قال : وهي على ثلاث درجات . الدرجة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=21049_21078تعظيم الأمر والنهي ، لا خوفا من العقوبة ، فتكون خصومة للنفس ، ولا طلبا للمثوبة . فيكون مستشرفا للأجرة ، ولا
[ ص: 74 ] مشاهدا لأحد . فيكون متزينا بالمراءاة . فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس .
هذا الموضع يكثر في كلام القوم . والناس بين معظم له ولأصحابه ، معتقد أن هذا أرفع درجات العبودية : أن لا يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه خوفا من عقابه ، ولا طمعا في ثوابه . فإن هذا واقف مع غرضه وحظ نفسه . وأن المحبة تأبى ذلك . فإن المحب لا حظ له مع محبوبه . فوقوفه مع حظه علة في محبته ، وأن طمعه في الثواب تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة . ففي هذا آفتان : تطلعه إلى الأجرة ، وإحسان ظنه بعمله ؛ إذ تطلعه إلى استحقاقه الأجر ، وخوفه من العقاب : خصومة للنفس ، فإنه لا يزال يخاصمها إذا خالفت . ويقول : أما تخافين النار ، وعذابها ، وما أعد الله لأهلها ؟ فلا تزال الخصومة بذلك بينه وبين نفسه .
ومن وجه آخر أيضا : وهو أنه كالمخاصم عن نفسه ، الدافع عنها خصمه الذي يريد هلاكه ، وهو عين الاهتمام بالنفس ، والالتفات إلى حظوظها ، مخاصمة عنها ، واستدعاء لما تلتذ به .
ولا يخلصه من هذه المخاصمة ، وذلك الاستشراف إلا تجريد القيام بالأمر والنهي من كل علة . بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي . وأنه أهل أن يعبد ، وتعظم حرماته . فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته ، كما في الأثر الإسرائيلي : لو لم أخلق جنة ولا نارا ، أما كنت أهلا أن أعبد ؟ .
ومنه قول القائل :
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستح
ق على ذوي الورى الشكر للمنعم ؟
فالنفوس العلية الزكية تعبده لأنه أهل أن يعبد ، ويجل ويحب ويعظم . فهو لذاته مستحق للعبادة . قالوا : ولا يكون العبد كأجير السوء . إن أعطي أجره عمل ، وإن لم يعط لم يعمل . فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والإرادة .
قالوا : والعمال شاخصون إلى منزلتين : منزلة الآخرة ، ومنزلة القرب من المطاع .
[ ص: 75 ] قال تعالى في حق نبيه
داود : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=25وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ) .
فالزلفى منزلة القرب ، وحسن المآب حسن الثواب والجزاء . وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=26للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) والحسنى : الجزاء . والزيادة : منزلة القرب . ولهذا فسرت بالنظر إلى وجه الله عز وجل . وهذان هما اللذان وعدهما فرعون للسحرة إن غلبوا
موسى ، فقالوا له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=113إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ) .
قالوا : والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة . والعمال عملهم على الثواب والأجرة . وشتان ما بينهما .
قَالَ : وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ . الدَّرَجَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=21049_21078تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، لَا خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ ، فَتَكُونُ خُصُومَةً لِلنَّفْسِ ، وَلَا طَلَبًا لِلْمَثُوبَةِ . فَيَكُونُ مُسْتَشْرِفًا لِلْأُجْرَةِ ، وَلَا
[ ص: 74 ] مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ . فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ .
هَذَا الْمَوْضِعُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْقَوْمِ . وَالنَّاسُ بَيْنَ مُعَظِّمٍ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ ، مُعْتَقِدٍ أَنَّ هَذَا أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ : أَنْ لَا يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَقُومَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ ، وَلَا طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ . فَإِنَّ هَذَا وَاقِفٌ مَعَ غَرَضِهِ وَحَظِّ نَفْسِهِ . وَأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ . فَإِنَّ الْمُحِبَّ لَا حَظَّ لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ . فَوُقُوفُهُ مَعَ حَظِّهِ عِلَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَأَنَّ طَمَعَهُ فِي الثَّوَابِ تَطَلُّعٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُجْرَةً . فَفِي هَذَا آفَتَانِ : تَطَلُّعُهُ إِلَى الْأُجْرَةِ ، وَإِحْسَانُ ظَنِّهِ بِعَمَلِهِ ؛ إِذْ تَطَلُّعُهُ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ ، وَخَوْفُهُ مِنَ الْعِقَابِ : خُصُومَةٌ لِلنَّفْسِ ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُخَاصِمُهَا إِذَا خَالَفَتْ . وَيَقُولُ : أَمَا تَخَافِينَ النَّارَ ، وَعَذَابَهَا ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا ؟ فَلَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بِذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ .
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا : وَهُوَ أَنَّهُ كَالْمُخَاصِمِ عَنْ نَفْسِهِ ، الدَّافِعِ عَنْهَا خَصْمَهُ الَّذِي يُرِيدُ هَلَاكَهُ ، وَهُوَ عَيْنُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْسِ ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَى حُظُوظِهَا ، مُخَاصَمَةً عَنْهَا ، وَاسْتِدْعَاءً لِمَا تَلْتَذُّ بِهِ .
وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ ، وَذَلِكَ الِاسْتِشْرَافِ إِلَّا تَجْرِيدُ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ . بَلْ يَقُومُ بِهِ تَعْظِيمًا لِلْآمِرِ النَّاهِي . وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ ، وَتُعَظَّمَ حُرُمَاتُهُ . فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِجْلَالَ لِذَاتِهِ ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ : لَوْ لَمْ أَخْلُقْ جَنَّةً وَلَا نَارًا ، أَمَا كُنْتُ أَهْلًا أَنْ أُعْبَدَ ؟ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ :
هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسْلُهُ وَجَاحِمَةَ النَّارِ لَمْ تُضْرَمِ أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَ
قِّ عَلَى ذَوِي الْوَرَى الشُّكْرُ لِلْمُنْعِمِ ؟
فَالنُّفُوسُ الْعَلِيَّةُ الزَّكِيَّةُ تَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ ، وَيُجَلَّ وَيُحَبَّ وَيُعَظَّمَ . فَهُوَ لِذَاتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ . قَالُوا : وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كَأَجِيرِ السُّوءِ . إِنْ أُعْطِيَ أَجْرَهُ عَمِلَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَعْمَلْ . فَهَذَا عَبْدُ الْأُجْرَةِ لَا عَبْدُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ .
قَالُوا : وَالْعُمَّالُ شَاخِصُونَ إِلَى مَنْزِلَتَيْنِ : مَنْزِلَةِ الْآخِرَةِ ، وَمَنْزِلَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمُطَاعِ .
[ ص: 75 ] قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ
دَاوُدَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=25وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .
فَالزُّلْفَى مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ ، وَحُسْنُ الْمَآبِ حُسْنُ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=26لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) وَالْحُسْنَى : الْجَزَاءُ . وَالزِّيَادَةُ : مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ . وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ وَعَدَهُمَا فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ إِنْ غَلَبُوا
مُوسَى ، فَقَالُوا لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=113إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=72وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ) .
قَالُوا : وَالْعَارِفُونَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ . وَالْعُمَّالُ عَمَلُهُمْ عَلَى الثَّوَابِ وَالْأُجْرَةِ . وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا .