أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48عن اليمين والشمائل ) ففيه بحثان :
البحث الأول : في المراد باليمين والشمائل قولان :
القول الأول : أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب ، والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنسان يمينه ، ومنه تظهر الحركة القوية ، فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب ، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله .
إذا عرفت هذا فنقول : إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الأظلال إلى الجانب الغربي ، فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الأظلال في الجانب الشرقي ، فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس ، وعلى هذا التقدير : فالأظلال في أول النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ، ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ الأظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض .
القول الثاني : أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل ، فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها ، وحينئذ يقع الأظلال على يمينهم ، فهذا هو المراد من انتقال الأظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس . هذا ما حصلته في هذا الباب ، وكلام المفسرين فيه غير ملخص .
البحث الثاني : لقائل أن يقول : ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد ، والشمائل بصيغة الجمع ؟ .
وأجيب عنه بأشياء :
أحدها : أنه وحد اليمين والمراد الجمع ، ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=45ويولون الدبر ) [ القمر : 45 ] .
وثانيها : قال
الفراء : كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال ، وإذا جمع ذهب إلى كلها ، وذلك لأن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48ما خلق الله من شيء ) لفظه واحد ، ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين .
وثالثها : أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=7ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ) [ البقرة : 7 ] .
ورابعها : أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها ، فكانت اليمين
[ ص: 35 ] واحدة . وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة ، فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع ، والله أعلم .
المسألة الرابعة : أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48سجدا لله ) ففيه احتمالات :
الأول : أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال : سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب ، وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال : اسجد لقرد السوء في زمانه ، أي : اخضع له قال الشاعر :
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
أي : متواضعة . إذا عرفت هذا فنقول :
nindex.php?page=treesubj&link=31756_31755_31760إنه تعالى دبر النيرات الفلكية ، والأشخاص الكوكبية ، بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة . ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء ، وتلك الأظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره ، فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت للأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض ، ثم كلما ازدادت الشمس طلوعا وارتفاعا ، ازدادت تلك الأظلال تقلصا وانتقاصا إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك ، فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي ، وكلما ازدادت الشمس انحدارا ازدادت الأظلال تمددا وتزايدا في الجانب الشرقي . وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد ، فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة ، بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس ، فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها ، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره ، ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين ، علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره ، فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس ، لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره ؟ .
قلنا : قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته ، إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة ، لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته ، ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة ، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكونا لا حركة ، فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكنا لذاته وأنه محال ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا ، فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركا لذاته ، وأيضا فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لا بد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم .
إذا ثبت هذا فنقول : هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس ، إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلا على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه ، فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع ، ونظيره قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=6والنجم والشجر يسجدان ) [ الرحمن : 6 ] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15وظلالهم بالغدو والآصال ) [ الرعد : 15 ] قد مر بيانه وشرحه .
والقول الثاني : في تفسير هذا السجود ، أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة
[ ص: 36 ] الساجد . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11880أبو العلاء المعري في صفة واد :
بخرق يطيل الجنح فيه سجوده وللأرض زي الراهب المتعبد
فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ ، وكان
الحسن يقول : أما ظلك فسجد لربك ، وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي ، وقيل : ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجدا أم لا .
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية ، والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة .
المسألة الخامسة : قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48سجدا ) حال من الظلال وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48وهم داخرون ) أي : صاغرون ، يقال : دخر يدخر دخورا ، أي : صغر يصغر صغارا ، وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى ، وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48وهم داخرون ) حال أيضا من الظلال .
فإن قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=34080_34077الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون ؟ .
قلنا : لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء .
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) فَفِيهِ بَحْثَانِ :
البحث الْأَوَّلُ : فِي الْمُرَادِ بِالْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ قَوْلَانِ :
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ يَمِينَ الْفَلَكِ هُوَ الْمَشْرِقُ وَشِمَالَهُ هُوَ الْمَغْرِبُ ، وَالسَّبَبُ فِي تَخْصِيصِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ بِهَذَيْنِ الْجَانِبَيْنِ أَنَّ أَقْوَى جَانِبَيِ الْإِنْسَانِ يَمِينُهُ ، وَمِنْهُ تَظْهَرُ الْحَرَكَةُ الْقَوِيَّةُ ، فَلَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ الْيَوْمِيَّةُ آخِذَةً مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ، لَا جَرَمَ كَانَ الْمَشْرِقُ يَمِينَ الْفَلَكِ وَالْمَغْرِبُ شِمَالَهُ .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : إِنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا إِلَى وَقْتِ انْتِهَائِهَا إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ تَقَعُ الْأَظْلَالُ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ، فَإِذَا انْحَدَرَتِ الشَّمْسُ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَعَ الْأَظْلَالُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَفَيُّؤِ الظِّلَالِ مِنَ الْيَمِينِ إِلَى الشِّمَالِ وَبِالْعَكْسِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَالْأَظْلَالُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ تَبْتَدِئُ مِنْ يَمِينِ الْفَلَكِ عَلَى الرُّبْعِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ ، وَمِنْ وَقْتِ انْحِدَارِ الشَّمْسِ مِنْ وَسَطِ الْفَلَكِ تَبْتَدِئُ الْأَظْلَالُ مِنْ شِمَالِ الْفَلَكِ وَاقِعَةً عَلَى الرُّبْعِ الشَّرْقِيِّ مِنَ الْأَرْضِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْبَلْدَةَ الَّتِي يَكُونُ عَرْضُهَا أَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ الْمِيلِ ، فَإِنَّ فِي الصَّيْفِ تَحْصُلُ الشَّمْسُ عَلَى يَسَارِهَا ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ الْأَظْلَالُ عَلَى يَمِينِهِمْ ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ انْتِقَالِ الْأَظْلَالِ عَنِ الْأَيْمَانِ إِلَى الشَّمَائِلِ وَبِالْعَكْسِ . هَذَا مَا حَصَّلْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ غَيْرُ مُلَخَّصٍ .
البحث الثَّانِي : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا السَّبَبُ فِي أَنْ ذَكَرَ الْيَمِينَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ ، وَالشَّمَائِلَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ؟ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ ، وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي اللَّفْظِ عَلَى الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=45وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) [ الْقَمَرِ : 45 ] .
وَثَانِيهَا : قَالَ
الْفَرَّاءُ : كَأَنَّهُ إِذَا وَحَّدَ ذَهَبَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَظْلَالِ ، وَإِذَا جَمَعَ ذَهَبَ إِلَى كُلِّهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ) لَفْظُهُ وَاحِدٌ ، وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيُحْتَمَلُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا ذَكَرَتْ صِيغَتَيْ جَمْعٍ عَبَّرَتْ عَنْ إِحْدَاهُمَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) [ الْأَنْعَامِ : 1 ] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=7خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) [ الْبَقَرَةِ : 7 ] .
وَرَابِعُهَا : أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْيَمِينَ بِالْمَشْرِقِ كَانَتِ النُّقْطَةُ الَّتِي هِيَ مَشْرِقُ الشَّمْسِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا ، فَكَانَتِ الْيَمِينُ
[ ص: 35 ] وَاحِدَةً . وَأَمَّا الشَّمَائِلُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِرَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الْأَظْلَالِ بَعْدَ وُقُوعِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ ، فَلِذَلِكَ عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
المسألة الرَّابِعَةُ : أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48سُجَّدًا لِلَّهِ ) فَفِيهِ احْتِمَالَاتٌ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السُّجُودِ الِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ يُقَالُ : سَجَدَ الْبَعِيرُ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ لِيُرْكَبَ ، وَسَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ لِكَثْرَةِ الْحِمْلِ وَيُقَالُ : اسْجُدْ لِقِرْدِ السُّوءِ فِي زَمَانِهِ ، أَيِ : اخْضَعْ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ :
تَرَى الْأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أَيْ : مُتَوَاضِعَةً . إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=31756_31755_31760إِنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ النَّيِّرَاتِ الْفَلَكِيَّةَ ، وَالْأَشْخَاصَ الْكَوْكَبِيَّةَ ، بِحَيْثُ يَقَعُ أَضْوَاؤُهَا عَلَى هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ عَلَى وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ . ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّ تِلْكَ الْأَضْوَاءَ ، وَتِلْكَ الْأَظْلَالَ لَا تَقَعُ فِي هَذَا الْعَالَمِ إِلَّا عَلَى وَفْقِ تَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرِهِ ، فَنُشَاهِدُ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ وَقَعَتِ لِلْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ أَظْلَالٌ مُمْتَدَّةٌ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْأَرْضِ ، ثُمَّ كُلَّمَا ازْدَادَتِ الشَّمْسُ طُلُوعًا وَارْتِفَاعًا ، ازْدَادَتْ تِلْكَ الْأَظْلَالُ تَقَلُّصًا وَانْتِقَاصًا إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى أَنْ تَصِلَ الشَّمْسُ إِلَى وَسَطِ الْفَلَكِ ، فَإِذَا انْحَدَرَتْ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ ابْتَدَأَتِ الْأَظْلَالُ بِالْوُقُوعِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ ، وَكُلَّمَا ازْدَادَتِ الشَّمْسُ انْحِدَارًا ازْدَادَتِ الْأَظْلَالُ تَمَدُّدًا وَتَزَايُدًا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ . وَكَمَا أَنَّا نُشَاهِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ، فَكَذَلِكَ نُشَاهِدُ أَحْوَالَ الْأَظْلَالِ مُخْتَلِفَةً فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ فِي طُولِ السَّنَةِ ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ فِي الْحَرَكَةِ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ وَبِالْعَكْسِ ، فَلَمَّا شَاهَدْنَا أَحْوَالَ هَذِهِ الْأَظْلَالِ مُخْتَلِفَةً بِسَبَبِ الِاخْتِلَافَاتِ الْيَوْمِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا ، وَبِحَسَبِ الِاخْتِلَافَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي طُولِ السَّنَةِ فِي يَمِينِ الْفَلَكِ وَيَسَارِهِ ، وَرَأَيْنَا أَنَّهَا وَاقِعَةٌ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ ، عَلِمْنَا أَنَّهَا مُنْقَادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ خَاضِعَةٌ لِتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ ، فَكَانَتِ السَّجْدَةُ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : اخْتِلَافُ حَالِ هَذِهِ الْأَظْلَالِ مُعَلَّلٌ بِاخْتِلَافِ سَيْرِ النَّيِّرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُوَ الشَّمْسُ ، لَا لِأَجْلِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ ؟ .
قُلْنَا : قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا لِذَاتِهِ ، إِذْ لَوْ كَانَتْ ذَاتُهُ عِلَّةً لِهَذَا الْجُزْءِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْحَرَكَةِ ، لَبَقِيَ هَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْحَرَكَةِ لِبَقَاءِ ذَاتِهِ ، وَلَوْ بَقِيَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مِنَ الْحَرَكَةِ لَامْتَنَعَ حُصُولُ الْجُزْءِ الْآخَرِ مِنَ الْحَرَكَةِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا سُكُونًا لَا حَرَكَةً ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجِسْمَ الْمُتَحَرِّكَ لِذَاتِهِ يُوجِبُ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ سَاكِنًا لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مُحَالٌ ، وَمَا أَفْضَى ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ كَانَ بَاطِلًا ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْجِسْمَ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مُتَحَرِّكًا لِذَاتِهِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ ، فَاخْتِصَاصُ جِرْمِ الشَّمْسِ بِالْقُوَّةِ الْمُعَيَّنَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ الْخَالِقِ الْمُخْتَارِ الْحَكِيمِ .
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : هَبْ أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْأَظْلَالِ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ حَرَكَاتِ الشَّمْسِ ، إِلَّا أَنَّا لَمَّا دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مُحَرِّكَ الشَّمْسِ بِالْحَرَكَةِ الْخَاصَّةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْأَظْلَالِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا السُّجُودِ الِانْقِيَادُ وَالتَّوَاضُعُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=6وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) [ الرَّحْمَنِ : 6 ] وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) [ الرَّعْدِ : 15 ] قَدْ مَرَّ بَيَانُهُ وَشَرْحُهُ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : فِي تَفْسِيرِ هَذَا السُّجُودِ ، أَنَّ هَذِهِ الْأَظْلَالَ وَاقِعَةٌ عَلَى الْأَرْضِ مُلْتَصِقَةٌ بِهَا عَلَى هَيْئَةِ
[ ص: 36 ] السَّاجِدِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11880أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي فِي صِفَةِ وَادٍ :
بِخَرْقٍ يُطِيلُ الْجُنْحُ فِيهِ سُجُودَهُ وَلِلْأَرْضِ زِيُّ الرَّاهِبِ الْمُتَعَبِّدِ
فَلَمَّا كَانَتِ الْأَظْلَالُ تُشْبِهُ بِشَكْلِهَا شَكْلَ السَّاجِدِينَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَيْهَا هَذَا اللَّفْظَ ، وَكَانَ
الْحَسَنُ يَقُولُ : أَمَّا ظِلُّكَ فَسَجَدَ لِرَبِّكَ ، وَأَمَّا أَنْتَ فَلَا تَسْجُدُ لَهُ بِئْسَمَا صَنَعْتَ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16879مُجَاهِدٌ : ظِلُّ الْكَافِرِ يُصَلِّي وَهُوَ لَا يُصَلِّي ، وَقِيلَ : ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ سَاجِدًا أَمْ لَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الوجه الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى الشُّبُهَاتِ الظَّاهِرَةِ .
المسألة الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48سُجَّدًا ) حَالٌ مِنَ الظِّلَالِ وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48وَهُمْ دَاخِرُونَ ) أَيْ : صَاغِرُونَ ، يُقَالُ : دَخَرَ يَدْخَرُ دُخُورًا ، أَيْ : صَغُرَ يَصْغُرُ صَغَارًا ، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا تَأْمُرُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُنْقَادَةٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَدْبِيرِهِ ، وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=48وَهُمْ دَاخِرُونَ ) حَالٌ أَيْضًا مِنَ الظِّلَالِ .
فَإِنْ قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=34080_34077الظِّلَالُ لَيْسَتْ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَكَيْفَ جَازَ جَمْعُهَا بِالْوَاوِ وَالنُّونِ ؟ .
قُلْنَا : لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَهُمْ بِالطَّاعَةِ وَالدُّخُورِ أَشْبَهُوا الْعُقَلَاءَ .