حدثنا
أبو الحسين أحمد بن محمد بن مقسم ،
وأبو بكر بن محمد بن أحمد بن هارون الوراق الأصبهاني ، قالا : ثنا
أحمد بن عبد الله ابن صاحب
أبي ضمرة ، ثنا
هارون بن حميد الدهكي ، ثنا
الفضل بن عنبسة ، عن رجل قد سماه أراه
عبد الحميد بن سليمان ، عن
الذيال بن عباد ، قال : كتب
أبو حازم الأعرج إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : عافانا الله وإياك
أبا بكر من الفتن ، ورحمك من النار فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها ، أصبحت شيخا كبيرا قد أثقلتك نعم الله عليك ، بما أصح من بدنك وأطال من عمرك ، وعلمت حجج الله تعالى مما حملك من كتابه ، وفقهك فيه من دينه ، وفهمك من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم . فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك ، وكل حجة يحتج بها عليك ، الغرض الأقصى ، ابتلى في ذلك شكرك ، وأبدى فيه فضله عليك ، وقد قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) ،
nindex.php?page=treesubj&link=30355_29485_19609انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها ، ولا تحسبن الله راضيا منك بالتغرير ، ولا قابلا منك التقصير ، هيهات ليس كذلك ، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ) الآية ،
nindex.php?page=treesubj&link=19153_28975إنك تقول إنك جدل ، ماهر عالم قد جادلت الناس فجدلتهم ، وخاصمتهم فخصمتهم ،
[ ص: 247 ] إدلالا منك بفهمك ، واقتدارا منك برأيك ، فأين تذهب عن قول الله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة ) الآية ، اعلم أن أدنى ما ارتكبت ، وأعظم ما احتقبت ، أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك ، حين أدنيت ، وإجابتك حين دعيت ، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدا مع الجرمة ، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة ، أنك أخذت ما ليس لمن أعطاك ، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقا ولا ترك باطلا حين أدناك ، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك ، جعلوك قطا تدور رحى باطلهم عليك ، وجسرا يعبرون بك إلى بلائهم ، وسلما إلى ضلالتهم وداعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم تبلغ أخص وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم لهم ، إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ، واختلاف الخاصة والعامة إليهم ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أقل ما أعطوك في كثير ما أخذوا منك ،
nindex.php?page=treesubj&link=19666_19609فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول ، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس بخيلا ، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرا ، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا ، ما لك لا تنتبه من نعستك . وتستقيل من عثرتك ، فتقول : والله ما قمت لله مقاما واحدا أحيي له فيه دينا ، ولا أميت له فيه باطلا ، إنما شكرك لمن استحملك كتابه ، واستودعك علمه ، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=169فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ) الآية ، إنك لست في دار مقام ، قد أوذنت بالرحيل ، ما بقاء المرء بعد أقرانه ،
nindex.php?page=treesubj&link=24626_27209طوبى لمن كان مع الدنيا على وجل ، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده ، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على
[ ص: 248 ] نفسك ، ليس أحد أهلا أن تردفه على ظهرك ، ذهبت اللذة ، وبقيت التبعة ، ما أشقى من سعد بكسبه غيره ، احذر فقد أتيت ، وتخلص فقد أدهيت ، إنك تعامل من لا يجهل ، والذي يحفظ عليك لا يغفل ،
nindex.php?page=treesubj&link=1970_30237تجهز فقد دنا منك سفر ، وداو دينك فقد دخله سقم شديد ، ولا تحسبن أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك ، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك ، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك ، وذكرت قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=55وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) . أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب ، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ؟ أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه ؟ وهل تراه ادخر لك خيرا منعوه ؟ أو علمك شيئا جهلوه ؟ بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة ، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلوا ، وإن حرمت حرموا ، وليس ذلك عندك ، ولكنهم إكبابهم عليك ، ورغبتهم فيما في يديك ذهاب عملهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وطلب حب الرياسة وطلب الدنيا منك ومنهم ، أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة ، وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟ ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم ، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك ، وتاقت أنفسهم إلى أن يحركوا بالعلم ما أدركت ، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت ، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره ، وفي بلاء لا يقدر قدره ، فالله لنا ولك ولهم المستعان .
واعلم أن الجاه جاهان : جاه يجريه الله تعالى على يدي أوليائه لأوليائه ، الخامل ذكرهم ، الخافية شخوصهم ، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=treesubj&link=30516_28806_30517إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا شهدوا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كل فتنة سوداء
[ ص: 249 ] مظلمة . فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله تعالى فيهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . وجاه يجريه الله تعالى على يدي أعدائه لأوليائه ، ومقة يقذفها الله في قلوبهم لهم ، فيعظمهم الناس بتعظيم أولئك لهم ، ويرغب الناس فيما في أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=19أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) . وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستورا عليه في دينه ، مقتورا عليه في رزقه ، معزولة عنه البلايا ، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه ، وظهور جلده ، وكمال شهوته ، فعني بذلك دهره ، حتى إذا كبر سنه ، ورق عظمه ، وضعفت قوته ، وانقطعت شهوته ولذته ، فتحت عليه الدنيا شر فتوح ، فلزمته تبعتها ، وعلقته فتنتها ، وأعشت عينيه زهرتها ، وصفت لغيره منفعتها ، فسبحان الله ما أبين هذا الغبن ، وأخسر هذا الأمر ، فهلا إذ عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين
عمر رضي الله تعالى عنه في كتابه إلى
سعد حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عند ما فتح الله على
سعد : أما بعد
nindex.php?page=treesubj&link=27209_29497فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتتنوا بها ، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا ، فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ، ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فمن يلوم الحدث في سنه ، والجاهل في علمه ، المأفون في رأيه ، المدخول في عقله ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، على من المعول ؟ وعند من المستعتب ؟ نحتسب عند الله مصيبتنا ، ونشكو إليه بثنا ، وما نرى منك ، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
حَدَّثَنَا
أبو الحسين أحمد بن محمد بن مقسم ،
وأبو بكر بن محمد بن أحمد بن هارون الوراق الأصبهاني ، قَالَا : ثَنَا
أحمد بن عبد الله ابن صَاحِبِ
أبي ضمرة ، ثَنَا
هارون بن حميد الدهكي ، ثَنَا
الفضل بن عنبسة ، عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ أَرَاهُ
عبد الحميد بن سليمان ، عَنِ
الذيال بن عباد ، قَالَ : كَتَبَ
أبو حازم الأعرج إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزُّهْرِيِّ : عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ
أبا بكر مِنَ الْفِتَنِ ، وَرَحِمَكَ مِنَ النَّارِ فَقَدْ أَصْبَحْتَ بِحَالٍ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَكَ بِهَا أَنْ يَرْحَمَكَ مِنْهَا ، أَصْبَحْتَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَثْقَلَتْكَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْكَ ، بِمَا أَصَحَّ مِنْ بَدَنِكَ وَأَطَالَ مِنْ عُمُرِكَ ، وَعَلِمْتَ حُجَجَ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا حَمَّلَكَ مِنْ كِتَابِهِ ، وَفَقَّهَكَ فِيهِ مِنْ دِينِهِ ، وَفَهَّمَكَ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَرَمَى بِكَ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا عَلَيْكَ ، وَكُلِّ حُجَّةٍ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ ، الْغَرَضَ الْأَقْصَى ، ابْتَلَى فِي ذَلِكَ شُكْرَكَ ، وَأَبْدَى فِيهِ فَضْلَهُ عَلَيْكَ ، وَقَدْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) ،
nindex.php?page=treesubj&link=30355_29485_19609انْظُرْ أَيَّ رَجُلٍ تَكُونُ إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَأَلَكَ عَنْ نِعَمِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ رَعَيْتَهَا ؟ وَعَنْ حُجَجِهِ عَلَيْكَ كَيْفَ قَضَيْتَهَا ، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ رَاضِيًا مِنْكَ بِالتَّغْرِيرِ ، وَلَا قَابِلًا مِنْكَ التَّقْصِيرَ ، هَيْهَاتَ لَيْسَ كَذَلِكَ ، أُخِذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي كِتَابِهِ إِذْ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=187لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) الْآيَةَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19153_28975إِنَّكَ تَقُولُ إِنَّكَ جَدِلٌ ، مَاهِرٌ عَالِمٌ قَدْ جَادَلْتَ النَّاسَ فَجَدَلْتَهُمْ ، وَخَاصَمْتَهُمْ فَخَصَمْتَهُمْ ،
[ ص: 247 ] إِدْلَالًا مِنْكَ بِفَهْمِكَ ، وَاقْتِدَارًا مِنْكَ بِرَأْيِكَ ، فَأَيْنَ تَذْهَبُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) الْآيَةَ ، اعْلَمْ أَنَّ أَدْنَى مَا ارْتَكَبْتَ ، وَأَعْظَمَ مَا احْتَقَبْتَ ، أَنْ آنَسْتَ الظَّالِمَ وَسَهَّلْتَ لَهُ طَرِيقَ الْغَيِّ بِدُنُوِّكَ ، حِينَ أُدْنِيتَ ، وَإِجَابَتِكَ حِينَ دُعِيتَ ، فَمَا أَخْلَقَكَ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِكَ غَدًا مَعَ الْجَرَمَةِ ، وَأَنْ تُسَأْلَ عَمَّا أَرَدْتَ بِإِغْضَائِكَ عَنْ ظُلْمِ الظَّلَمَةِ ، أَنَّكَ أَخَذْتَ مَا لَيْسَ لِمَنْ أَعْطَاكَ ، وَدَنَوْتَ مِمَّنْ لَا يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ حَقًّا وَلَا تَرَكَ بَاطِلًا حِينَ أَدْنَاكَ ، وَأَجَبْتَ مَنْ أَرَادَ التَّدْلِيسَ بِدُعَائِهِ إِيَّاكَ حِينَ دَعَاكَ ، جَعَلُوكَ قِطًّا تَدُورُ رَحَى بَاطِلِهِمْ عَلَيْكَ ، وَجِسْرًا يَعْبُرُونَ بِكَ إِلَى بَلَائِهِمْ ، وَسُلَّمًا إِلَى ضَلَالَتِهِمْ وَدَاعِيًا إِلَى غَيِّهِمْ ، سَالِكًا سَبِيلَهُمْ يُدْخِلُونَ بِكَ الشَّكَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، وَيَقْتَادُونَ بِكَ قُلُوبَ الْجُهَّالِ إِلَيْهِمْ ، فَلَمْ تَبْلُغْ أَخَصَّ وُزَرَائِهِمْ ، وَلَا أَقْوَى أَعْوَانِهِمْ لَهُمْ ، إِلَّا دُونَ مَا بَلَغْتَ مِنْ إِصْلَاحِ فَسَادِهِمْ ، وَاخْتِلَافِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إِلَيْهِمْ ، فَمَا أَيْسَرَ مَا عَمَّرُوا لَكَ فِي جَنْبِ مَا خَرَّبُوا عَلَيْكَ ، وَمَا أَقَلَّ مَا أَعْطَوْكَ فِي كَثِيرِ مَا أَخَذُوا مِنْكَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19666_19609فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ لَهَا غَيْرُكَ ، وَحَاسِبْهَا حِسَابَ رَجُلٍ مَسْئُولٍ ، وَانْظُرْ كَيْفَ شُكْرُكَ لِمَنْ غَذَاكَ بِنِعَمِهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا ، وَانْظُرْ كَيْفَ إِعْظَامُكَ أَمْرَ مَنْ جَعَلَكَ بِدِينِهِ فِي النَّاسِ بَخِيلًا ، وَكَيْفَ صِيَانَتُكَ لِكُسْوَةِ مَنْ جَعَلَكَ لِكُسْوَتِهِ سِتِّيرًا ، وَكَيْفَ قُرْبُكَ وَبَعْدُكَ مِمَّنْ أَمَرَكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ قَرِيبًا ، مَا لَكَ لَا تَنْتَبِهُ مِنْ نَعْسَتِكَ . وَتَسْتَقِيلُ مِنْ عَثْرَتِكَ ، فَتَقُولُ : وَاللَّهِ مَا قُمْتُ لِلَّهِ مَقَامًا وَاحِدًا أُحْيِي لَهُ فِيهِ دِينًا ، وَلَا أُمِيتُ لَهُ فِيهِ بَاطِلًا ، إِنَّمَا شُكْرُكَ لِمَنِ اسْتَحْمَلَكَ كِتَابَهُ ، وَاسْتَوْدَعَكَ عِلْمَهُ ، مَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=169فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى ) الْآيَةَ ، إِنَّكَ لَسْتَ فِي دَارِ مُقَامٍ ، قَدْ أُوذِنْتَ بِالرَّحِيلِ ، مَا بَقَاءُ الْمَرْءِ بَعْدَ أَقْرَانِهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24626_27209طُوبَى لِمَنْ كَانَ مَعَ الدُّنْيَا عَلَى وَجَلٍ ، يَا بُؤْسَ مَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِنْ بَعْدِهِ ، إِنَّكَ لَمْ تُؤْمَرْ بِالنَّظَرِ لِوَارِثِكَ عَلَى
[ ص: 248 ] نَفْسِكَ ، لَيْسَ أَحَدٌ أَهْلًا أَنْ تُرْدِفَهُ عَلَى ظَهْرِكَ ، ذَهَبَتِ اللَّذَّةُ ، وَبَقِيَتِ التَّبِعَةُ ، مَا أَشْقَى مَنْ سَعِدَ بِكَسْبِهِ غَيْرُهُ ، احْذَرْ فَقَدْ أُتِيتَ ، وَتَخَلَّصْ فَقَدْ أُدْهِيتَ ، إِنَّكَ تُعَامِلُ مَنْ لَا يَجْهَلُ ، وَالَّذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ لَا يَغْفُلُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=1970_30237تَجَهَّزْ فَقَدْ دَنَا مِنْكَ سَفَرٌ ، وَدَاوِ دِينَكَ فَقَدْ دَخَلَهُ سَقَمٌ شَدِيدٌ ، وَلَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي أَرَدْتُ تَوْبِيخَكَ أَوْ تَعْيِيرَكَ وَتَعْنِيفَكَ ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تُنْعِشَ مَا فَاتَ مِنْ رَأْيِكَ ، وَتَرُدَّ عَلَيْكَ مَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ حِلْمِكَ ، وَذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=55وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) . أَغْفَلْتَ ذِكْرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَسْنَانِكَ وَأَقْرَانِكَ وَبَقِيتَ بَعْدَهُمْ كَقَرْنٍ أَعْضَبَ ، فَانْظُرْ هَلِ ابْتُلُوا بِمِثْلِ مَا ابْتُلِيتَ بِهِ ؟ أَوْ دَخَلُوا فِي مِثْلِ مَا دَخَلْتَ فِيهِ ؟ وَهَلْ تُرَاهُ ادَّخَرَ لَكَ خَيْرًا مَنَعُوهُ ؟ أَوْ عَلَّمَكَ شَيْئًا جَهِلُوهُ ؟ بَلْ جَهِلْتَ مَا ابْتُلِيتَ بِهِ مِنْ حَالِكَ فِي صُدُورِ الْعَامَّةِ ، وَكَلَّفَهُمْ بِكَ أَنْ صَارُوا يَقْتَدُونَ بِرَأْيِكَ وَيَعْمَلُونَ بِأَمْرِكَ ، إِنْ أَحْلَلْتَ أَحَلُّوا ، وَإِنْ حَرَّمْتَ حَرَّمُوا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَكَ ، وَلَكِنَّهُمْ إِكْبَابُهُمْ عَلَيْكَ ، وَرَغْبَتُهُمْ فِيمَا فِي يَدَيْكَ ذَهَابُ عَمَلِهِمْ ، وَغَلَبَةُ الْجَهْلِ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ ، وَطَلَبُ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَطَلَبُ الدُّنْيَا مِنْكَ وَمِنْهُمْ ، أَمَا تَرَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْغِرَّةِ ، وَمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ ؟ ابْتَلَيْتَهُمْ بِالشُّغْلِ عَنْ مَكَاسِبِهِمْ ، وَفَتَنْتَهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ أَثَرِ الْعِلْمِ عَلَيْكَ ، وَتَاقَتْ أَنْفُسُهُمْ إِلَى أَنْ يُحَرِّكُوا بِالْعِلْمِ مَا أَدْرَكْتَ ، وَيَبْلُغُوا مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي بَلَغْتَ ، فَوَقَعُوا بِكَ فِي بَحْرٍ لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ ، وَفِي بَلَاءٍ لَا يُقْدَرُ قَدْرُهُ ، فَاللَّهُ لَنَا وَلَكَ وَلَهُمُ الْمُسْتَعَانُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَاهَ جَاهَانِ : جَاهٌ يُجْرِيهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ أَوْلِيَائِهِ لِأَوْلِيَائِهِ ، الْخَامِلِ ذِكْرُهُمْ ، الْخَافِيَةِ شُخُوصُهُمْ ، وَلَقَدْ جَاءَ نَعْتُهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=treesubj&link=30516_28806_30517إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا ، وَإِذَا شَهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوا ، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى ، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ سَوْدَاءَ
[ ص: 249 ] مُظْلِمَةٍ . فَهَؤُلَاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=22أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . وَجَاهٌ يُجْرِيهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْ أَعْدَائِهِ لِأَوْلِيَائِهِ ، وَمِقَةٌ يَقْذِفُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ لَهُمْ ، فَيُعَظِّمُهُمُ النَّاسُ بِتَعْظِيمِ أُولَئِكَ لَهُمْ ، وَيُرَغِّبُ النَّاسَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ لِرَغْبَةِ أُولَئِكَ فِيهِ إِلَيْهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=58&ayano=19أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) . وَمَا أَخْوَفَنِي أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَنْظُرُ لِمَنْ عَاشَ مَسْتُورًا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ ، مَقْتُورًا عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ ، مَعْزُولَةً عَنْهُ الْبَلَايَا ، مَصْرُوفَةً عَنْهُ الْفِتَنُ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ ، وَظُهُورِ جَلَدِهِ ، وَكَمَالِ شَهْوَتِهِ ، فَعُنِّيَ بِذَلِكَ دَهْرَهُ ، حَتَّى إِذَا كَبِرَ سِنُّهُ ، وَرَقَّ عَظْمُهُ ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ ، وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ وَلَذَّتُهُ ، فَتَحَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا شَرَّ فُتُوحٍ ، فَلَزِمَتْهُ تَبِعَتُهَا ، وَعَلِقَتْهُ فِتْنَتُهَا ، وَأَعْشَتْ عَيْنَيْهِ زَهْرَتُهَا ، وَصَفَتْ لِغَيْرِهِ مَنْفَعَتُهَا ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْيَنَ هَذَا الْغَبْنَ ، وَأَخْسَرَ هَذَا الْأَمْرَ ، فَهَلَّا إِذْ عَرَضَتْ لَكَ فِتْنَتُهَا ذَكَرْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
عمر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي كِتَابِهِ إِلَى
سعد حِينَ خَافَ عَلَيْهِ مِثْلَ الَّذِي وَقَعْتَ فِيهِ عِنْدَ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى
سعد : أَمَّا بَعْدُ
nindex.php?page=treesubj&link=27209_29497فَأَعْرِضْ عَنْ زَهْرَةِ مَا أَنْتَ فِيهِ حَتَّى تَلْقَى الْمَاضِينَ الَّذِينَ دُفِنُوا فِي أَسْمَالِهِمْ لَاصِقَةً بُطُونُهُمْ بِظُهُورِهِمْ ، لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ، لَمْ تَفْتِنْهُمُ الدُّنْيَا وَلَمْ يَفْتَتِنُوا بِهَا ، رَغِبُوا فَطَلَبُوا فَمَا لَبِثُوا أَنْ لَحِقُوا ، فَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا تَبْلُغُ مِنْ مِثْلِكَ هَذَا فِي كِبَرِ سِنِّكَ ، وَرُسُوخِ عِلْمِكَ ، وَحُضُورِ أَجَلِكَ ، فَمَنْ يَلُومُ الْحَدَثَ فِي سِنِّهِ ، وَالْجَاهِلَ فِي عِلْمِهِ ، الْمَأْفُونَ فِي رَأْيِهِ ، الْمَدْخُولَ فِي عَقْلِهِ ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، عَلَى مَنِ الْمُعَوَّلُ ؟ وَعِنْدَ مَنِ الْمُسْتَعْتَبُ ؟ نَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبَتَنَا ، وَنَشْكُو إِلَيْهِ بَثَّنَا ، وَمَا نَرَى مِنْكَ ، وَنَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي عَافَانَا مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .