وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، يوم
أحد ، لما قيل لهم بعد انصرافهم من
أحد : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) فتجهزوا وخرجوا للقاء عدوهم ، وأعطوهم الكيس من نفوسهم ، ثم قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173حسبنا الله ونعم الوكيل ) فأثرت الكلمة أثرها ، واقتضت موجبها ، ولهذا قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ الطلاق : 2 ] فجعل التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها ، فحينئذ إن توكل على الله ، فهو حسبه ، وكما قال في موضع آخر : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=11واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [ المائدة : 11 ] فالتوكل والحسب بدون قيام
[ ص: 331 ] الأسباب المأمور بها عجز محض ، فإن كان مشوبا بنوع من التوكل ، فهو توكل عجز ، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ، ولا يجعل عجزه توكلا ، بل يجعل توكله من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتم المقصود إلا بها كلها .
ومن هاهنا
nindex.php?page=treesubj&link=29470غلط طائفتان من الناس : إحداهما : زعمت أن التوكل وحده سبب مستقل كاف في حصول المراد ، فعطلت له الأسباب التي اقتضتها حكمة الله الموصلة إلى مسبباتها ، فوقعوا في نوع تفريط وعجز ، بحسب ما عطلوا من الأسباب ، وضعف توكلهم من حيث ظنوا قوته بانفراده عن الأسباب ، فجمعوا الهم كله ، وصيروه هما واحدا ، وهذا وإن كان فيه قوة من هذا الوجه ، ففيه ضعف من جهة أخرى ، فكلما قوي جانب التوكل بإفراده أضعفه التفريط في السبب الذي هو محل التوكل ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=19648_19651التوكل محله الأسباب ، وكماله بالتوكل على الله فيها ، وهذا كتوكل الحراث الذي شق الأرض ، وألقى فيها البذر ، فتوكل على الله في زرعه وإنباته ، فهذا قد أعطى التوكل حقه ، ولم يضعف توكله بتعطيل الأرض ، وتخليتها بورا ، وكذلك توكل المسافر في قطع المسافة مع جده في السير ، وتوكل الأكياس من النجاة من عذاب الله ، والفوز بثوابه ، مع اجتهادهم في طاعته ، فهذا هو التوكل الذي يترتب عليه أثره ، ويكون الله حسب من قام به .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=19652توكل العجز والتفريط ، فلا يترتب عليه أثره ، وليس الله حسب صاحبه ، فإن الله إنما يكون حسب المتوكل عليه إذا اتقاه ، وتقواه فعل الأسباب المأمور بها ، لا إضاعتها .
nindex.php?page=treesubj&link=19653والطائفة الثانية : التي قامت بالأسباب ، ورأت ارتباط المسببات بها شرعا وقدرا ، وأعرضت عن جانب التوكل ، وهذه الطائفة وإن نالت بما فعلته من الأسباب ما نالته ، فليس لها قوة أصحاب التوكل ، ولا عون الله لهم وكفايته إياهم ودفاعه عنهم ، بل هي مخذولة عاجزة ، بحسب ما فاتها من التوكل .
فالقوة كل
nindex.php?page=treesubj&link=19649القوة في التوكل على الله ، كما قال بعض السلف : من سره أن يكون أقوى الناس ، فليتوكل على الله ، فالقوة مضمونة للمتوكل ، والكفاية والحسب والدفع عنه ، وإنما ينقص عليه من ذلك بقدر ما ينقص من التقوى والتوكل ، وإلا
[ ص: 332 ] فمع تحققه بهما ، لا بد أن يجعل الله له مخرجا من كل ما ضاق على الناس ، ويكون الله حسبه وكافيه .
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد العبد إلى ما فيه غاية كماله ، ونيل مطلوبه ، أن يحرص على ما ينفعه ، ويبذل فيه جهده ، وحينئذ ينفعه التحسب ، وقول (
حسبي الله ونعم الوكيل ) بخلاف من عجز وفرط ، حتى فاتته مصلحته ، ثم قال (
حسبي الله ونعم الوكيل ) فإن الله يلومه ، ولا يكون في هذا الحال حسبه ، فإنما هو حسب من اتقاه وتوكل عليه .
وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ ، يَوْمَ
أُحُدٍ ، لَمَّا قِيلَ لَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ
أُحُدٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) فَتَجَهَّزُوا وَخَرَجُوا لِلِقَاءِ عَدُوِّهِمْ ، وَأَعْطَوْهُمُ الْكَيْسَ مِنْ نُفُوسِهِمْ ، ثُمَّ قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=173حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) فَأَثَّرَتِ الْكَلِمَةُ أَثَرَهَا ، وَاقْتَضَتْ مُوجَبَهَا ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [ الطَّلَاقِ : 2 ] فَجَعَلَ التَّوَكُّلَ بَعْدَ التَّقْوَى الَّذِي هُوَ قِيَامُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، فَحِينَئِذٍ إِنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ، فَهُوَ حَسْبُهُ ، وَكَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=11وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [ الْمَائِدَةِ : 11 ] فَالتَّوَكُّلُ وَالْحَسْبُ بِدُونِ قِيَامِ
[ ص: 331 ] الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا عَجْزٌ مَحْضٌ ، فَإِنْ كَانَ مَشُوبًا بِنَوْعٍ مِنَ التَّوَكُّلِ ، فَهُوَ تَوَكُّلُ عَجْزٍ ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا ، وَلَا يَجْعَلَ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا ، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إِلَّا بِهَا كُلِّهَا .
وَمِنْ هَاهُنَا
nindex.php?page=treesubj&link=29470غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ : إِحْدَاهُمَا : زَعَمَتْ أَنَّ التَّوَكُّلَ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ ، فَعُطِّلَتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللَّهِ الْمُوصِلَةُ إِلَى مُسَبِّبَاتِهَا ، فَوَقَعُوا فِي نَوْعِ تَفْرِيطٍ وَعَجْزٍ ، بِحَسَبِ مَا عَطَّلُوا مِنَ الْأَسْبَابِ ، وَضَعُفَ تَوَكُّلُهُمْ مِنْ حَيْثُ ظَنُّوا قُوَّتَهُ بِانْفِرَادِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ ، فَجَمَعُوا الْهَمَّ كُلَّهُ ، وَصَيَّرُوهُ هَمًّا وَاحِدًا ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَكُلَّمَا قَوِيَ جَانِبُ التَّوَكُّلِ بِإِفْرَادِهِ أَضْعَفَهُ التَّفْرِيطُ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ التَّوَكُّلِ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19648_19651التَّوَكُّلَ مَحَلُّهُ الْأَسْبَابُ ، وَكَمَالُهُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهَا ، وَهَذَا كَتَوَكُّلِ الْحَرَّاثِ الَّذِي شَقَّ الْأَرْضَ ، وَأَلْقَى فِيهَا الْبِذْرَ ، فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي زَرْعِهِ وَإِنْبَاتِهِ ، فَهَذَا قَدْ أَعْطَى التَّوَكُّلَ حَقَّهُ ، وَلَمْ يَضْعُفْ تَوَكُّلُهُ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ ، وَتَخْلِيَتِهَا بُورًا ، وَكَذَلِكَ تَوَكُّلُ الْمُسَافِرِ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ مَعَ جِدِّهِ فِي السَّيْرِ ، وَتَوَكُّلُ الْأَكْيَاسِ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ، وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهِ ، مَعَ اجْتِهَادِهِمْ فِي طَاعَتِهِ ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ ، وَيَكُونُ اللَّهُ حَسْبَ مَنْ قَامَ بِهِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19652تَوَكُّلُ الْعَجْزِ وَالتَّفْرِيطِ ، فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ ، وَلَيْسَ اللَّهُ حَسْبَ صَاحِبِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَكُونُ حَسْبَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ إِذَا اتَّقَاهُ ، وَتَقْوَاهُ فِعْلُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، لَا إِضَاعَتُهَا .
nindex.php?page=treesubj&link=19653وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ : الَّتِي قَامَتْ بِالْأَسْبَابِ ، وَرَأَتِ ارْتِبَاطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا ، وَأَعْرَضَتْ عَنْ جَانِبِ التَّوَكُّلِ ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ وَإِنْ نَالَتْ بِمَا فَعَلَتْهُ مِنَ الْأَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ ، فَلَيْسَ لَهَا قُوَّةُ أَصْحَابِ التَّوَكُّلِ ، وَلَا عَوْنُ اللَّهِ لَهُمْ وَكِفَايَتُهُ إِيَّاهُمْ وَدِفَاعُهُ عَنْهُمْ ، بَلْ هِيَ مَخْذُولَةٌ عَاجِزَةٌ ، بِحَسَبِ مَا فَاتَهَا مِنَ التَّوَكُّلِ .
فَالْقُوَّةُ كُلُّ
nindex.php?page=treesubj&link=19649الْقُوَّةِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ، فَالْقُوَّةُ مَضْمُونَةٌ لِلْمُتَوَكِّلِ ، وَالْكِفَايَةُ وَالْحَسْبُ وَالدَّفْعُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَنْقُصُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ مِنَ التَّقْوَى وَالتَّوَكُّلِ ، وَإِلَّا
[ ص: 332 ] فَمَعَ تَحَقُّقِهِ بِهِمَا ، لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونُ اللَّهُ حَسْبَهُ وَكَافِيَهُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْشَدَ الْعَبْدَ إِلَى مَا فِيهِ غَايَةُ كَمَالِهِ ، وَنَيْلُ مَطْلُوبِهِ ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ ، وَيَبْذُلَ فِيهِ جَهْدَهُ ، وَحِينَئِذٍ يَنْفَعُهُ التَّحَسُّبُ ، وَقَوْلُ (
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) بِخِلَافِ مَنْ عَجَزَ وَفَرَّطَ ، حَتَّى فَاتَتْهُ مَصْلَحَتُهُ ، ثُمَّ قَالَ (
حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) فَإِنَّ اللَّهَ يَلُومُهُ ، وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْحَالِ حَسْبَهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ حَسْبُ مَنِ اتَّقَاهُ وَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ .