فصل
قال صاحب " المنازل " :
nindex.php?page=treesubj&link=19648التوكل : : كلة الأمر إلى مالكه ، والتعويل على وكالته ، وهو من أصعب منازل العامة عليهم . وأوهى السبل عند الخاصة ؛ لأن الحق تعالى قد وكل الأمور كلها إلى نفسه . وأيأس العالم من ملك شيء منها .
قوله : كلة الأمر إلى مالكه . أي تسليمه إلى من هو بيده .
والتعويل على وكالته ؛ أي الاعتماد على قيامه بالأمر ، والاستغناء بفعله عن فعلك ، وبإرادته عن إرادتك .
والوكالة يراد بها أمران . أحدهما : التوكيل . وهو الاستنابة والتفويض . والثاني : التوكل . وهو التعرف بطريق النيابة عن الموكل . وهذا من الجانبين . فإن الله تبارك وتعالى يوكل العبد ويقيمه في حفظ ما وكله فيه . والعبد يوكل الرب ويعتمد عليه .
[ ص: 126 ] فأما
nindex.php?page=treesubj&link=19648وكالة الرب عبده ، ففي قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=89فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) قال
قتادة : وكلنا بها الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرناهم - يعني قبل هذه الآية - وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12004أبو رجاء العطاردي : معناه : إن يكفر بها أهل الأرض ، فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس و
مجاهد : هم
الأنصار أهل المدينة .
والصواب : أن المراد من قام بها إيمانا ، ودعوة وجهادا ونصرة . فهؤلاء هم الذين وكلهم الله بها .
فإن قلت : فهل يصح أن يقال : إن أحدا وكيل الله ؟
قلت : لا . فإن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة . والله عز وجل لا نائب له ، ولا يخلفه أحد ، بل هو الذي يخلف عبده ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980366اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل . على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه ، ورعايته والقيام به .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=19651توكيل العبد ربه فهو تفويضه إليه ، وعزل نفسه عن التصرف ، وإثباته لأهله ووليه . ولهذا قيل في التوكل : إنه عزل النفس عن الربوبية ، وقيامها بالعبودية . وهذا معنى كون الرب وكيل عبده ؛ أي كافيه ، والقائم بأموره ومصالحه ؛ لأنه نائبه في التصرف . فوكالة الرب عبده أمر وتعبد وإحسان له ، وخلعة منه عليه ، لا عن حاجة منه ، وافتقار إليه كموالاته . وأما توكيل العبد ربه فتسليم لربوبيته ، وقيام بعبوديته .
وقوله : وهو من أصعب منازل العامة عليهم ؛ لأن العامة لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم . ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة . وهي التي تشهد التوكيل ، فهم في رق الأسباب . فيصعب عليهم الخروج عنها ، وخلو القلب منها ، والاشتغال بملاحظة المسبب وحده .
[ ص: 127 ] وأما كونه أوهى السبل عند الخاصة فليس على إطلاقه ، بل هو من أجل السبل عندهم وأفضلها ، وأعظمها قدرا . وقد تقدم في صدر الباب أمر الله رسوله بذلك ، وحضه عليه هو والمؤمنين . ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم المتوكل وتوكله أعظم توكل . وقد قال الله له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=79فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) وفي ذكر أمره بالتوكل ، مع إخباره بأنه على الحق دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله ، واعتقاده ونيته ، وأن يكون متوكلا على الله واثقا به . فالدين كله في هذين المقامين . وقال رسل الله وأنبياؤه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=12وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) . فالعبد آفته إما من عدم الهداية ، وإما من عدم التوكل . فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله .
نعم ، التوكل على الله في معلوم الرزق المضمون ، والاشتغال به عن التوكل في نصرة الحق والدين من أوهى منازل الخاصة . أما التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه فيه وفي الخلق ، فهذا توكل الرسل والأنبياء عليهم السلام . فكيف يكون من أوهى منازل الخاصة ؟
قوله : لأن الحق قد وكل الأمور إلى نفسه ، وأيأس العالم من ملك شيء منها .
جوابه : أن الذي تولى ذلك أسند إلى عباده كسبا وفعلا وإقدارا ، واختيارا ، وأمرا ونهيا ، استعبدهم به ، وامتحن به من يطيعه ممن يعصيه ، ومن يؤثره ممن يؤثر عليه . وأمر بتوكلهم عليه فيما أسنده إليهم وأمرهم به ، وتعبدهم به . وأخبر أنه يحب المتوكلين عليه ، كما يحب الشاكرين . وكما يحب المحسنين ، وكما يحب الصابرين . وكما يحب التوابين .
وأخبر أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه ، وأنه كاف من توكل عليه وحسبه . وجعل لكل عمل من أعمال البر ، ومقام من مقاماته جزاء معلوما .
وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته . فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=5ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=4ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا )
[ ص: 128 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) - الآية ، ثم قال في التوكل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) .
فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ، ولم يجعله لغيره . وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه . وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه بمناف لتوكل العبد عليه ، بل هذا تحقيق كون الأمور كلها موكولة إلى نفسه ؛ لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة صارت حاله التوكل - قطعا - على من هذا شأنه ، لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه ، وأن العبد لا يملك شيئا منها . فهو لا يجد بدا من اعتماده عليه . وتفويضه إليه . وثقته به من الوجهين : من جهة فقره ، وعدم ملكه شيئا ألبتة . ومن جهة كون الأمر كله بيده وإليه . والتوكل ينشأ من هذين العلمين .
فإن قيل : فإذا كان الأمر كله لله ، وليس للعبد من الأمر شيء . فكيف يوكل المالك على ملكه ؟ وكيف يستنيبه فيما هو ملك له ، دون هذا الموكل ؟ فالخاصة لما تحققوا هذا نزلوا عن مقام التوكل وسلموه إلى العامة . وبقي الخطاب بالتوكل لهم دون الخاصة .
قيل : لما كان الأمر كله لله عز وجل ، وليس للعبد فيه شيء ألبتة . كان توكله على الله تسليم الأمر إلى من هو له ، وعزل نفسه عن منازعات مالكه واعتماده عليه فيه ، وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به ، إلى تصرفه بربه وكونه به سبحانه دون نفسه . وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=19648مقصود التوكل .
وأما عزل العبد نفسه عن مقام التوكل : فهو عزل لها عن حقيقة العبودية .
وأما توجه الخطاب به إلى العامة : فسبحان الله ! هل خاطب الله بالتوكل في كتابه إلا خواص خلقه ، وأقربهم إليه ، وأكرمهم عليه ؟ وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين ، والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه .
وهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل . فمن لا توكل له لا إيمان له ، قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=23وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=122وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=2إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) .
[ ص: 129 ] وهذا يدل على انحصار المؤمنين فيمن كان بهذه الصفة .
وأخبر تعالى عن رسله بأن التوكل ملجأهم ومعاذهم . وأمر به رسوله في أربعة مواضع من كتابه . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=84وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ) . فكيف يكون من أوهى السبل وهذا شأنه ؟ والله سبحانه وتعالى أعلم .
فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " :
nindex.php?page=treesubj&link=19648التَّوَكُّلُ : : كِلَةُ الْأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وِكَالَتِهِ ، وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ . وَأَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَالَى قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نَفْسِهِ . وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مَنْ مِلْكَ شَيْءٍ مِنْهَا .
قَوْلُهُ : كِلَةُ الْأَمْرِ إِلَى مَالِكِهِ . أَيْ تَسْلِيمُهُ إِلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ .
وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ؛ أَيْ الِاعْتِمَادُ عَلَى قِيَامِهِ بِالْأَمْرِ ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِفِعْلِهِ عَنْ فِعْلِكَ ، وَبِإِرَادَتِهِ عَنْ إِرَادَتِكَ .
وَالْوِكَالَةُ يُرَادُ بِهَا أَمْرَانِ . أَحَدُهُمَا : التَّوْكِيلُ . وَهُوَ الِاسْتِنَابَةُ وَالتَّفْوِيضُ . وَالثَّانِي : التَّوَكُّلُ . وَهُوَ التَّعَرُّفُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمُوَكِّلِ . وَهَذَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ . فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوَكِّلُ الْعَبْدَ وَيُقِيمُهُ فِي حِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ . وَالْعَبْدُ يُوكِّلُ الرَّبَّ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ .
[ ص: 126 ] فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19648وَكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=89فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) قَالَ
قَتَادَةُ : وَكَّلْنَا بِهَا الْأَنْبِيَاءَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ - يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ - وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12004أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ : مَعْنَاهُ : إِنْ يَكْفُرْ بِهَا أَهْلُ الْأَرْضِ ، فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا أَهْلَ السَّمَاءِ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ وَ
مُجَاهِدٌ : هُمُ
الْأَنْصَارُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ .
وَالصَّوَابُ : أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ قَامَ بِهَا إِيمَانًا ، وَدَعْوَةً وَجِهَادًا وَنُصْرَةً . فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللَّهُ بِهَا .
فَإِنْ قُلْتَ : فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ أَحَدًا وَكِيلُ اللَّهِ ؟
قُلْتُ : لَا . فَإِنَّ الْوَكِيلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ عَنْ مُوَكِّلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ . وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا نَائِبَ لَهُ ، وَلَا يَخْلُفُهُ أَحَدٌ ، بَلْ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ عَبْدَهُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980366اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ . عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَا وَكَّلَهُ فِيهِ ، وَرِعَايَتِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=19651تَوْكِيلُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَهُوَ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهِ ، وَعَزْلُ نَفْسِهِ عَنِ التَّصَرُّفِ ، وَإِثْبَاتُهُ لِأَهْلِهِ وَوَلِيِّهِ . وَلِهَذَا قِيلَ فِي التَّوَكُّلِ : إِنَّهُ عَزْلُ النَّفْسِ عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَقِيَامُهَا بِالْعُبُودِيَّةِ . وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الرَّبِّ وَكِيلَ عَبْدِهِ ؛ أَيْ كَافِيَهُ ، وَالْقَائِمُ بِأُمُورِهِ وَمَصَالِحِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ فِي التَّصَرُّفِ . فَوِكَالَةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ أَمْرٌ وَتَعَبُّدٌ وَإِحْسَانٌ لَهُ ، وَخِلْعَةٌ مِنْهُ عَلَيْهِ ، لَا عَنْ حَاجَةٍ مِنْهُ ، وَافْتِقَارٍ إِلَيْهِ كَمُوَالَاتِهِ . وَأَمَّا تَوْكِيلُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَتَسْلِيمٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ ، وَقِيَامٌ بِعُبُودِيَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ : وَهُوَ مِنْ أَصْعَبِ مَنَازِلِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَمَأْلُوفَاتِهِمْ . وَلَمْ يُشَاهِدُوا الْحَقِيقَةَ الَّتِي شَهِدَهَا الْخَاصَّةُ . وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ التَّوْكِيلَ ، فَهُمْ فِي رِقِّ الْأَسْبَابِ . فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ عَنْهَا ، وَخُلُوِّ الْقَلْبِ مِنْهَا ، وَالِاشْتِغَالِ بِمُلَاحَظَةِ الْمُسَبِّبِ وَحْدَهُ .
[ ص: 127 ] وَأَمَّا كَوْنُهُ أَوْهَى السُّبُلِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ فَلَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ، بَلْ هُوَ مِنْ أَجَلِّ السُّبُلِ عِنْدَهُمْ وَأَفْضَلِهَا ، وَأَعْظَمِهَا قَدْرًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْبَابِ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ بِذَلِكَ ، وَحَضُّهُ عَلَيْهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنِينَ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَكِّلُ وَتَوَكُّلُهُ أَعْظَمُ تَوَكُّلٍ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=79فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) وَفِي ذِكْرِ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ ، مَعَ إِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدِّينَ بِمَجْمُوعِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ، وَاعْتِقَادِهِ وَنِيَّتِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ وَاثِقًا بِهِ . فَالدِّينُ كُلُّهُ فِي هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ . وَقَالَ رُسُلُ اللَّهِ وَأَنْبِيَاؤُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=12وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ) . فَالْعَبْدُ آفَتُهُ إِمَّا مِنْ عَدَمِ الْهِدَايَةِ ، وَإِمَّا مِنْ عَدَمِ التَّوَكُّلِ . فَإِذَا جَمَعَ التَّوَكُّلَ إِلَى الْهِدَايَةِ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ .
نَعَمْ ، التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ فِي مَعْلُومِ الرِّزْقِ الْمَضْمُونِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ التَّوَكُّلِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَالدِّينِ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ . أَمَّا التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ فِي حُصُولِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِيهِ وَفِي الْخَلْقِ ، فَهَذَا تَوَكُّلُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ . فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى مَنَازِلِ الْخَاصَّةِ ؟
قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ ، وَأَيْأَسَ الْعَالَمَ مِنْ مِلْكِ شَيْءٍ مِنْهَا .
جَوَابُهُ : أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ أَسْنَدَ إِلَى عِبَادِهِ كَسْبًا وَفِعْلًا وَإِقْدَارًا ، وَاخْتِيَارًا ، وَأَمْرًا وَنَهْيًا ، اسْتَعْبَدَهُمْ بِهِ ، وَامْتَحَنَ بِهِ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ ، وَمَنْ يُؤْثِرُهُ مِمَّنْ يُؤْثِرُ عَلَيْهِ . وَأَمَرَ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ فِيمَا أَسْنَدَهُ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِهِ ، وَتَعَبَّدَهُمْ بِهِ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ ، كَمَا يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ . وَكَمَا يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ، وَكَمَا يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَكَمَا يُحِبُّ التَّوَّابِينَ .
وَأَخْبَرَ أَنَّ كِفَايَتَهُ لَهُمْ مَقْرُونَةٌ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ كَافٍ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَحَسْبُهُ . وَجَعَلَ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِهِ جَزَاءً مَعْلُومًا .
وَجَعَلَ نَفْسَهُ جَزَاءَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ وَكِفَايَتَهُ . فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=5وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=4وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا )
[ ص: 128 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=69وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ ) - الْآيَةَ ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّوَكُّلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) .
فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَزَاءِ الَّذِي حَصَلَ لِلْمُتَوَكِّلِ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِغَيْرِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ أَقْوَى السُّبُلَ عِنْدَهُ وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ . وَلَيْسَ كَوْنُهُ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نَفْسِهِ بِمُنَافٍ لِتَوَكُّلِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ ، بَلْ هَذَا تَحْقِيقُ كَوْنِ الْأُمُورِ كُلِّهَا مَوْكُولَةً إِلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ وَتَحَقَّقَهُ مَعْرِفَةً صَارَتْ حَالُهُ التَّوَكُّلَ - قَطْعًا - عَلَى مَنْ هَذَا شَأْنُهُ ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا . فَهُوَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنَ اعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ . وَتَفْوِيضِهِ إِلَيْهِ . وَثِقَتِهِ بِهِ مِنَ الْوَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ فَقْرِهِ ، وَعَدَمِ مِلْكِهِ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ . وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْأَمْرِ كُلِّهِ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ . وَالتَّوَكُّلُ يَنْشَأُ مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ . فَكَيْفَ يُوَكِّلُ الْمَالِكُ عَلَى مُلْكِهِ ؟ وَكَيْفَ يَسْتَنِيبُهُ فِيمَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ ، دُونَ هَذَا الْمُوَكَّلِ ؟ فَالْخَاصَّةُ لَمَّا تَحَقَّقُوا هَذَا نَزَلُوا عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَسَلَّمُوهُ إِلَى الْعَامَّةِ . وَبَقِيَ الْخِطَابُ بِالتَّوَكُّلِ لَهُمْ دُونَ الْخَاصَّةِ .
قِيلَ : لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ . كَانَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَسْلِيمَ الْأَمْرِ إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ ، وَعَزْلَ نَفْسِهِ عَنْ مُنَازَعَاتِ مَالِكِهِ وَاعْتِمَادَهُ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَخُرُوجَهُ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَحَوْلِهُ وَقُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ بِهِ ، إِلَى تَصَرُّفِهِ بِرَبِّهِ وَكَوْنِهِ بِهِ سُبْحَانَهُ دُونَ نَفْسِهِ . وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=19648مَقْصُودُ التَّوَكُّلِ .
وَأَمَّا عَزْلُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عَنْ مَقَامِ التَّوَكُّلِ : فَهُوَ عَزْلٌ لَهَا عَنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ .
وَأَمَّا تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِهِ إِلَى الْعَامَّةِ : فَسُبْحَانَ اللَّهِ ! هَلْ خَاطَبَ اللَّهُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كِتَابِهِ إِلَّا خَوَاصَّ خَلْقِهِ ، وَأَقْرَبَهُمْ إِلَيْهِ ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَيْهِ ؟ وَشَرَطَ فِي إِيمَانِهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَكِّلِينَ ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّرْطِ يُعْدَمُ عِنْدَ عَدَمِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِيمَانِ عِنْدَ انْتِفَاءِ التَّوَكُّلِ . فَمَنْ لَا تَوَكُّلَ لَهُ لَا إِيمَانَ لَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=23وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=122وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=2إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .
[ ص: 129 ] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ رُسُلِهِ بِأَنَّ التَّوَكُّلَ مَلْجَأُهُمْ وَمَعَاذُهُمْ . وَأَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=84وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) . فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَوْهَى السُّبُلِ وَهَذَا شَأْنُهُ ؟ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .