الفصل التاسع
في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة
السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة : أولها الخلق ، وثانيها التربية في مصالح الدنيا ، وثالثها التربية في تعريف المبدأ ، ورابعها التربية في تعريف المعاد ، وخامسها نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد ، فاسم الله منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع ، واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان ، واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ ، واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي ، واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء ، ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد ) كأنه يقول : إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى الله ، فحينئذ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة ، ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد وإياك نستعين ، كأنه
[ ص: 232 ] قال : إياك نعبد لأنك الله الخالق ، وإياك نستعين لأنك الرب الرازق ، إياك نعبد لأنك الرحمن ، وإياك نستعين لأنك الرحيم ، إياك نعبد لأنك الملك ، وإياك نستعين لأنك المالك .
واعلم أن قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=4مالك يوم الدين دل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=30180العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، ومن دار الشرور إلى دار السرور ، فقال : لا بد لذلك اليوم من زاد واستعداد وذلك هو العبادة ، فلا جرم قال : إياك نعبد ، ثم قال العبد : الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال : ما معي قليل ، فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال : وإياك نستعين ، ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال : هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال : اهدنا الصراط المستقيم ، ثم إنه لا بد لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال : صراط الذين أنعمت عليهم ، والذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، فالأنبياء هم الأدلاء ، والصديقون هم البدرقة ، والشهداء والصالحون هم الرفقاء ، ثم قال : غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وذلك لأن الحجب عن الله قسمان : الحجب النارية - وهي عالم الدنيا - ثم الحجب النورية - وهي عالم الأرواح - فاعتصم بالله سبحانه وتعالى من هذين الأمرين وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية .
الْفَصْلُ التَّاسِعُ
فِي سَبَبِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ
السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ أَحْوَالِ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ : أَوَّلُهَا الْخَلْقُ ، وَثَانِيهَا التَّرْبِيَةُ فِي مَصَالِحَ الدُّنْيَا ، وَثَالِثُهَا التَّرْبِيَةُ فِي تَعْرِيفِ الْمَبْدَأِ ، وَرَابِعُهَا التَّرْبِيَةُ فِي تَعْرِيفِ الْمَعَادِ ، وَخَامِسُهَا نَقْلُ الْأَرْوَاحِ مِنْ عَالَمِ الْأَجْسَادِ إِلَى دَارِ الْمَعَادِ ، فَاسْمُ اللَّهِ مَنْبَعُ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ ، وَاسْمُ الرَّبِّ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ بِوُجُوهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ ، وَاسْمُ الرَّحْمَنِ يَدُلُّ عَلَى التَّرْبِيَةِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ ، وَاسْمُ الرَّحِيمِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَعَادِ حَتَّى يَحْتَرِزَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَيُقْدِمَ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، وَاسْمُ الْمَلِكِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُلُهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ ، ثُمَّ عِنْدَ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) كَأَنَّهُ يَقُولُ : إِنَّكَ إِذَا انْتَفَعْتَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْخَمْسَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الْخَمْسِ وَانْتَقَلْتَ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ صِرْتَ بِحَيْثُ تَرَى اللَّهَ ، فَحِينَئِذٍ تَكَلَّمْ مَعَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاهَدَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَايَبَةِ ، ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، كَأَنَّهُ
[ ص: 232 ] قَالَ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ اللَّهُ الْخَالِقُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ الرَّبُّ الرَّازِقُ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ الرَّحْمَنُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ الرَّحِيمُ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ الْمَلِكُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ الْمَالِكُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=4مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ دَلَّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30180الْعَبْدَ مُنْتَقِلٌ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ دَارِ الشُّرُورِ إِلَى دَارِ السُّرُورِ ، فَقَالَ : لَا بُدَّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ زَادٍ وَاسْتِعْدَادٍ وَذَلِكَ هُوَ الْعِبَادَةُ ، فَلَا جَرَمَ قَالَ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، ثُمَّ قَالَ الْعَبْدُ : الَّذِي اكْتَسَبْتُهُ بِقُوَّتِي وَقُدْرَتِي قَلِيلٌ لَا يَكْفِينِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ فَاسْتَعَانَ بِرَبِّهِ فَقَالَ : مَا مَعِي قَلِيلٌ ، فَأَعْطِنِي مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِكَ مَا يَكْفِينِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ فَقَالَ : وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ الزَّادُ لِيَوْمِ الْمَعَادِ قَالَ : هَذَا سَفَرٌ طَوِيلٌ شَاقٌّ وَالطُّرُقُ كَثِيرَةٌ وَالْخَلْقُ قَدْ تَاهُوا فِي هَذِهِ الْبَادِيَةِ فَلَا طَرِيقَ إِلَّا أَنْ أَطْلُبَ الطَّرِيقَ مِمَّنْ هُوَ بِإِرْشَادِ السَّالِكِينَ حَقِيقٌ فَقَالَ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِسَالِكِ الطَّرِيقِ مِنْ رَفِيقٍ وَمِنْ بَدْرَقَةٍ وَدَلِيلٍ فَقَالَ : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ ، فَالْأَنْبِيَاءُ هُمُ الْأَدِلَّاءُ ، وَالصِّدِّيقُونَ هُمُ الْبَدْرَقَةُ ، وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ هُمُ الرُّفَقَاءُ ، ثُمَّ قَالَ : غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُجُبَ عَنِ اللَّهِ قِسْمَانِ : الْحُجُبُ النَّارِيَّةُ - وَهِيَ عَالَمُ الدُّنْيَا - ثُمَّ الْحُجُبُ النُّورِيَّةُ - وَهِيَ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ - فَاعْتَصَمَ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ أَنْ لَا يَبْقَى مَشْغُولَ السِّرِّ لَا بِالْحُجُبِ النَّارِيَّةِ وَلَا بِالْحُجُبِ النُّورِيَّةِ .