قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .
واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع ، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة .
أما الصبر فيندرج تحته أنواع :
أولها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19581_19592_19593يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين .
وثانيها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19590_19601يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات .
وثالثها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=19598_19602يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات .
ورابعها :
nindex.php?page=treesubj&link=19589_32495_19595_19604الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف ، فقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200اصبروا ) يدخل تحته هذه الأقسام ، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها ، وأما
nindex.php?page=treesubj&link=19571المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف : 199 ] وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=72وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [ الفرقان : 72 ] ويدخل فيه الإيثار على الغير كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن المقدم عليه ربما وصل إليه بسببه ضرر ، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك ، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين ، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم ، والاحتيال في إزالة تلك الأباطيل عن قلوبهم ، فثبت أن قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200اصبروا ) تناول كل ما تعلق به وحده (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200وصابروا ) تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره .
واعلم أن الإنسان وإن تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص ، والإنسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة ، فلهذا قال (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200ورابطوا ) ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للإنسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض ، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث ، وذلك هو
nindex.php?page=treesubj&link=19885_19889_19888تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح ، فلهذا قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200واتقوا الله لعلكم تفلحون ) وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى ، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة ، وذلك عبارة عن الإتيان بالأفعال الحسنة ، والاحتراز عن الأفعال الذميمة ، ولما كانت الأفعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة ، وذلك هو المراد بالمرابطة ، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات ، وذلك هو تقوى الله ، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق ، وهو الفلاح ، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والأسرار الروحانية ، وأنها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع ، فهذا ما عندي فيه .
[ ص: 127 ] ولنذكر ما قاله المفسرون : قال
الحسن : اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع ، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد ، وقال
الفراء : اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم ، وقال
الأصم : لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء .
وأما قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200ورابطوا ) ففيه قولان :
الأول : أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضا ، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=60ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) [ الأنفال : 60 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012245nindex.php?page=treesubj&link=24334من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة " .
الثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=24332_23842معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ويدل عليه وجهان :
الأول : ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة .
الثاني : ما روي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012246فذلكم الرباط " ثلاث مرات .
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل ،
nindex.php?page=treesubj&link=24332_34080وأصل الرباط من الربط وهو الشد ، يقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه ، وقال آخرون : الرباط هو اللزوم والثبات ، وهذا المعنى أيضا راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم .
قال الإمام رضي الله تعالى عنه : تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة .
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، أَمَّا الْأُصُولُ فَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ نَحْوُ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا ، خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى جَمِيعِ الْآدَابِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْإِنْسَانِ قِسْمَانِ : مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَحْدَهُ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُصَابَرَةِ .
أَمَّا الصَّبْرُ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ :
أَوَّلُهَا : أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19581_19592_19593يَصْبِرَ عَلَى مَشَقَّةِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، وَعَلَى مَشَقَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْمُخَالِفِينَ .
وَثَانِيهَا : أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19590_19601يَصْبِرَ عَلَى مَشَقَّةِ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ .
وَثَالِثُهَا : أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19598_19602يَصْبِرَ عَلَى مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَنْهِيَّاتِ .
وَرَابِعُهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=19589_32495_19595_19604الصَّبْرُ عَلَى شَدَائِدِ الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْقَحْطِ وَالْخَوْفِ ، فَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200اصْبِرُوا ) يَدْخُلُ تَحْتَهُ هَذِهِ الْأَقْسَامُ ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ أَنْوَاعٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا ، وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19571الْمُصَابَرَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْرِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَحَمُّلُ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=199وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) [ الْأَعْرَافِ : 199 ] وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=72وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) [ الْفُرْقَانِ : 72 ] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِيثَارُ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=9وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) [ الْحَشْرِ : 9 ] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=237وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) [ الْبَقَرَةِ : 237 ] وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَإِنَّ الْمُقْدِمَ عَلَيْهِ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِسَبَبِهِ ضَرَرٌ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ تَعْرِيضُ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُصَابَرَةُ مَعَ الْمُبْطِلِينَ ، وَحَلُّ شُكُوكِهِمْ وَالْجَوَابُ عَنْ شُبَهِهِمْ ، وَالِاحْتِيَالُ فِي إِزَالَةِ تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200اصْبِرُوا ) تَنَاوَلَ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ وَحْدَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200وَصَابِرُوا ) تَنَاوَلَ كُلَّ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ تَكَلَّفَ الصَّبْرَ وَالْمُصَابَرَةَ إِلَّا أَنَّ فِيهِ أَخْلَاقًا ذَمِيمَةً تُحْمَلُ عَلَى أَضْدَادِهَا وَهِيَ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ وَالْحِرْصُ ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَغِلًا طُولَ عُمُرِهِ بِمُجَاهَدَتِهَا وَقَهْرِهَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ ، فَلِهَذَا قَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200وَرَابِطُوا ) وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةُ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِنْ دَاعِيَةٍ وَغَرَضٍ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ غَرَضٌ وَبَاعِثٌ ، وَذَلِكَ هُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=19885_19889_19888تَقْوَى اللَّهِ لِنَيْلِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ ، فَلِهَذَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ مَصْدَرُهَا هُوَ الْقُوَى ، فَهُوَ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ ، وَالِاحْتِرَازُ عَنِ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَفْعَالُ صَادِرَةً عَنِ الْقُوَى أَمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُجَاهَدَةِ الْقُوَى الَّتِي هِيَ مَصَادِرُ الْأَفْعَالِ الذَّمِيمَةِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْمُرَابَطَةِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ يَحْصُلُ دَفْعُ هَذِهِ الْقُوَى الدَّاعِيَةِ إِلَى الْقَبَائِحِ وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَذَلِكَ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ تَقْوَى اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْقُوَى وَالْأَخْلَاقِ ، وَهُوَ الْفَلَاحُ ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةٌ لِهَذِهِ السُّورَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كُنُوزِ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الرُّوحَانِيَّةِ ، وَأَنَّهَا عَلَى اخْتِصَارِهَا كَالْمُتَمِّمِ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ ، فَهَذَا مَا عِنْدِي فِيهِ .
[ ص: 127 ] وَلْنَذْكُرْ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ : قَالَ
الْحَسَنُ : اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَلَا تَتْرُكُوهُ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْجُوعِ ، وَصَابِرُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ وَلَا تَفْشَلُوا بِسَبَبِ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَالَ
الْفَرَّاءُ : اصْبِرُوا مَعَ نَبِيِّكُمْ وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَصْبَرَ مِنْكُمْ ، وَقَالَ
الْأَصَمُّ : لَمَّا كَثُرَتْ تَكَالِيفُ اللَّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا ، وَلَمَّا كَثُرَ تَرْغِيبُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجِهَادِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَمَرَهُمْ بِمُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=200وَرَابِطُوا ) فَفِيهِ قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَرْبِطَ هَؤُلَاءِ خَيْلَهُمْ فِي الثُّغُورِ وَيَرْبِطَ أُولَئِكَ خَيْلَهُمْ أَيْضًا ، بِحَيْثُ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُسْتَعِدًّا لِقِتَالِ الْآخَرِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=60وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) [ الْأَنْفَالِ : 60 ] وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012245nindex.php?page=treesubj&link=24334مَنْ رَابَطَ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ مِثْلَ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ لَا يُفْطِرُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ " .
الثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24332_23842مَعْنَى الْمُرَابَطَةِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : مَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12031أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ .
الثَّانِي : مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ ذَكَرَ انْتِظَارَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012246فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْكُلِّ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24332_34080وَأَصْلُ الرِّبَاطِ مِنَ الرَّبْطِ وَهُوَ الشَّدُّ ، يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ : رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ آخَرُونَ : الرِّبَاطُ هُوَ اللُّزُومُ وَالثَّبَاتُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصَّبْرِ وَرَبْطِ النَّفْسِ ، ثُمَّ هَذَا الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْجِهَادِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ أَوَّلَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ .