[ ص: 108 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108قال اخسئوا فيها ولا تكلمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=109إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=111إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106nindex.php?page=treesubj&link=28994_30539_30440قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108قال اخسئوا فيها ولا تكلمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=109إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=111إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون )
اعلم أنه سبحانه لما قال: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=105ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون ) ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه ، وهو من وجهين.
الأول قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106ربنا غلبت علينا شقوتنا ) وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف": غلبت علينا : ملكتنا ، من قولك: غلبني فلان على كذا : إذا أخذه منك، والشقاوة : سوء العاقبة، قرئ: " شقوتنا " بفتح الشين وكسرها فيهما، قال
أبو مسلم : الشقوة من الشقاء كجرية الماء، والمصدر الجري، وقد يجيء لفظ فعلة، والمراد به الهيئة والحال، فيقول: جلسة حسنة وركبة وقعدة ، وذلك من الهيئة، وتقول: عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فعلى هذا ، المراد من الشقوة حال الشقاء.
المسألة الثانية: قال
الجبائي : المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب، وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. قلنا: إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى محدث , فمحدثه إما العبد أو الله تعالى ; فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه:
أحدها: أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع.
وثانيها: أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثا له، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم.
والثاني: أن أحدا في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه، لكنه لم يقصد إلا العلم ، فكيف حصل الجهل؟ فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى ، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة.
الوجه الثاني لهم في الجواب: قولهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106وكنا قوما ضالين ) وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذاك إلا
[ ص: 109 ] خلق الداعي إلى الضلال. ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين، قال لهم سبحانه: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخسئوا فيها ولا تكلمون ) وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة، بل لا يسأل عما يفعل. قال القاضي : في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106ربنا غلبت علينا شقوتنا ) دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته، وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب، فنقول : قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك، ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم، فلا جرم قال لهم: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخسئوا فيها ولا تكلمون ) .
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ) فالمعنى: أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون، فإن قيل: كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا: يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح.
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخسئوا فيها ) فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه.
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108ولا تكلمون ) فليس هذا نهيا لأنه لا تكليف في الآخرة، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف، قيل: هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون. وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما: أن لهم ست دعوات، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا ) [السجدة: 12] فيجابون (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13حق القول مني ) [السجدة: 13] فينادون ألف سنة ثانية (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=11ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) [غافر: 11] فيجابون (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=12ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ) [غافر: 12] فينادون ألفا ثالثة (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=77يامالك ليقض علينا ربك ) [الزخرف: 77] فيجابون (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=77إنكم ماكثون ) [الزخرف: 77] فينادون ألفا رابعة (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107ربنا أخرجنا ) فيجابون (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=44أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) [إبراهيم: 44] فينادون ألفا خامسة (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=37أخرجنا نعمل صالحا ) [فاطر: 37] فيجابون (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=37أولم نعمركم ) [فاطر: 37] فينادون ألفا سادسة (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=99رب ارجعون ) [المؤمنون: 99] فيجابون (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخسئوا فيها ) .
ثم بين سبحانه وتعالى، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين، وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=109إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فاتخذتموهم سخريا ) [المؤمنون: 110] فوصف تعالى أحد ما لأجله عذبوا وبعدوا من الخير، وهو ما عاملوا به المؤمنين.
وفي حرف أبي "أنه كان فريق" بالفتح ، بمعنى لأنه. وقرأ
نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن
عاصم بضم السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر هاهنا، وفي ص قال
الخليل nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه : هما لغتان كدري ودري. وقال
الكسائي والفراء : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية. قال
مقاتل : إن رؤساء
قريش مثل
أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويضحكون بالفقراء منهم مثل
بلال وخباب وعمار وصهيب، والمعنى اتخذتموهم هزوا حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكري ، وأكد ذلك بقوله: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110وكنتم منهم تضحكون ) ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=111إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) قرأ
حمزة والكسائي "إنهم" بالكسر والباقون بالفتح، فالكسر استئناف ؛ أي: قد
nindex.php?page=treesubj&link=19572_19579فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء، والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت، ويجوز أن يكون نصبا بإضمار الخافض ؛ أي: جزيتهم الجزاء الوافر; لأنهم هم الفائزون.
[ ص: 108 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=109إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=111إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106nindex.php?page=treesubj&link=28994_30539_30440قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=109إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=111إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ )
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=105أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ) ذَكَرُوا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْجَوَابِ عَنْهُ ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ.
الْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ": غَلَبَتْ عَلَيْنَا : مَلَكَتْنَا ، مِنْ قَوْلِكَ: غَلَبَنِي فُلَانٌ عَلَى كَذَا : إِذَا أَخَذَهُ مِنْكَ، وَالشَّقَاوَةُ : سُوءُ الْعَاقِبَةِ، قُرِئَ: " شِقْوَتُنَا " بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا فِيهِمَا، قَالَ
أَبُو مُسْلِمٍ : الشِّقْوَةُ مِنَ الشَّقَاءِ كَجِرْيَةِ الْمَاءِ، وَالْمَصْدَرُ الْجَرْيُ، وَقَدْ يَجِيءُ لَفْظُ فِعْلَةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْهَيْئَةُ وَالْحَالُ، فَيَقُولُ: جِلْسَةٌ حَسَنَةٌ وَرِكْبَةٌ وَقِعْدَةٌ ، وَذَلِكَ مِنَ الْهَيْئَةِ، وَتَقُولُ: عَاشَ فُلَانٌ عِيشَةً طَيِّبَةً وَمَاتَ مِيتَةً كَرِيمَةً، وَهَذَا هُوَ الْحَالُ وَالْهَيْئَةُ، فَعَلَى هَذَا ، الْمُرَادُ مِنَ الشِّقْوَةِ حَالُ الشَّقَاءِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ
الْجُبَّائِيُّ : الْمُرَادُ أَنَّ طَلَبَنَا اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَةَ وَحِرْصَنَا عَلَى الْعَمَلِ الْقَبِيحِ سَاقَنَا إِلَى هَذِهِ الشَّقَاوَةِ، فَأُطْلِقَ اسْمُ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَيْسَ هَذَا بِاعْتِذَارٍ مِنْهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِأَنْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ اعْتِرَافٌ بِقِيَامِ حُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي سُوءِ صَنِيعِهِمْ. قُلْنَا: إِنَّكَ حَمَلْتَ الشَّقَاوَةَ عَلَى طَلَبِ تِلْكَ اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَطَلَبُ تِلْكَ اللَّذَّاتِ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِمْ أَوْ لَا بِاخْتِيَارِهِمْ، فَإِنْ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِمْ فَذَلِكَ الِاخْتِيَارُ مُحْدَثٌ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِي كُلِّ الْحَوَادِثِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَنْسَدُّ عَلَيْكَ بَابُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى مُحْدِثٍ , فَمُحْدِثُهُ إِمَّا الْعَبْدُ أَوِ اللَّهُ تَعَالَى ; فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِنْ تَوَقَّفَ صُدُورُ تِلْكَ الْإِرَادَةِ عَنْهَا إِلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، عَادَ الْكَلَامُ فِيهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْمُرَجِّحِ فَقَدْ جَوَّزْتَ رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ كَمِّيَّةَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَلَا كَيْفِيَّتَهَا، وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحْدِثًا لَهُ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى الْعِلْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَرْضَى بِأَنْ يَخْتَارَ الْجَهْلَ، بَلْ لَا يَقْصِدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَالْكَافِرُ مَا قَصَدَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ هُوَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ إِلَّا مَا قَصَدَ إِيقَاعَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْعِلْمَ ، فَكَيْفَ حَصَلَ الْجَهْلُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِدَ لِلدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ إِنَّ الدَّاعِيَةَ إِنْ كَانَتْ سَائِقَةً إِلَى الْخَيْرِ كَانَتْ سَعَادَةً، وَإِنْ كَانَتْ سَائِقَةً إِلَى الشَّرِّ كَانَتْ شَقَاوَةً.
الوجه الثَّانِي لَهُمْ فِي الْجَوَابِ: قَوْلُهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) وَهَذَا الضَّلَالُ الَّذِي جَعَلُوهُ كَالْعِلَّةِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ إِنْ كَانَ هُوَ نَفْسَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ لَزِمَ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضَّلَالُ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا
[ ص: 109 ] خَلْقُ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ. ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَوْرَدُوا هَذَيْنِ الْعُذْرَيْنِ، قَالَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزَةٍ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. قَالَ الْقَاضِي : فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=106رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ) دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ، فَلَوْ كَانَ كُفْرُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى وَبِإِرَادَتِهِ، وَعَلِمُوا ذَلِكَ لَكَانُوا بِأَنْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ أَجْدَرَ وَإِلَى الْعُذْرِ أَقْرَبَ، فَنَقُولُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، فَلَا جَرَمَ قَالَ لَهُمْ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ) .
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ) فَالْمَعْنَى: أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ عِقَابَهُمْ دَائِمٌ؟ قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ السَّهْوُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ شِدَّةِ الْعَذَابِ فَيَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ يَسْأَلُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْغَوْثِ وَالِاسْتِرْوَاحِ.
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخْسَئُوا فِيهَا ) فَالْمَعْنَى ذِلُّوا فِيهَا وَانْزَجِرُوا كَمَا يُزْجَرُ الْكِلَابُ إِذَا زُجِرَتْ، يُقَالُ: خَسَأَ الْكَلْبُ وَخَسَأَ بِنَفْسِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108وَلَا تُكَلِّمُونِ ) فَلَيْسَ هَذَا نَهْيًا لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ فِي الْآخِرَةِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا تُكَلِّمُونِ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُخَفَّفُ، قِيلَ: هُوَ آخِرُ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ ثُمَّ لَا كَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الشَّهِيقُ وَالزَّفِيرُ، وَالْعُوَاءُ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ، لَا يُفْهِمُونَ وَلَا يُفْهَمُونَ. وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ لَهُمْ سِتَّ دَعَوَاتٍ، إِذَا دَخَلُوا النَّارَ قَالُوا أَلْفَ سَنَةٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=12رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا ) [السَّجْدَةِ: 12] فَيُجَابُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ) [السَّجْدَةِ: 13] فَيُنَادُونَ أَلْفَ سَنَةٍ ثَانِيَةٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=11رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [غَافِرٍ: 11] فَيُجَابُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=12ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ ) [غَافِرٍ: 12] فَيُنَادُونَ أَلْفًا ثَالِثَةً (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=77يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ) [الزُّخْرُفِ: 77] فَيُجَابُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=77إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) [الزُّخْرُفِ: 77] فَيُنَادُونَ أَلْفًا رَابِعَةً (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=107رَبَّنَا أَخْرِجْنَا ) فَيُجَابُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=44أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) [إِبْرَاهِيمَ: 44] فَيُنَادُونَ أَلْفًا خَامِسَةً (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=37أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ) [فَاطِرٍ: 37] فَيُجَابُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=37أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ) [فَاطِرٍ: 37] فَيُنَادُونَ أَلْفًا سَادِسَةً (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=99رَبِّ ارْجِعُونِ ) [الْمُؤْمِنُونَ: 99] فَيُجَابُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=108اخْسَئُوا فِيهَا ) .
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَنَّ فَزَعَهُمْ بِأَمْرٍ يَتَّصِلُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=109إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ) [الْمُؤْمِنُونَ: 110] فَوَصَفَ تَعَالَى أَحَدَ مَا لِأَجْلِهِ عُذِّبُوا وَبُعِدُوا مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ مَا عَامَلُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي حَرْفِ أُبَيٍّ "أَنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ" بِالْفَتْحِ ، بِمَعْنَى لِأَنَّهُ. وَقَرَأَ
نَافِعٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَنْ
عَاصِمٍ بِضَمِّ السِّينِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ هَاهُنَا، وَفِي ص قَالَ
الْخَلِيلُ nindex.php?page=showalam&ids=16076وَسِيبَوَيْهِ : هُمَا لُغَتَانِ كَدُرِّيٍّ وَدِرِّيٍّ. وَقَالَ
الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ : الْكَسْرُ بِمَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْقَوْلِ، وَالضَّمُّ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ. قَالَ
مُقَاتِلٌ : إِنَّ رُؤَسَاءَ
قُرَيْشٍ مِثْلَ
أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَضْحَكُونَ بِالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ مِثْلِ
بِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ، وَالْمَعْنَى اتَّخَذْتُمُوهُمْ هُزُوًا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بِتَشَاغُلِكُمْ بِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ذِكْرِي ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَقْتَضِي فِيهِمُ الْأَسَفَ وَالْحَسْرَةَ بِأَنْ وَصَفَ مَا جَازَى بِهِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=111إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ) قَرَأَ
حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "إِنَّهُمْ" بِالْكَسْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، فَالْكَسْرُ اسْتِئْنَافٌ ؛ أَيْ: قَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=19572_19579فَازُوا حَيْثُ صَبَرُوا فَجُوزُوا بِصَبْرِهِمْ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ جَزَيْتُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ ؛ أَيْ: جَزَيْتُهُمُ الْجَزَاءَ الْوَافِرَ; لِأَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ.