(
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65nindex.php?page=treesubj&link=29007_30359اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) في الترتيب وجوه :
الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=64بما كنتم تكفرون ) يريدون [ أن ] ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم : ما أشركنا ، وقالوا آمنا به فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانهم من الجوارح فيعترفون بذنوبهم .
الثاني : لما قال الله تعالى لهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=60ألم أعهد إليكم ) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان ، وفي الختم على الأفواه وجوه :
أقواها ، أن
nindex.php?page=treesubj&link=30359الله تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد عليهم ، وإنه في قدرة الله يسير ، أما الإسكات فلا خفاء فيه ، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة ، فكما جاز تحركه بها جاز تحرك غيره بمثلها ، والله قادر على الممكنات ، والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم ، فيقفون ناكسي الرءوس وقوف القنوط اليئوس لا يجد عذرا فيعتذر ولا مجال توبة فيستغفر ، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار ، كما يقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار ، إشارة إلى ظهور الحزن ، والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية .
أما اللفظية فالأولى منها : هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65نختم ) وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل ؛ لأنه لو قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65نختم على أفواههم ) وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا وقهرا ، والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ) أي باختيارها بعدما يقدرها الله - تعالى - على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم .
الثانية منها : هي أن الله تعالى قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ) جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي ؛ لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=35وما عملته أيديهم ) [ يس : 35 ] أي ما عملوه وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195ولا تلقوا بأيديكم ) [ البقرة : 195 ] أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة ، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره ، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها .
وأما المعنوية فالأولى منها : أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة ، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة ، فجعل الله الشاهد عليهم منهم ، لا يقال الأيدي والأرجل أيضا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها ، لأنا نقول : في رد شهادتها قبول شهادتها ؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم ، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور ، لا بد من أن يكون مذنبا في الدنيا ، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا ، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر ، فقال الفاسق : كذبت في نهار
[ ص: 90 ] هذا اليوم ، عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله : كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووجب الجزاء ، وإن كذب في قوله : كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم ، فوجد الشرط أيضا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه .
المسألة الثانية : الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم ، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=30ذلك قولهم بأفواههم ) [ التوبة : 30 ] فلما ختم على أفواههم أيضا لزم أن يكون قولهم بأعضائهم ؛ لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء ، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65nindex.php?page=treesubj&link=29007_30359الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فِي التَّرْتِيبِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=64بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) يُرِيدُونَ [ أَنْ ] يُنْكِرُوا كُفْرَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : مَا أَشْرَكْنَا ، وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِنْكَارِ وَيُنْطِقُ اللَّهُ غَيْرَ لِسَانِهِمْ مِنَ الْجَوَارِحِ فَيَعْتَرِفُونَ بِذُنُوبِهِمْ .
الثَّانِي : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=60أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ ) لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ فَسَكَتُوا وَخَرِسُوا وَتَكَلَّمَتْ أَعْضَاؤُهُمْ غَيْرَ اللِّسَانِ ، وَفِي الْخَتْمِ عَلَى الْأَفْوَاهِ وُجُوهٌ :
أَقْوَاهَا ، أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30359اللَّهَ تَعَالَى يُسْكِتُ أَلْسِنَتَهُمْ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهَا وَيُنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّهُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ يَسِيرٌ ، أَمَّا الْإِسْكَاتُ فَلَا خَفَاءَ فِيهِ ، وَأَمَّا الْإِنْطَاقُ فَلِأَنَّ اللِّسَانَ عُضْوٌ مُتَحَرِّكٌ بِحَرَكَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، فَكَمَا جَازَ تَحَرُّكُهُ بِهَا جَازَ تَحَرُّكُ غَيْرِهِ بِمِثْلِهَا ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِشَيْءٍ لِانْقِطَاعِ أَعْذَارِهِمْ وَانْتِهَاكِ أَسْتَارِهِمْ ، فَيَقِفُونَ نَاكِسِي الرُّءُوسِ وُقُوفَ الْقَنُوطِ الْيَئُوسِ لَا يَجِدُ عُذْرًا فَيَعْتَذِرُ وَلَا مَجَالَ تَوْبَةٍ فَيَسْتَغْفِرُ ، وَتَكَلُّمُ الْأَيْدِي ظُهُورُ الْأُمُورِ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ مَعَهُ الْإِنْكَارُ حَتَّى تَنْطِقَ بِهِ الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارُ ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : الْحِيطَانُ تَبْكِي عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ، إِشَارَةً إِلَى ظُهُورِ الْحُزْنِ ، وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ وَفِيهِ لَطَائِفُ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ .
أَمَّا اللَّفْظِيَّةُ فَالْأُولَى مِنْهَا : هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْنَدَ فِعْلَ الْخَتْمِ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65نَخْتِمُ ) وَأَسْنَدَ الْكَلَامَ وَالشَّهَادَةَ إِلَى الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) وَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ يَكُونُ فِيهِ احْتِمَالُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ جَبْرًا وَقَهْرًا ، وَالْإِقْرَارُ بِالْإِجْبَارِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) أَيْ بِاخْتِيَارِهَا بَعْدَمَا يُقْدِرُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى الْكَلَامِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُمْ .
الثَّانِيَةُ مِنْهَا : هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=65وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) جَعَلَ الشَّهَادَةَ لِلْأَرْجُلِ وَالْكَلَامَ لِلْأَيْدِي ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُسْنَدُ إِلَى الْأَيْدِي قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=35وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ) [ يس : 35 ] أَيْ مَا عَمِلُوهُ وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 195 ] أَيْ وَلَا تُلْقُوا بِأَنْفُسِكُمْ فَإِذًا الْأَيْدِي كَالْعَامِلَةِ ، وَالشَّاهِدُ عَلَى الْعَامِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ ، فَجَعَلَ الْأَرْجُلَ وَالْجُلُودَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ لِبُعْدِ إِضَافَةِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيَّةُ فَالْأُولَى مِنْهَا : أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَالصِّدِّيقِينَ كُلُّهُمْ أَعْدَاءٌ لِلْمُجْرِمِينَ وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى الْعَدُوِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الشُّهُودِ الْعُدُولِ وَغَيْرِ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ ، فَجَعَلَ اللَّهُ الشَّاهِدَ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ ، لَا يُقَالُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ أَيْضًا صَدَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْهَا فَهِيَ فَسَقَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهَا ، لِأَنَّا نَقُولُ : فِي رَدِّ شَهَادَتِهَا قَبُولُ شَهَادَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَذَبَتْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ صَدَرَ الذَّنْبُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَالْمُذْنِبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعَ ظُهُورِ الْأُمُورِ ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُذْنِبًا فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ صَدَقَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ صَدَرَ مِنْهَا الذَّنْبُ فِي الدُّنْيَا ، وَهَذَا كَمَنْ قَالَ لِفَاسِقٍ : إِنْ كَذَبْتَ فِي نَهَارِ هَذَا الْيَوْمِ فَعَبْدِي حُرٌّ ، فَقَالَ الْفَاسِقُ : كَذَبْتُ فِي نَهَارِ
[ ص: 90 ] هَذَا الْيَوْمِ ، عَتَقَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ إِنْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ : كَذَبْتُ فِي نَهَارِ هَذَا الْيَوْمِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَوَجَبَ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ : كَذَبْتُ فَقَدْ كَذَبَ فِي نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، فَوُجِدَ الشَّرْطُ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَذَبْتُ فِي نَهَارِ الْيَوْمِ الَّذِي عَلَّقْتَ عِتْقَ عَبْدِكَ عَلَى كَذِبِي فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْخَتْمُ لَازِمٌ الْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ، فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْخَتْمُ عَلَى قُلُوبِهِمْ كَانَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=30ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ) [ التَّوْبَةِ : 30 ] فَلَمَّا خُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَيْضًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ بِأَعْضَائِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْأَعْضَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْقَلْبُ وَالْفَمُ تَعَيَّنَ الْجَوَارِحُ وَالْأَرْكَانُ .