يرد على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6فتبينوا ) وهو أن يقع لواحد أن يقول : إنه لا حاجة إلى المراجعة وعقولنا كافية ، بها أدركنا الإيمان وتركنا العصيان ، فكذلك نجتهد في أمورنا ، فقال : ليس إدراك الإيمان بالاجتهاد ، بل الله بين البرهان وزين الإيمان حتى حصل اليقين ، وبعد حصول اليقين لا يجوز التوقف ، والله إنما أمركم بالتوقف عند تقليد قول الفاسق ، وما أمركم بالعناد بعد ظهور البرهان ، فكأنه تعالى قال : توقفوا فيما يكون مشكوكا فيه لكن الإيمان حببه إليكم بالبرهان فلا تتوقفوا في قبوله ، وعلى قولنا : المخاطب بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حبب إليكم ) هو المخاطب بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7لو يطيعكم ) إذا علمت معنى الآية جملة ، فاسمعه مفصلا ولنفصله في مسائل :
المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7واعلموا أن فيكم رسول الله ) الرجوع إليه والاعتماد على قوله ، فلم لم يقل بصريح اللفظ فتبينوا وراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وما الفائدة في العدول إلى هذا المجاز ؟ نقول : الفائدة زيادة التأكيد ، وذلك لأن قول القائل فيما ذكرنا من المثال : هذا الشيخ قاعد آكد في وجوب المراجعة إليه من قوله : راجعوا شيخكم ، وذلك لأن القائل يجعل وجوب المراجعة إليه متفقا عليه ، ويجعل سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده ، فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ ، وأن الواجب مراجعته ، فإن كنتم لا تعلمون قعوده فهو قاعد ، فيجعل حسن المراجعة أظهر من أمر القعود ، كأنه يقول : خفي عليكم قعوده فتركتم مراجعته ، ولا يخفى عليكم حسن مراجعته ، فيجعل حسن مراجعته أظهر من الأمر الحسي ، بخلاف ما لو قال راجعوه ؛ لأنه حينئذ يكون قائلا بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق ، وبين الكلامين بون بعيد ، فكذلك قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28750_29020واعلموا أن فيكم رسول الله ) يعني لا يخفى عليكم وجوب مراجعته ، فإن كان خفي عليكم كونه فيكم ، فاعلموا أنه فيكم ، فيجعل حسن المراجعة أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم ، وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصريح .
المسألة الثانية : إذا كان المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7لو يطيعكم ) بيان
nindex.php?page=treesubj&link=30177كونه غير مطيع لأحد بل هو متبع للوحي فلم لم يصرح به ؟ نقول : بيان نفي الشيء مع بيان دليل النفي أتم من بيانه من غير دليل ، والجملة الشرطية بيان النفي مع بيان دليله ، فإن قوله : " ليس فيهما آلهة " لو قال قائل : لم قلت : إنه ليس فيهما آلهة يجب أن يذكر الدليل ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم ، وقال قائل : لم لا يطيع لوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل مصلحتكم ، لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تعنتون وتأثمون وهو يشق عليه عنتكم ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128عزيز عليه ما عنتم ) [ التوبة : 128 ] فإن طاعتكم لا تفيده شيئا فلا
[ ص: 107 ] يطيعكم ، فهذا نفي الطاعة بالدليل ، وبين نفي الشيء بدليل ، ونفيه بغير دليل فرق عظيم .
المسألة الثالثة : قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7في كثير من الأمر ) ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159وشاورهم في الأمر ) [ آل عمران : 159 ] .
المسألة الرابعة : إذا كان المراد بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حبب إليكم الإيمان ) ، فلا تتوقفوا ، فلم لم يصرح به ؟ قلنا : لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر ، يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ تلك المرتبة ؛ لأن من بلغ إلى درجة الظن فإنه يتوقف إلى أن يبلغ درجة اليقين ، فلما كان عدم التوقف في اليقين معلوما متفقا عليه لم يقل : فلا تتوقفوا ، بل قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حبب إليكم الإيمان ) ، أي بينه وزينه بالبرهان اليقيني .
المسألة الخامسة : ما المعنى في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) نقول : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حبب إليكم ) أي قربه وأدخله في قلوبكم ، ثم زينه فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم ، وهذا لأن من يحب أشياء فقد يمل شيئا منها إذا حصل عنده وطال لبثه ،
nindex.php?page=treesubj&link=28650والإيمان كل يوم يزداد حسنا ، ولكن من كانت عبادته أكثر وتحمله لمشاق التكليف أتم ، تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ؛ ولهذا قال في الأول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حبب إليكم ) وقال ثانيا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وزينه في قلوبكم ) كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم .
المسألة السادسة : ما
nindex.php?page=treesubj&link=28674_30522الفرق بين الأمور الثلاثة وهي الكفر والفسوق والعصيان ؟ فنقول : هذه أمور ثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل ؛ لأن الإيمان الكامل المزين هو أن يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان :
أحدها : قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وكره إليكم الكفر ) وهو التكذيب في مقابلة التصديق بالجنان ، والفسوق هو الكذب .
وثانيها : هو ما قبل هذه الآية ، وهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6إن جاءكم فاسق بنبإ ) سمى من كذب فاسقا ، فيكون الكذب فسوقا .
ثالثها : ما ذكره بعد هذه الآية ، وهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=11بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) [ الحجرات : 11 ] فإنه يدل على أن الفسوق أمر قولي لاقترانه بالاسم ، وسنبين تفسيره إن شاء الله تعالى .
ورابعها : وجه معقول وهو أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة على ما علم في قول القائل : فسقت الرطبة ، إذا خرجت ، وغير ذلك ؛ لأن الفسوق هو الخروج ، زيد في الاستعمال كونه الخروج عن الطاعة ، لكن الخروج لا يكون له ظهور بالأمر القلبي ، إذ لا اطلاع على ما في القلوب لأحد إلا لله تعالى ، ولا يظهر بالأفعال لأن الأمر قد يترك إما لنسيان أو سهو ، فلا يعلم حال التارك والمرتكب أنه مخطئ أو متعمد ، وأما الكلام فإنه حصول العلم بما عليه حال المتكلم ، فالدخول في الإيمان والخروج منه يظهر بالكلام ، فتخصيص الفسوق بالأمر القولي أقرب ، وأما العصيان فترك الأمر وهو بالفعل أليق ، فإذا علم هذا ففيه ترتيب في غاية الحسن ، وهو أنه تعالى كره إليكم الكفر ، وهو الأمر الأعظم كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7والفسوق ) يعني ما يظهر لسانكم أيضا ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7والعصيان ) وهو دون الكل ، ولم يترك عليكم الأمر الأدنى وهو العصيان ، وقال بعض الناس : الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة ، والعصيان هو الصغيرة ، وما ذكرناه أقوى .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7أولئك هم الراشدون ) .
[ ص: 108 ] خطابا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه معنى لطيف : وهو أن الله تعالى في أول الأمر قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7واعلموا أن فيكم رسول الله ) أي هو مرشد لكم ، فخطاب المؤمنين للتنبيه على شفقته بالمؤمنين ، فقال في الأول : كفى النبي مرشدا لكم ما تسترشدونه ، فأشفق عليهم وأرشدهم ، وعلى هذا قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7الراشدون ) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم وينتهون عما ينهاهم .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6فَتَبَيَّنُوا ) وَهُوَ أَنْ يَقَعَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْمُرَاجَعَةِ وَعُقُولُنَا كَافِيَةٌ ، بِهَا أَدْرَكْنَا الْإِيمَانَ وَتَرَكْنَا الْعِصْيَانَ ، فَكَذَلِكَ نَجْتَهِدُ فِي أُمُورِنَا ، فَقَالَ : لَيْسَ إِدْرَاكُ الْإِيمَانِ بِالِاجْتِهَادِ ، بَلِ اللَّهُ بَيَّنَ الْبُرْهَانَ وَزَيَّنَ الْإِيمَانَ حَتَّى حَصَلَ الْيَقِينُ ، وَبَعْدَ حُصُولِ الْيَقِينِ لَا يَجُوزُ التَّوَقُّفُ ، وَاللَّهُ إِنَّمَا أَمَرَكُمْ بِالتَّوَقُّفِ عِنْدَ تَقْلِيدِ قَوْلِ الْفَاسِقِ ، وَمَا أَمَرَكُمْ بِالْعِنَادِ بَعْدَ ظُهُورِ الْبُرْهَانِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : تَوَقَّفُوا فِيمَا يَكُونُ مَشْكُوكًا فِيهِ لَكِنَّ الْإِيمَانَ حَبَّبَهُ إِلَيْكُمْ بِالْبُرْهَانِ فَلَا تَتَوَقَّفُوا فِي قَبُولِهِ ، وَعَلَى قَوْلِنَا : الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ) هُوَ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7لَوْ يُطِيعُكُمْ ) إِذَا عَلِمْتَ مَعْنَى الْآيَةِ جُمْلَةً ، فَاسْمَعْهُ مُفَصَّلًا وَلْنُفَصِّلْهُ فِي مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) الرُّجُوعَ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِ ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ فَتَبَيَّنُوا وَرَاجِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ إِلَى هَذَا الْمَجَازِ ؟ نَقُولُ : الْفَائِدَةُ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِثَالِ : هَذَا الشَّيْخُ قَاعِدٌ آكَدُ فِي وُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ : رَاجِعُوا شَيْخَكُمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ يَجْعَلُ وُجُوبَ الْمُرَاجَعَةِ إِلَيْهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ ، وَيَجْعَلُ سَبَبَ عَدَمِ الرُّجُوعِ عَدَمَ عِلْمِهِمْ بِقُعُودِهِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّكُمْ لَا تَشُكُّونَ فِي أَنَّ الْكَاشِفَ هُوَ الشَّيْخُ ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ مُرَاجَعَتُهُ ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قُعُودَهُ فَهُوَ قَاعِدٌ ، فَيَجْعَلُ حُسْنَ الْمُرَاجَعَةِ أَظْهَرَ مِنْ أَمْرِ الْقُعُودِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : خَفِيَ عَلَيْكُمْ قُعُودُهُ فَتَرَكْتُمْ مُرَاجَعَتَهُ ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ حُسْنُ مُرَاجَعَتِهِ ، فَيَجْعَلُ حُسْنَ مُرَاجَعَتِهِ أَظْهَرَ مِنَ الْأَمْرِ الْحِسِّيِّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ رَاجِعُوهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ قَائِلًا بِأَنَّكُمْ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ هُوَ الطَّرِيقُ ، وَبَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28750_29020وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) يَعْنِي لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ وُجُوبُ مُرَاجَعَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَلَيْكُمْ كَوْنُهُ فِيكُمْ ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ فِيكُمْ ، فَيَجْعَلُ حُسْنَ الْمُرَاجَعَةِ أَظْهَرَ مِنْ كَوْنِهِ فِيهِمْ حَيْثُ تَرَكَ بَيَانَهُ وَأَخَذَ فِي بَيَانِ كَوْنِهِ فِيهِمْ ، وَهَذَا مِنَ الْمَعَانِي الْعَزِيزَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمَجَازَاتِ وَلَا تُوجَدُ فِي الصَّرِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7لَوْ يُطِيعُكُمْ ) بَيَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=30177كَوْنِهِ غَيْرَ مُطِيعٍ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلْوَحْيِ فَلِمَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ ؟ نَقُولُ : بَيَانُ نَفْيِ الشَّيْءِ مَعَ بَيَانِ دَلِيلِ النَّفْيِ أَتَمُّ مِنْ بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَيَانُ النَّفْيِ مَعَ بَيَانِ دَلِيلِهِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : " لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ " لَوْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَ قُلْتَ : إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا آلِهَةٌ يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الدَّلِيلَ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) [ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] فَكَذَلِكَ هَهُنَا لَوْ قَالَ : لَا يُطِيعُكُمْ ، وَقَالَ قَائِلٌ : لِمَ لَا يُطِيعُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ : لَوْ أَطَاعَكُمْ لَأَطَاعَكُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِكُمْ ، لَكِنْ لَا مَصْلَحَةَ لَكُمْ فِيهِ لِأَنَّكُمْ تَعْنَتُونَ وَتَأْثَمُونَ وَهُوَ يَشُقُّ عَلَيْهِ عَنَتُكُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) [ التَّوْبَةِ : 128 ] فَإِنَّ طَاعَتَكُمْ لَا تُفِيدُهُ شَيْئًا فَلَا
[ ص: 107 ] يُطِيعُكُمْ ، فَهَذَا نَفْيُ الطَّاعَةِ بِالدَّلِيلِ ، وَبَيْنَ نَفْيِ الشَّيْءِ بِدَلِيلٍ ، وَنَفْيِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَرْقٌ عَظِيمٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ ) لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ يُوَافِقُهُمْ وَيَفْعَلُ بِمُقْتَضَى مَصْلَحَتِهِمْ تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=159وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) [ آلِ عِمْرَانَ : 159 ] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ) ، فَلَا تَتَوَقَّفُوا ، فَلِمَ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ ؟ قُلْنَا : لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى ظُهُورِ الْأَمْرِ ، يَعْنِي أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ مَرْتَبَةٌ حَتَّى يَتَوَقَّفَ إِلَى بُلُوغِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَلَغَ إِلَى دَرَجَةِ الظَّنِّ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْيَقِينِ ، فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ التَّوَقُّفِ فِي الْيَقِينِ مَعْلُومًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَمْ يَقُلْ : فَلَا تَتَوَقَّفُوا ، بَلْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ) ، أَيْ بَيَّنَهُ وَزَيَّنَهُ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : مَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) نَقُولُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ) أَيْ قَرَّبَهُ وَأَدْخَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، ثُمَّ زَيَّنَهُ فِيهَا بِحَيْثُ لَا تُفَارِقُونَهُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ قُلُوبِكُمْ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُحِبُّ أَشْيَاءَ فَقَدْ يَمَلُّ شَيْئًا مِنْهَا إِذَا حَصَلَ عِنْدَهُ وَطَالَ لَبْثُهُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28650وَالْإِيمَانُ كُلَّ يَوْمٍ يَزْدَادُ حُسْنًا ، وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَكْثَرَ وَتَحَمُّلُهُ لِمَشَاقِّ التَّكْلِيفِ أَتَمَّ ، تَكُونُ الْعِبَادَةُ وَالتَّكَالِيفُ عِنْدَهُ أَلَذَّ وَأَكْمَلَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ) وَقَالَ ثَانِيًا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) كَأَنَّهُ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَقَامَهُ فِي قُلُوبِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَا
nindex.php?page=treesubj&link=28674_30522الْفَرْقُ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ ؟ فَنَقُولُ : هَذِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ فِي مُقَابَلَةِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُزَيَّنَ هُوَ أَنْ يَجْمَعَ التَّصْدِيقَ بِالْجَنَانِ وَالْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلَ بِالْأَرْكَانِ :
أَحَدُهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ) وَهُوَ التَّكْذِيبُ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْدِيقِ بِالْجَنَانِ ، وَالْفُسُوقُ هُوَ الْكَذِبُ .
وَثَانِيهَا : هُوَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=6إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ) سَمَّى مَنْ كَذَبَ فَاسِقًا ، فَيَكُونُ الْكَذِبُ فُسُوقًا .
ثَالِثُهَا : مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=11بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ) [ الْحُجُرَاتِ : 11 ] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفُسُوقَ أَمْرٌ قَوْلِيٌّ لِاقْتِرَانِهِ بِالِاسْمِ ، وَسَنُبَيِّنُ تَفْسِيرَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَابِعُهَا : وَجْهٌ مَعْقُولٌ وَهُوَ أَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ عَلَى مَا عُلِمَ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ ، إِذَا خَرَجَتْ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْفُسُوقَ هُوَ الْخُرُوجُ ، زِيدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَوْنُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الطَّاعَةِ ، لَكِنَّ الْخُرُوجَ لَا يَكُونُ لَهُ ظُهُورٌ بِالْأَمْرِ الْقَلْبِيِّ ، إِذْ لَا اطِّلَاعَ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَظْهَرُ بِالْأَفْعَالِ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُتْرَكُ إِمَّا لِنِسْيَانٍ أَوْ سَهْوٍ ، فَلَا يُعْلَمُ حَالُ التَّارِكِ وَالْمُرْتَكِبِ أَنَّهُ مُخْطِئٌ أَوْ مُتَعَمِّدٌ ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِمَا عَلَيْهِ حَالُ الْمُتَكَلِّمِ ، فَالدُّخُولُ فِي الْإِيمَانِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ يَظْهَرُ بِالْكَلَامِ ، فَتَخْصِيصُ الْفُسُوقِ بِالْأَمْرِ الْقَوْلِي أَقْرَبُ ، وَأَمَّا الْعِصْيَانُ فَتَرْكُ الْأَمْرِ وَهُوَ بِالْفِعْلِ أَلْيَقُ ، فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَفِيهِ تَرْتِيبٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) [ لُقْمَانَ : 13 ] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَالْفُسُوقَ ) يَعْنِي مَا يُظْهِرُ لِسَانُكُمْ أَيْضًا ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَالْعِصْيَانَ ) وَهُوَ دُونَ الْكُلِّ ، وَلَمْ يَتْرُكْ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ الْأَدْنَى وَهُوَ الْعِصْيَانُ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : الْكُفْرُ ظَاهِرٌ وَالْفُسُوقُ هُوَ الْكَبِيرَةُ ، وَالْعِصْيَانُ هُوَ الصَّغِيرَةُ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَقْوَى .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) .
[ ص: 108 ] خِطَابًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ : وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ) أَيْ هُوَ مُرْشِدٌ لَكُمْ ، فَخِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَفَقَتِهِ بِالْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : كَفَى النَّبِيُّ مُرْشِدًا لَكُمْ مَا تَسْتَرْشِدُونَهُ ، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7الرَّاشِدُونَ ) أَيِ الْمُوَافِقُونَ لِلرُّشْدِ يَأْخُذُونَ مَا يَأْتِيهِمْ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا يَنْهَاهُمْ .