حدثنا
محمد بن إبراهيم بن أحمد ، ثنا
أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق والمعروف بابن السماك البغدادي ، ثنا
محمد بن عبيد الله المديني ، حدثني
أحمد بن موسى النجار ، قال : قال
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأموي ، ثنا
[ ص: 85 ] عبد الله بن محمد البلوي ، قال : لما جيء
nindex.php?page=showalam&ids=13790بأبي عبد الله الشافعي إلى
العراق أدخل إليها ليلا على بغل قتب ، وعليه طيلسان مطبق ، وفي رجليه حديد ، وذاك أنه كان من أصحاب
عبد الله بن الحسن ، وأصبح الناس في يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة أربع وثمانين ومائة ، وكان قد اعتور على
nindex.php?page=showalam&ids=14370هارون الرشيد nindex.php?page=showalam&ids=14954أبو يوسف القاضي ، وكان قاضي القضاة
محمد بن الحسن على المظالم ، فكان
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد يصدر عن رأيهما ، ويتفقه بقولهما ، فسبقا في ذلك اليوم إلى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد ، فأخبراه بمكان
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وانبسطا جميعا في الكلام ، فقال
محمد بن الحسن : الحمد لله الذي مكن لك في البلاد ، وملكك رقاب العباد ، من كل باغ ومعاند إلى يوم المعاد ، لا زلت مسموعا لك ومطاعا ، فقد علت الدعوة ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، وإن جماعة من أصحاب
عبد الله بن الحسن اجتمعت وهم متفرقون ، قد أتاك من ينوب عن الجميع ، وهو على الباب ، يقال له :
محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، يزعم أنه أحق بهذا الأمر منك ، وحاش لله ، ثم إنه يدعي من العلم ما لم يبلغه سنه ، ولا يشهد له بذلك قدره ، وله لسان ومنطق ورواء ، وسيحليك بلسانه وأنا خائف ، كفاك الله مهماتك ، وأقالك عثراتك . ثم أمسك ، فأقبل
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد على
أبي يوسف ، فقال : يا
يعقوب ، قال : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : أنكرت من مقالة
محمد شيئا ؟ فقال له
أبو يوسف :
محمد صادق فيما قاله ، والرجل كما خلق ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : لا خبر بعد شاهدين ، ولا إقرار أبلغ من المحنة ، وكفى بالمرء إنما أن يشهد بشهادة يخفيها عن خصمه ، على رسلكما لا تبرحا ، ثم أمر
nindex.php?page=showalam&ids=13790بالشافعي فأدخل ، فوضع بين يديه بالحديد الذي كان في رجليه ، فلما استقر به المجلس ، ورمى القوم إليه بأبصارهم ، رمى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بطرفه نحو أمير المؤمنين ، وأشار بكفة كتابه مسلما ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها ، وزدنا فريضة قامت بذاتها ، ومن أعجب العجب أنك تكلمت في مجلسي بغير أمري ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يا أمير
[ ص: 86 ] المؤمنين ، إن الله عز وجل وعد (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=55الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) ، وهو الذي إذا وعد وفى ، فقد مكنني في أرضه ، وأمنني بعد خوفي يا أمير المؤمنين ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : أجل قد أمنك الله إن أمنتك ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : فقد حدثت أنك لا تقتل قومك صبرا ، ولا تزدريهم بهجرتك غدرا ، ولا تكذبهم إذا أقاموا لديك عذرا ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : هو كذلك ، فما عذرك مع ما أرى من حالك ، وتسييرك من حجازك إلى عراقنا التي فتحها الله علينا بعد أن بغى صاحبك ثم اتبعه الأرذلون وأنت رئيسهم ؟ فما ينفع لك القول مع إقامة الحجة ، ولن تضر الشهادة مع إظهار التوبة ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يا أمير المؤمنين ، أما إذا استطلقني الكلام ، فلسنا نكلم إلا على العدل والنصفة ، فقال له الرشيد : ذلك لك ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : والله يا أمير المؤمنين لو اتسع لي الكلام على ما بي لما شكوت ، لكن الكلام مع ثقل الحديد يعور ، فإن جدت علي بفكه تركت كسره إياي وأفصحت عن نفسي ، وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى ، والله غني حميد ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد لغلامه : يا
سراج ، حل عنه . فأخذ ما في قدميه من الحديد ، فجثا على ركبته اليسرى ، ونصب اليمنى ، وابتدر الكلام فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لأن يحشرني الله تحت راية
عبد الله بن الحسن ، وهو ممن قد علمت لا ينكر عنه اختلاف الأهواء ، وتفرق الآراء ، أحب إلي وإلى كل مؤمن من أن يحشرني تحت راية
nindex.php?page=showalam&ids=16831قطري بن الفجاءة المازني . وكان
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد متكئا فاستوى جالسا ، وقال : صدقت وبررت ، لأن تكون تحت راية رجل من أهل بيت رسول الله وأقاربه إذا اختلفت الأهواء ، خير من أن يحشرك الله تحت راية خارجي يأخذه الله بغتة ، فأخبرني يا
شافعي ، ما حجتك على أن
قريشا كلها أئمة وأنت منهم ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : قد افتريت على الله كذبا يا أمير المؤمنين إن تطب نفسي لها ، وهذه كلمة ما سبقت بها ، والذين حكوها لأمير المؤمنين أبطلوا معانيه ، فإن الشهادة لا تجوز إلا كذلك ، فنظر أمير المؤمنين إليهما ،
[ ص: 87 ] فلما رآهما لا يتكلمان علم ما في ذلك وأمسك عنهما ، ثم قال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : قد صدقت يا
ابن إدريس ، فكيف بصرك بكتاب الله تعالى ؟ فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : عن أي كتاب الله تسألني ؟ فإن الله سبحانه وتعالى أنزل ثلاثة وسبعين كتابا على خمسة أنبياء ، وأنزل كتابا موعظة لنبي وحده ، وكان سادسا ، أولهم
آدم عليه السلام ، وعليه أنزل ثلاثين صحيفة كلها أمثال ، وأنزل على
أخنوخ وهو إدريس عليه السلام ست عشرة صحيفة كلها حكم ، وعلم الملكوت الأعلى ، وأنزل على
إبراهيم عليه السلام ثمانية صحف كلها حكم مفصلة ، فيها فرائض ونذر ، وأنزل على
موسى عليه السلام التوراة ، كلها تخويف وموعظة ، وأنزل على
عيسى عليه السلام الإنجيل : ليبين
لبني إسرائيل ما اختلفوا فيه من التوراة ، وأنزل على
داود عليه السلام كتابا كله دعاء وموعظة لنفسه حتى يخلصه به من خطيئته ، وحكم فيه لنا واتعاظ
لداود وأقاربه من بعده ، وأنزل على
محمد صلى الله عليه وسلم الفرقان ، وجمع فيه سائر الكتب ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89تبيانا لكل شيء ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138وهدى وموعظة ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1أحكمت آياته ثم فصلت ) . فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : قد أحسنت في تفصيلك ، أفكل هذا علمته ؟ فقال له : إي والله يا أمير المؤمنين ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : قصدي كتاب الله الذي أنزله الله على ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعانا إلى قبوله ، وأمرنا بالعمل بمحكمه ، والإيمان بمتشابهه ، فقال : عن أي آية تسألني ؟ عن محكمه أم عن متشابهه ؟ أم عن تقديمه أم عن تأخيره ؟ أم عن ناسخه أم عن منسوخه ؟ أم عن ما ثبت حكمه وارتفعت تلاوته ؟ أم عن ما ثبتت تلاوته وارتفع حكمه ؟ أم عن ما ضربه الله مثلا ؟ أم عن ما ضربه الله اعتبارا ؟ أم عن ما أحصى فيه فعال الأمم السالفة ؟ أم عن ما قصدنا الله به من فعله تحذيرا ؟ قال : بم ذاك ؟ حتى عد له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ثلاثة وسبعين حكما في القرآن ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : ويحك يا
شافعي ، أفكل هذا يحيط به علمك ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، المحنة على القائل كالنار على الفضة ، تخرج جودتها من رداءتها ، فها أنا ذا فامتحن ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : ما أحسن ! أعد ما قلت فسأسألك عنه بعد هذا المجلس إن شاء الله ، قال له : وكيف بصرك بسنة رسول الله صلى الله عليه
[ ص: 88 ] وسلم ؟ فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إني لأعرف منها ما يخرج على وجه الإيجاب ، ولا يجوز تركه ، كما لا يجوز ترك ما أوجبه الله تعالى في القرآن ، وما خرج على وجه التأديب ، وما خرج على وجه الخاص لا يشرك فيه العام ، وما خرج على وجه العموم يدخل فيه الخصوص ، وما خرج جوابا عن سؤال سائل ليس لغيره استعماله ، وما خرج منه ابتداء لازدحام العلوم في صدره ، وما فعله في خاصة نفسه ، واقتدى به الخاصة والعامة ، وما خص به نفسه دون الناس كلهم مع ما لا ينبغي ذكره ، لأنه أسقطه عليه السلام عن الناس وسنه ذكرا ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : أخذت الترتيب يا
شافعي لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحسنت موضعها لوصفها ، فما حاجتنا إلى التكرار عليك ، ونحن نعلم ومن حضرنا أنك حامل نصابها مقلا بها ؟ فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، وإنما شرفنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيك ، فقال : كيف بصرك بالعربية ؟ قال : هي مبدؤنا ، وطباعنا بها قومت ، وألسنتنا بها جرت ، فصارت كالحياة لا تتم إلا بالسلامة ، وكذلك العربية لا تسلم إلا لأهلها ، ولقد ولدت وما أعرف اللحن ، فكنت كمن سلم من الداء ما سلم له الدواء ، وعاش بكامل الهناء ، وبذلك شهد لي القرآن : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) - يعني
قريشا - وأنت وأنا منهم يا أمير المؤمنين ، والعنصر نظيف ، والجرثومة منيعة شامخة ، أنت أصل ونحن فرع ، وهو صلى الله عليه وسلم مفسر ومبين ، به اجتمعت أحسابنا ، فنحن بنو الإسلام ، وبذلك ندعى وننسب ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : صدقت ، بارك الله فيك ، ثم قال له : كيف معرفتك بالشعر ؟ فقال : إني لأعرف طويله وكامله ، وسريعه ومجتثه ، ومنسرحه وخفيفه ، وهزجه ورجزه ، وحكمه وغزله ، وما قيل فيه على الأمثال تبيانا للأخبار ، وما قصد به العشاق رجاء للتلاق ، وما رثي به الأوائل ليتأدب به الأواخر ، وما امتدح به المكثرون بابتلاء أمرائهم ، وعامتها كذب وزور ، وما نطق به الشاعر ليعرف تنبيها وحال لشيخه ، فوجل شاعره ، وما خرج على طرب من قائله لا أرب له ، وما تكلم به الشاعر فصار حكمة لمستمعه ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : اكفف يا
شافعي ، فقد أنفقت
[ ص: 89 ] في الشعر ، ما ظننت أن أحدا يعرف هذا ويزيد على
الخليل حرفا ، ولقد زدت وأفضلت ، فكيف معرفتك بالعرب ؟ قال : أما أنا فمن أضبط الناس لآبائها وجوامع أحسابها ، وشوابك أنسابها ، ومعرفة وقائعها ، وحمل مغازيها في أزمنتها ، وكمية ملوكها وكيفية ملكها وماهية مراتبها ، وتكميل منازلها وأندية عراضها ومنازلها ، منهم تبع ، وحمير ، وجفنة ، والأسطح ، وعيص ، وعويص ، والإسكندر ، وأسفاد ، وأسططاويس ، وسوط ، وبقراط ، وأرسططاليس ، من أمثالهم من
الروم إلى كسرى ، وقيصر ، ونوبة ، وأحمر ،
وعمرو بن هند ،
وسيف بن ذي يزن ،
والنعمان بن المنذر ،
وقطر بن أسعد ،
وسعد بن سعفان ، وهو جد سطيح الغساني لأبيه ، في أمثالهم من ملوك
قضاعة وهمدان ، والحيان :
ربيعة ،
ومضر ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد :
nindex.php?page=treesubj&link=33935_31576يا شافعي ، لولا أنك من قريش لقلت : إنك ممن لين له الحديد ، فهل من موعظة ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إنك تخلع رداء الكبر عن عاتقك ، وتضع تاج الهيبة عن رأسك ، وتنزع قميص التجبر عن جسدك ، وتفتش نفسك ، وتنشر سرك ، وتلقي جلباب الحياء عن وجهك ، مستكينا بين يدي ربك ، وأكون واعظا لك عن الحق ، وتكون مستمعا بحسن القبول ، فينفعني الله بما أقول ، وينفعك بما تسمع ، فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد : أما إني قد فعلت وسمعت لله والرسول وللواعظين بعدهما ، فعظ وأوجز . فحل
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عنه إزاره ، وحسر عن ذراعيه ، وقال :
nindex.php?page=treesubj&link=33761_18291_29485أيا أمير المؤمنين ، اعلم أن الله جل ثناؤه امتحنك بالنعم ، وابتلاك بالشكر ، ففضل النعمة أحسن لتستغرق بقليلها كثيرا من شكرك ، فكن لله تعالى شاكرا ولآلائه ذاكرا ، تستحق منه المزيد ،
nindex.php?page=treesubj&link=19872_19873_18291واتق الله في السر والعلانية تستكمل الطاعة ، واسمع لقائل الحق وإن كان دونك تشرف عند الله ، وتزد في عين رعيتك ، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يفتش سرك ، فإن وجده بخلاف علانيتك شغلك بهم الدنيا ، وفتق لك ما يزنق عليك ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=6واستغنى الله والله غني حميد ) ، وإن وجده موافقا لعلانيتك أحبك ، وصرف هم الدنيا عن قلبك ، وكفاك مئونة نظرك لغيرك ، وترك لك نظرك لنفسك ، وكان المقوي لسياستك ، ولن
[ ص: 90 ] تطاع إلا بطاعتك لله تعالى ، فكن له طائعا تكتسب بذلك السلامة في العاجل ، وحسن المنقلب في الآجل ، فـ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) ، واحذر الله حذر عبد علم مكان عدوه ، وغاب عنه وليه ، فتيقظ خوف السرى ، لا تأمن من مكر الله لتواتر نعمه عليك ، فإن ذلك مفسدة لك ، وذهاب لدينك ، وأسقط المهابة في الأولين والآخرين ، وعليك بكتاب الله الذي لا يضل المسترشد به ، ولن تهلك ما تمسكت به ، فاعتصم بالله تجده تجاهك ، وعليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكن على طريقة الذين هداهم الله (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90فبهداهم اقتده ) ، وما نصب الخلفاء المهديون في الخراج والأرضين ، والسواد والمساكن والديارات ، فكن لهم تبعا وبه عاملا راضيا مسلما ، واحذر التلبيس فيه ، فإنك مسئول عن رعيتك ، وعليك
بالمهاجرين والأنصار ، الذين تبوءوا الدار والإيمان ، فاقبل من محسنهم ، وتجاوز عن مسيئهم ، وآتهم من مال الله الذي أتاك ، ولا تكرههم على إمساك عن حق ، ولا على خوض في باطل ، فإنهم الذين مكنوا لك البلاد ، واستخلصوا لك العباد ، ونوروا لك الظلمة ، وكشفوا عنك الغمة ، ومكنوا لك في الأرض ، وعرفوك السياسة ، وقلدوك الرياسة ، فنهضت بثقلها بعد ضعف ، وقويت عليها بعد فشل ، كل ذلك يرجوك من كان من أمثالهم لعفتهم طمع الزيادة لهم ، فلا تطع الخاصة تقربا إليهم بظلم العامة ، ولا تطع العامة تقربا إليهم بظلم الخاصة لتستديم السلامة ، وكن لله كما تحب أن يكون لك أولياؤك من العامة من السمع والطاعة : فإنه ما ولي أحد على عشرة من المسلمين فلم يحطهم بنصيحة إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه ، لا يفكها إلا عدله ، وأنت أعرف بنفسك . قال : فبكى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد - وقد كان في خلال هذه الموعظة يبكي لا يسمع له صوت - فلما بلغ إلى هذا الفصل بكى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد وعلا نحيبه ، وبكى جلساؤه ، وبكى
محمد وأبو يوسف ، فقال الوالي : يا هذا الرجل ، احبس لسانك عن أمير المؤمنين ، فقد قطعت قلبه حزنا ، وقال
محمد بن الحسن وهو قائم على قدمه : اغمد لسانك يا
شافعي عن أمير المؤمنين ، فإنه أمضى من سيفك -
والرشيد يبكي لا يفيق - فأقبل
[ ص: 91 ] nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي على
محمد والجماعة ، فقال : اسكتوا أخرسكم الله ، لا تذهبوا بنور الحكمة يا معشر عبيد الرعاع وعبيد السوط والعصا ، أخذ الله لأمير المؤمنين منكم لتلبيسكم الحق عليه ، وهو يرثكم الملك لديه ، أما والله ما زالت الخلافة بخير ما صدف عنها أمثالكم ، ولن تزال بضر ما اعتصمت بكم ، فرفع
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد رأسه ، وأشار إليهم أن كفوا ، وأقبل علي بسيف فقال : خذ هذا الكهل إليك ، ولا تحلني منه ، ثم أقبل على
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فقال : قد أمرت لك بصلة ، فرأيك في قبولها موقف . فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : كلا ، والله لا يراني الله تعالى قد سودت وجه موعظتي بقبول الجزاء عليها ، ولقد عاهدت الله عهدا أني لا أخلط بملك من الملوك تكبر في نفسه وتصغر عند ربه ، إلا ذكرت الله تعالى لعله أن يحدث له ذكرا . ثم نهض ، فلما خرج أقبل
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد على
محمد ويعقوب ، فقال لهما : ما رأيت كاليوم قط ، أفرأيتما كيومكما ؟ فلم نجد بدا من أن نقول : لا . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد لهما : أبهذا تغرياني ؟ لقد بؤتما اليوم بإثم عظيم ، لولا أن من الله علي بالتأييد في أمره ، كيفما أوقعتماني فيما لا خلاص لي منه عند ربي . ثم وثب
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد وانصرف الناس ، فلقد رأيت
محمدا وهو بعد ذلك يكثر التردد إلى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وربما حجب ، ثم إن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بعد ذلك دخل على
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد ، فأمر له بألف دينار فقبلها ، فضحك
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد ، وقال : لله درك ! ما أفطنك ؟ قاتل الله عدوك فقد أصبح لك وليا . وأمر
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد خادمه
سراجا باتباعه ، فما زال يفرقها قبضة قبضة حتى انتهى إلى خارج الدار وما معه إلا قبضة واحدة ، فدفعها إلى غلامه ، وقال له : انتفع بها . فأخبر
سراج nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد بذلك ، فقال : لهذا ذرع همه وقوي متنه ، فاستمر
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرشيد عليهما .
حَدَّثَنَا
محمد بن إبراهيم بن أحمد ، ثَنَا
أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق والمعروف بابن السماك البغدادي ، ثَنَا
محمد بن عبيد الله المديني ، حَدَّثَنِي
أحمد بن موسى النجار ، قَالَ : قَالَ
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأموي ، ثَنَا
[ ص: 85 ] عبد الله بن محمد البلوي ، قَالَ : لَمَّا جِيءَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ إِلَى
الْعِرَاقِ أُدْخِلَ إِلَيْهَا لَيْلًا عَلَى بَغْلِ قَتَبٍ ، وَعَلَيْهِ طَيْلَسَانٌ مُطْبَقٌ ، وَفِي رِجْلَيْهِ حَدِيدٌ ، وَذَاكَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
عبد الله بن الحسن ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ ، وَكَانَ قَدِ اعْتَوَرَ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14370هَارُونَ الرَّشِيدِ nindex.php?page=showalam&ids=14954أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي ، وَكَانَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ
محمد بن الحسن عَلَى الْمَظَالِمِ ، فَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِمَا ، وَيَتَفَقَّهُ بِقَوْلِهِمَا ، فَسَبَقَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدِ ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَكَانِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَانْبَسَطَا جَمِيعًا فِي الْكَلَامِ ، فَقَالَ
محمد بن الحسن : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَكَّنَ لَكَ فِي الْبِلَادِ ، وَمَلَّكَكَ رِقَابَ الْعِبَادِ ، مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَمُعَانِدٍ إِلَى يَوْمِ الْمَعَادِ ، لَا زِلْتَ مَسْمُوعًا لَكَ وَمُطَاعًا ، فَقَدْ عَلَتِ الدَّعْوَةُ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ، وَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ
عبد الله بن الحسن اجْتَمَعَتْ وَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ ، قَدْ أَتَاكَ مَنْ يَنُوبُ عَنِ الْجَمِيعِ ، وَهُوَ عَلَى الْبَابِ ، يُقَالُ لَهُ :
محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف ، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ ، وَحَاشَ لِلَّهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ يَدَّعِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ سِنُّهُ ، وَلَا يَشْهَدْ لَهُ بِذَلِكَ قَدْرُهُ ، وَلَهُ لِسَانٌ وَمَنْطِقٌ وَرِوَاءٌ ، وَسَيُحَلِّيكَ بِلِسَانِهِ وَأَنَا خَائِفٌ ، كَفَاكَ اللَّهُ مُهِمَّاتِكَ ، وَأَقَالَكَ عَثَرَاتِكَ . ثُمَّ أَمْسَكَ ، فَأَقْبَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ عَلَى
أبي يوسف ، فَقَالَ : يَا
يعقوب ، قَالَ : لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : أَنْكَرْتَ مِنْ مَقَالَةِ
محمد شَيْئًا ؟ فَقَالَ لَهُ
أبو يوسف :
محمد صَادِقٌ فِيمَا قَالَهُ ، وَالرَّجُلُ كَمَا خَلَقَ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : لَا خَبَرَ بَعْدَ شَاهِدَيْنِ ، وَلَا إِقْرَارَ أَبْلَغُ مِنَ الْمِحْنَةِ ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِنَّمَا أَنْ يَشْهَدَ بِشَهَادَةٍ يُخْفِيهَا عَنْ خَصْمِهِ ، عَلَى رِسْلِكُمَا لَا تَبْرَحَا ، ثُمَّ أَمَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790بِالشَّافِعِيِّ فَأُدْخِلَ ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحَدِيدِ الَّذِي كَانَ فِي رِجْلَيْهِ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَجْلِسُ ، وَرَمَى الْقَوْمُ إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ ، رَمَى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ بِطَرَفِهِ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَشَارَ بِكِفَّةِ كِتَابِهِ مُسَلِّمًا ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، بَدَأْتَ بِسُنَّةٍ لَمْ تُؤْمَرْ بِإِقَامَتِهَا ، وَزِدْنَا فَرِيضَةً قَامَتْ بِذَاتِهَا ، وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي مَجْلِسِي بِغَيْرِ أَمْرِي ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : يَا أَمِيرَ
[ ص: 86 ] الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=55الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ) ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا وَعَدَ وَفَّى ، فَقَدْ مَكَّنَنِي فِي أَرْضِهِ ، وَأَمَّنَنِي بَعْدَ خَوْفِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : أَجَلْ قَدْ أَمَّنَكَ اللَّهُ إِنْ أَمَّنْتُكَ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : فَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّكَ لَا تَقْتُلُ قَوْمَكَ صَبْرًا ، وَلَا تَزْدَرِيهِمْ بِهِجْرَتِكَ غَدْرًا ، وَلَا تُكَذِّبُهُمْ إِذَا أَقَامُوا لَدَيْكَ عُذْرًا ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : هُوَ كَذَلِكَ ، فَمَا عُذْرُكَ مَعَ مَا أَرَى مِنْ حَالِكَ ، وَتَسْيِيرِكَ مِنْ حِجَازِكَ إِلَى عِرَاقِنَا الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْنَا بَعْدَ أَنْ بَغَى صَاحِبُكَ ثُمَّ اتَّبَعَهُ الْأَرْذَلُونَ وَأَنْتَ رَئِيسُهُمْ ؟ فَمَا يَنْفَعُ لَكَ الْقَوْلُ مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَلَنْ تَضُرَّ الشَّهَادَةُ مَعَ إِظْهَارِ التَّوْبَةِ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَمَّا إِذَا اسْتَطْلَقَنِي الْكَلَامُ ، فَلَسْنَا نُكَلِّمُ إِلَّا عَلَى الْعَدْلِ وَالنَّصَفَةِ ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ : ذَلِكَ لَكَ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوِ اتَّسَعَ لِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَا بِي لَمَا شَكَوْتُ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ مَعَ ثِقَلِ الْحَدِيدِ يَعُورُ ، فَإِنْ جُدْتَ عَلَيَّ بِفَكِّهِ تَرَكْتُ كَسْرَهَ إِيَّايَ وَأَفْصَحْتُ عَنْ نَفْسِي ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى فَيَدُكَ الْعُلْيَا وَيَدِيَ السُّفْلَى ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حُمَيْدٌ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ لِغُلَامِهِ : يَا
سراج ، حُلَّ عَنْهُ . فَأَخَذَ مَا فِي قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَدِيدِ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ، وَنَصَبَ الْيُمْنَى ، وَابْتَدَرَ الْكَلَامَ فَقَالَ : وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَأَنْ يَحْشُرَنِي اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ
عبد الله بن الحسن ، وَهُوَ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتَ لَا يُنْكَرُ عَنْهُ اخْتِلَافُ الْأَهْوَاءِ ، وَتَفَرُّقُ الْآرَاءِ ، أَحَبُّ إِلَيَّ وَإِلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ يَحْشُرَنِي تَحْتَ رَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=16831قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ الْمَازِنِيِّ . وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا ، وَقَالَ : صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ ، لَأَنْ تَكُونَ تَحْتَ رَايَةِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَقَارِبِهِ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَحْشُرَكَ اللَّهُ تَحْتَ رَايَةِ خَارِجِيٍّ يَأْخُذُهُ اللَّهُ بَغْتَةً ، فَأَخْبِرْنِي يَا
شافعي ، مَا حُجَّتُكَ عَلَى أَنَّ
قُرَيْشًا كُلَّهَا أَئِمَّةٌ وَأَنْتَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : قَدِ افْتَرَيْتُ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَطِبْ نَفْسِي لَهَا ، وَهَذِهِ كَلِمَةٌ مَا سَبَقْتُ بِهَا ، وَالَّذِينَ حَكَوْهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبْطَلُوا مَعَانِيَهُ ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إِلَّا كَذَلِكَ ، فَنَظَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمَا ،
[ ص: 87 ] فَلَمَّا رَآهُمَا لَا يَتَكَلَّمَانِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ وَأَمْسَكَ عَنْهُمَا ، ثُمَّ قَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : قَدْ صَدَقْتَ يَا
ابن إدريس ، فَكَيْفَ بَصَرُكَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : عَنْ أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ تَسْأَلُنِي ؟ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْزَلَ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ كِتَابًا عَلَى خَمْسَةِ أَنْبِيَاءَ ، وَأَنْزَلَ كِتَابًا مَوْعِظَةً لِنَبِيٍّ وَحْدَهُ ، وَكَانَ سَادِسًا ، أَوَّلُهُمْ
آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَلَيْهِ أَنْزَلَ ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً كُلُّهَا أَمْثَالٌ ، وَأَنْزَلَ عَلَى
أَخْنُوخَ وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سِتَّ عَشْرَةَ صَحِيفَةً كُلُّهَا حِكَمٌ ، وَعِلْمُ الْمَلَكُوتِ الْأَعْلَى ، وَأَنْزَلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيَةَ صُحُفٍ كُلُّهَا حِكَمٌ مُفَصَّلَةٌ ، فِيهَا فَرَائِضُ وَنُذُرٌ ، وَأَنْزَلَ عَلَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ ، كُلُّهَا تَخْوِيفٌ وَمَوْعِظَةٌ ، وَأَنْزَلَ عَلَى
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِنْجِيلَ : لِيُبَيِّنَ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى
دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كِتَابًا كُلُّهُ دُعَاءٌ وَمَوْعِظَةٌ لِنَفْسِهِ حَتَّى يُخَلِّصَهُ بِهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ ، وَحِكَمٌ فِيهِ لَنَا وَاتِّعَاظٌ
لِدَاوُدَ وَأَقَارِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْقَانَ ، وَجَمَعَ فِيهِ سَائِرَ الْكُتُبِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=138وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=1أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ) . فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : قَدْ أَحْسَنْتَ فِي تَفْصِيلِكَ ، أَفَكُلُّ هَذَا عَلِمْتَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ : إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : قَصْدِي كِتَابُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى ابْنِ عَمِّي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي دَعَانَا إِلَى قَبُولِهِ ، وَأَمَرَنَا بِالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِمُتَشَابِهِهِ ، فَقَالَ : عَنْ أَيِّ آيَةٍ تَسْأَلُنِي ؟ عَنْ مُحْكَمِهِ أَمْ عَنْ مُتَشَابِهِهِ ؟ أَمْ عَنْ تَقْدِيمِهِ أَمْ عَنْ تَأْخِيرِهِ ؟ أَمْ عَنْ نَاسِخِهِ أَمْ عَنْ مَنْسُوخِهِ ؟ أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ وَارْتَفَعَتْ تِلَاوَتُهُ ؟ أَمْ عَنْ مَا ثَبَتَتْ تِلَاوَتُهُ وَارْتَفَعَ حُكْمُهُ ؟ أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا ؟ أَمْ عَنْ مَا ضَرَبَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا ؟ أَمْ عَنْ مَا أَحْصَى فِيهِ فِعَالَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ؟ أَمْ عَنْ مَا قَصَدَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ فِعْلِهِ تَحْذِيرًا ؟ قَالَ : بِمَ ذَاكَ ؟ حَتَّى عَدَّ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ حُكْمًا فِي الْقُرْآنِ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : وَيْحَكَ يَا
شافعي ، أَفَكُلُّ هَذَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُكَ ؟ فَقَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، الْمِحْنَةُ عَلَى الْقَائِلِ كَالنَّارِ عَلَى الْفِضَّةِ ، تُخْرِجُ جَوْدَتَهَا مِنْ رَدَاءَتِهَا ، فَهَا أَنَا ذَا فَامْتَحِنْ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : مَا أَحْسَنَ ! أَعِدْ مَا قُلْتَ فَسَأَسْأَلُكَ عَنْهُ بَعْدَ هَذَا الْمَجْلِسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ لَهُ : وَكَيْفَ بَصَرُكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
[ ص: 88 ] وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : إِنِّي لَأَعْرِفُ مِنْهَا مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْخَاصِّ لَا يُشْرَكُ فِيهِ الْعَامُّ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ يَدْخُلُ فِيهِ الْخُصُوصُ ، وَمَا خَرَجَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ اسْتِعْمَالُهُ ، وَمَا خَرَجَ مِنْهُ ابْتِدَاءً لِازْدِحَامِ الْعُلُومِ فِي صَدْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَاقْتَدَى بِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَمَا خَصَّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ النَّاسِ كُلُّهُمْ مَعَ مَا لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ ، لِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّاسِ وَسَنَّهُ ذِكْرًا ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : أَخَذْتَ التَّرْتِيبَ يَا
شافعي لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَحْسَنْتَ مَوْضِعَهَا لِوَصْفِهَا ، فَمَا حَاجَتُنَا إِلَى التَّكْرَارِ عَلَيْكَ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ وَمَنْ حَضَرَنَا أَنَّكَ حَامِلٌ نِصَابَهَا مُقِلًّا بِهَا ؟ فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ ، وَإِنَّمَا شَرَفُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ ، فَقَالَ : كَيْفَ بَصَرُكَ بِالْعَرَبِيَّةِ ؟ قَالَ : هِيَ مَبْدَؤُنَا ، وَطِبَاعُنَا بِهَا قُوِّمَتْ ، وَأَلْسِنَتُنَا بِهَا جَرَتْ ، فَصَارَتْ كَالْحَيَاةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالسَّلَامَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَرَبِيَّةُ لَا تَسْلَمُ إِلَّا لِأَهْلِهَا ، وَلَقَدْ وُلِدْتُ وَمَا أَعْرِفُ اللَّحْنَ ، فَكُنْتُ كَمَنْ سَلِمَ مِنَ الدَّاءِ مَا سَلِمَ لَهُ الدَّوَاءُ ، وَعَاشَ بِكَامِلِ الْهَنَاءِ ، وَبِذَلِكَ شَهِدَ لِيَ الْقُرْآنُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=4وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) - يَعْنِي
قُرَيْشًا - وَأَنْتَ وَأَنَا مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْعُنْصُرُ نَظِيفٌ ، وَالْجُرْثُومَةُ مَنِيعَةٌ شَامِخَةٌ ، أَنْتَ أَصْلٌ وَنَحْنُ فَرْعٌ ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَسِّرٌ وَمُبَيِّنٌ ، بِهِ اجْتَمَعَتْ أَحْسَابُنَا ، فَنَحْنُ بَنُو الْإِسْلَامِ ، وَبِذَلِكَ نُدْعَى وَنُنْسَبُ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : صَدَقْتَ ، بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : كَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالشِّعْرِ ؟ فَقَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ طَوِيلَهُ وَكَامِلَهُ ، وَسَرِيعَهُ وُمُجْتَثَّهُ ، وَمُنْسَرِحَهُ وَخَفِيفَهُ ، وَهَزَجَهُ وَرَجَزَهُ ، وَحِكَمَهُ وَغَزَلَهُ ، وَمَا قِيلَ فِيهِ عَلَى الْأَمْثَالِ تِبْيَانًا لِلْأَخْبَارِ ، وَمَا قَصَدَ بِهِ الْعُشَّاقُ رَجَاءً لِلتَّلَاقِ ، وَمَا رُثِيَ بِهِ الْأَوَائِلُ لِيَتَأَدَّبَ بِهِ الْأَوَاخِرُ ، وَمَا امْتَدَحَ بِهِ الْمُكْثِرُونَ بِابْتِلَاءِ أُمَرَائِهِمْ ، وَعَامَّتُهَا كَذِبٌ وَزُورٌ ، وَمَا نَطَقَ بِهِ الشَّاعِرُ لِيُعْرَفَ تَنْبِيهًا وَحَالَ لِشَيْخِهِ ، فَوَجِلَ شَاعِرُهُ ، وَمَا خَرَجَ عَلَى طَرَبٍ مِنْ قَائِلِهِ لَا أَرَبَ لَهُ ، وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ الشَّاعِرُ فَصَارَ حِكْمَةً لِمُسْتَمِعِهِ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : اكْفُفْ يَا
شافعي ، فَقَدْ أَنْفَقْتَ
[ ص: 89 ] فِي الشِّعْرِ ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَعْرِفُ هَذَا وَيَزِيدُ عَلَى
الخليل حَرْفًا ، وَلَقَدْ زِدْتَ وَأَفْضَلْتَ ، فَكَيْفَ مَعْرِفَتُكَ بِالْعَرَبِ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَمِنْ أَضْبَطِ النَّاسِ لِآبَائِهَا وَجَوَامِعِ أَحْسَابِهَا ، وَشَوَابِكِ أَنْسَابِهَا ، وَمَعْرِفَةِ وَقَائِعِهَا ، وَحَمْلِ مَغَازِيهَا فِي أَزْمِنَتِهَا ، وَكِمِّيَّةِ مُلُوكِهَا وَكَيْفِيَّةِ مُلْكِهَا وَمَاهِيَّةِ مَرَاتِبِهَا ، وَتَكْمِيلِ مَنَازِلِهَا وَأَنْدِيَةِ عِرَاضِهَا وَمَنَازِلِهَا ، مِنْهُمْ تُبَّعٌ ، وَحِمْيَرٌ ، وَجَفْنَةُ ، وَالْأَسْطَحُ ، وَعِيصٌ ، وَعُوَيْصٌ ، وَالْإِسْكَنْدَرُ ، وَأَسْفَادُ ، وَأَسْطَطَاوِيسُ ، وَسَوْطٌ ، وَبُقْرَاطُ ، وَأَرُسْطَطَالِيسُ ، مِنْ أَمْثَالِهِمْ مِنَ
الرُّومِ إِلَى كِسْرَى ، وَقَيْصَرَ ، وَنَوْبَةُ ، وَأَحْمَرُ ،
وعمرو بن هند ،
وسيف بن ذي يزن ،
والنعمان بن المنذر ،
وقطر بن أسعد ،
وسعد بن سعفان ، وهو جد سطيح الغساني لأبيه ، فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ مُلُوكِ
قُضَاعَةَ وَهَمْدَانَ ، وَالْحَيَّانِ :
رَبِيعَةُ ،
وَمُضَرُ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ :
nindex.php?page=treesubj&link=33935_31576يَا شافعي ، لَوْلَا أَنَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ لَقُلْتُ : إِنَّكَ مِمَّنْ لُيِّنَ لَهُ الْحَدِيدُ ، فَهَلْ مِنْ مَوْعِظَةٍ ؟ فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : إِنَّكَ تَخْلَعُ رِدَاءَ الْكِبْرِ عَنْ عَاتِقِكَ ، وَتَضَعُ تَاجَ الْهَيْبَةِ عَنْ رَأْسِكَ ، وَتَنْزِعُ قَمِيصَ التَّجَبُّرِ عَنْ جَسَدِكَ ، وَتُفَتِّشُ نَفْسَكَ ، وَتَنْشُرُ سِرَّكَ ، وَتُلْقِي جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِكَ ، مُسْتَكِينًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ ، وَأَكُونُ وَاعِظًا لَكَ عَنِ الْحَقِّ ، وَتَكُونُ مُسْتَمِعًا بِحُسْنِ الْقَبُولِ ، فَيَنْفَعُنِي اللَّهُ بِمَا أَقُولُ ، وَيَنْفَعُكَ بِمَا تَسْمَعُ ، فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ : أَمَا إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ وَسَمِعْتُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَلِلْوَاعِظِينَ بَعْدَهُمَا ، فَعِظْ وَأَوْجِزْ . فَحَلَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ عَنْهُ إِزَارَهُ ، وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=33761_18291_29485أَيَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ امْتَحَنَكَ بِالنِّعَمِ ، وَابْتَلَاكَ بِالشُّكْرِ ، فَفَضْلُ النِّعْمَةِ أَحْسَنُ لِتَسْتَغْرِقَ بِقَلِيلِهَا كَثِيرًا مِنْ شُكْرِكَ ، فَكُنْ لِلَّهِ تَعَالَى شَاكِرًا وَلِآلَائِهِ ذَاكِرًا ، تَسْتَحِقَّ مِنْهُ الْمَزِيدَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19872_19873_18291وَاتَّقِ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ تَسْتَكْمِلِ الطَّاعَةَ ، وَاسْمَعْ لِقَائِلِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ دُونَكَ تَشْرُفْ عِنْدَ اللَّهِ ، وَتَزِدْ فِي عَيْنِ رَعِيَّتِكَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُفَتِّشُ سِرَّكَ ، فَإِنْ وَجَدَهُ بِخِلَافِ عَلَانِيَتِكَ شَغَلَكَ بِهَمِّ الدُّنْيَا ، وَفَتَقَ لَكَ مَا يَزْنِقُ عَلَيْكَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=6وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ، وَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِعَلَانِيَتِكَ أَحَبَّكَ ، وَصَرَفَ هَمَّ الدُّنْيَا عَنْ قَلْبِكَ ، وَكَفَاكَ مَئُونَةَ نَظَرِكَ لِغَيْرِكَ ، وَتَرَكَ لَكَ نَظَرَكَ لِنَفْسِكَ ، وَكَانَ الْمُقَوِّيَ لِسِيَاسَتِكَ ، وَلَنْ
[ ص: 90 ] تُطَاعَ إِلَّا بِطَاعَتِكَ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَكُنْ لَهُ طَائِعًا تَكْتَسِبْ بِذَلِكَ السَّلَامَةَ فِي الْعَاجِلِ ، وَحُسْنَ الْمُنْقَلَبِ فِي الْآجِلِ ، فَـ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=128إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) ، وَاحْذَرِ اللَّهَ حَذَرَ عَبْدٍ عَلِمَ مَكَانَ عَدُوِّهِ ، وَغَابَ عَنْهُ وَلَيُّهُ ، فَتَيَقَّظَ خَوْفَ السَّرَى ، لَا تَأْمَنْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ لِتَوَاتُرِ نِعَمِهِ عَلَيْكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ لَكَ ، وَذَهَابٌ لِدِينِكَ ، وَأَسْقَطَ الْمَهَابَةَ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ، وَعَلَيْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ بِهِ ، وَلَنْ تَهْلِكَ مَا تَمَسَّكْتَ بِهِ ، فَاعْتَصِمْ بِاللَّهِ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، وَعَلَيْكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) ، وَمَا نَصَبَ الْخُلَفَاءُ الْمَهْدِيُّونَ فِي الْخَرَاجِ وَالْأَرَضِينَ ، وَالسَّوَادِ وَالْمَسَاكِنِ وَالدِّيَارَاتِ ، فَكُنْ لَهُمْ تَبَعًا وَبِهِ عَامِلًا رَاضِيًا مُسَلِّمًا ، وَاحْذَرِ التَّلْبِيسَ فِيهِ ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِكَ ، وَعَلَيْكَ
بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ، فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ ، وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ ، وَآتِهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي أَتَاكَ ، وَلَا تُكْرِهْهُمْ عَلَى إِمْسَاكٍ عَنْ حَقٍّ ، وَلَا عَلَى خَوْضٍ فِي بَاطِلٍ ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ مَكَّنُوا لَكَ الْبِلَادَ ، وَاسْتَخْلَصُوا لَكَ الْعِبَادَ ، وَنَوَّرُوا لَكَ الظُّلْمَةَ ، وَكَشَفُوا عَنْكَ الْغُمَّةَ ، وَمَكَّنُوا لَكَ فِي الْأَرْضِ ، وَعَرَّفُوكَ السِّيَاسَةَ ، وَقَلَّدُوكَ الرِّيَاسَةَ ، فَنَهَضْتَ بِثِقَلِهَا بَعْدَ ضَعْفٍ ، وَقَوِيتَ عَلَيْهَا بَعْدَ فَشَلٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يَرْجُوكَ مَنْ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ لِعِفَّتِهِمْ طَمَعَ الزِّيَادَةِ لَهُمْ ، فَلَا تُطِعِ الْخَاصَّةَ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْعَامَّةِ ، وَلَا تُطِعِ الْعَامَّةَ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ بِظُلْمِ الْخَاصَّةِ لِتَسْتَدِيمَ السَّلَامَةَ ، وَكُنْ لِلَّهِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ أَوْلِيَاؤُكَ مِنَ الْعَامَّةِ مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ : فَإِنَّهُ مَا وَلِيَ أَحَدٌ عَلَى عَشَرَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُحِطْهُمْ بِنَصِيحَةٍ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ ، لَا يَفُكُّهَا إِلَّا عَدْلُهُ ، وَأَنْتَ أَعْرَفُ بِنَفْسِكَ . قَالَ : فَبَكَى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ - وَقَدْ كَانَ فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ يَبْكِي لَا يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ - فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى هَذَا الْفَصْلِ بَكَى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ وَعَلَا نَحِيبُهُ ، وَبَكَى جُلَسَاؤُهُ ، وَبَكَى
محمد وأبو يوسف ، فَقَالَ الْوَالِي : يَا هَذَا الرَّجُلُ ، احْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَدْ قَطَعْتَ قَلْبَهُ حُزْنًا ، وَقَالَ
محمد بن الحسن وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمِهِ : اغْمِدْ لِسَانَكَ يَا
شافعي عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهُ أَمْضَى مِنْ سَيْفِكَ -
والرشيد يَبْكِي لَا يَفِيقُ - فَأَقْبَلَ
[ ص: 91 ] nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ عَلَى
محمد وَالْجَمَاعَةِ ، فَقَالَ : اسْكُتُوا أَخْرَسَكُمُ اللَّهُ ، لَا تَذْهَبُوا بِنُورِ الْحِكْمَةِ يَا مَعْشَرَ عَبِيدِ الرِّعَاعِ وَعَبِيدِ السَّوْطِ وَالْعَصَا ، أَخَذَ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ لِتَلْبِيسِكُمُ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَرِثُكُمُ الْمُلْكَ لَدَيْهِ ، أَمَا وَاللَّهِ مَا زَالَتِ الْخِلَافَةُ بِخَيْرٍ مَا صَدَفَ عَنْهَا أَمْثَالُكُمْ ، وَلَنْ تَزَالَ بِضُرٍّ مَا اعْتَصَمَتْ بِكُمْ ، فَرَفَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ رَأَسَهُ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ كُفُّوا ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِسَيْفٍ فَقَالَ : خُذْ هَذَا الْكَهْلَ إِلَيْكَ ، وَلَا تُحِلَّنِي مِنْهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، فَقَالَ : قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِصِلَةٍ ، فَرَأْيُكَ فِي قَبُولِهَا مَوْقِفٌ . فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ : كَلَّا ، وَاللَّهِ لَا يَرَانِي اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَوَّدْتُ وَجْهَ مَوْعِظَتِي بِقَبُولِ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا ، وَلَقَدْ عَاهَدْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنِّي لَا أَخْلِطُ بِمَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ تَكَبَّرَ فِي نَفْسِهِ وَتَصَغَّرَ عِنْدَ رَبِّهِ ، إِلَّا ذَكَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى لَعَلَّهُ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ ذِكْرًا . ثُمَّ نَهَضَ ، فَلَمَّا خَرَجَ أَقْبَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ عَلَى
محمد ويعقوب ، فَقَالَ لَهُمَا : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ ، أَفَرَأَيْتُمَا كَيَوْمِكُمَا ؟ فَلَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نَقُولَ : لَا . فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ لَهُمَا : أَبِهَذَا تُغْرِيَانِي ؟ لَقَدْ بُؤْتُمَا الْيَوْمَ بِإِثْمٍ عَظِيمٍ ، لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِالتَّأْيِيدِ فِي أَمْرِهِ ، كَيْفَمَا أَوْقَعْتُمَانِي فِيمَا لَا خَلَاصَ لِي مِنْهُ عِنْدَ رَبِّي . ثُمَّ وَثَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ
محمدا وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَرُبَّمَا حُجِبَ ، ثُمَّ إِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدِ ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَبِلَهَا ، فَضَحِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ ، وَقَالَ : لِلَّهِ دَرُّكَ ! مَا أَفْطَنَكَ ؟ قَاتِلَ اللَّهُ عَدُوَّكَ فَقَدْ أَصْبَحَ لَكَ وَلِيًّا . وَأَمَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ خَادِمَهُ
سراجا بِاتِّبَاعِهِ ، فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا قَبْضَةً قَبْضَةً حَتَّى انْتَهَى إِلَى خَارِجِ الدَّارِ وَمَا مَعَهُ إِلَّا قَبْضَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَدَفَعَهَا إِلَى غُلَامِهِ ، وَقَالَ لَهُ : انْتَفِعْ بِهَا . فَأَخْبَرَ
سراج nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : لِهَذَا ذَرُعَ هَمُّهُ وَقَوِيَ مَتْنُهُ ، فَاسْتَمَرَّ
nindex.php?page=showalam&ids=14370الرَّشِيدُ عَلَيْهِمَا .