فصل
ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم ، وهو أن الدعاء على ذلك الوجه ؛ لم يرد في الشرع نهي عنه ، مع وجود الترغيب فيه على الجملة ، ووجود العمل به ، فإن صح أن السلف لم يعملوا به ؛ فالترك ليس
[ ص: 466 ] بموجب لحكم في المتروك ؛ إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة ، لا تحريم ولا كراهية .
وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم ، وخصوصا في العبادات ـ التي هي مسألتنا ـ ، إذ ليس لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمرا لا يدخل عليه منها دليل ؛ لأنه عين البدعة ، وهذا كذلك ، إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرا للحاضرين في آثار الصلوات دائما ، على حد ما تقام السنن ، بحيث يعد الخارج عنه خارجا عن جماعة أهل الإسلام ، متحيزا ومتميزا . . . إلى سائر ما ذكر ، وكل ما لا يدل عليه دليل فهو البدعة .
وإلى هذا ؛ فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف ! ولو كان [ هذا ] في أحد جائزين [ لما قبل ] ؛ فكيف إذا كان أمرين أحدهما متيقن أنه صحيح والآخر مشكوك فيه ؟ فيتبع المشكوك في صحته ، ويترك ما لا مرية في صحته ، ويؤلب من يتبعه ؟ ! .
ثم إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكما في المتروك إلا جواز الترك ، غير جار على أصول الشرع الثابتة .
فنقول إن هنا أصلا لهذه المسألة ، لعل الله ينفع به من أنصف في نفسه :
وذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=20703سكوت الشارع عن الحكم في مسألة أو تركه لأمر ما على ضربين :
[ ص: 467 ] أحدهما : - أن يسكت عنه أو يتركه ؛ لأنه لا داعية له تقتضيه ، ولا موجب يقرر لأجله ، ولا وقع سبب تقريره ؛ كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها ، وإنما حدثت بعد ذلك ، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين .
وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى ؛ كتضمين الصناع ، ومسألة الحرام ، والجد مع الأخوة ، وعول الفرائض ، ومنه جمع المصحف ، ثم تدوين الشرائع . . وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره ، لتقديم كلياته التي تستنبط ( بها ) منها إذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه السلام ، فلم يذكر لها حكم مخصوص .
فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع ؛ كمسائل السهو والنسيان في أجزاء العبادات .
ولا إشكال في هذا الضرب ؛ لأن أصول الشرع عتيدة ، وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي ، فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك ، بل إذا عرضت النوازل ؛ روجع بها أصولها ، فوجدت فيها ، ولا يجدها من ليس بمجتهد ، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه .
[ ص: 468 ] والضرب الثاني : أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرا ما من الأمور وموجبه المقتضى له قائم وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت ؛ إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه ؛ لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجودا ، ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا ؛ كان صريحا في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع ، إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه .
ولذلك مثال فيما نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس في سماع
أشهب وابن نافع هو غاية فيما نحن فيه ، وذلك أن مذهبه في سجود الشكر الكراهية ، وأنه ليس بمشروع ، وعليه بنى كلامه .
قال في " العتبية " : " وسئل
مالك عن
nindex.php?page=treesubj&link=1914الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا ؟ فقال : لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس ، قيل له : إن
nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر الصديق ( رضي الله عنه ) ـ فيما يذكرون ـ سجد يوم
اليمامة شكرا لله ، أفسمعت ذلك ؟ قال : ما سمعت ذلك ، وأنا أرى أنهم قد كذبوا على
أبي بكر ، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول : هذا لم تسمعه مني ، قد فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده ، أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم ؛ سمع عنهم فيه شيء ، فعليك بذلك ؛ فإنه لو كان لذكر ؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم ، فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع ، وإذا جاءك أمر لا تعرفه ؛ فدعه . . . تمام الرواية .
[ ص: 469 ] وقد احتوت على فرض سؤال والجواب بما تقدم .
وتقرير السؤال أن يقال في البدعة ـ مثلا ـ : إنها فعل سكت الشارع عن حكمه في الفعل والترك ، فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص ، فالأصل جواز فعله كما أن الأصل جواز تركه ، إذ هو معنى الجائز ، فإن كان له أصل جملي ، فأحرى أن يجوز فعله حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهته ، وإذا كان كذلك ؛ فليس هنا مخالفة لقصد الشارع ، ولا ثم دليل خالفه هذا النظر ، بل حقيقة ما نحن فيه أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع ، والسكوت عند الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ، ولا يعين الشارع قصدا ما دون ضده وخلافه ، وإذا ثبت هذا ؛ فالعمل به ليس بمخالف إذ لم يثبت في الشريعة نهي عنه .
وتقرير الجواب : معنى ما ذكره
مالك رحمه الله ، وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا ـ إذا وجد المعنى المقتضي له ـ إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان ، إذ لو كان ذلك لائقا شرعا أو سائغا ؛ لفعلوه ، فهم كانوا أحق بإدراكه والسبق إلى العمل به ، وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة ؛ فإنه لا يخلو إما أن يكون في هذه الأحداث مصلحة أو لا ، والثاني لا يقول به أحد ، والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من المصلحة الموجودة في زمان التكليف أو لا ، ولا يمكن أن يكون [ آكد ] مع كون المحدثة زيادة تكليف ونقصه عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة ؛ لما يعلم من قصور الهمم واستيلاء الكسل ، ولأنه خلاف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة ، ورفع الحرج عن الأمة ، وذلك في تكليف العبادات ؛ لأن العادات أمر آخر ـ كما سيأتي وقد مر منه ـ ، فلم يبق إلا أن
[ ص: 470 ] تكون المصلحة الظاهرة الآن مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها ، وعند ذلك تصير الأحداث عبثا أو استدراكا على الشارع ؛ لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان التشريع ؛ إن حصلت للأولين من غير هذا الإحداث ؛ [ فالإحداث ] إذا عبث ، إذ لا يصح أن يحصل للأولين دون الآخرين ، فقد صارت هذه الزيادة تشريعا بعد الشارع بسبب للآخرين ما فات الأولين ، فلم يكمل الدين إذا دونها ، ومعاذ الله من هذا المأخذ .
وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لأمر ما من غير أن يعينوا فيه وجها مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة : دليل على أن ذلك الأمر لا يعمل به ، وأنه إجماع منهم على تركه .
قال
ابن رشد في " شرح مسألة العتبية " : " الوجه في ذلك أنه لم يرد مما شرع في الدين ـ يعني : سجود الشكر ـ فرضا ولا نفلا ، إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فعله ، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله ، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الأمور " .
قال : " واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده ، بأن ذلك لو كان لنقل : صحيح ، إذ لا يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ، وقد أمر بالتبليغ " .
قال : " وهذا أصل من الأصول ، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول ، مع وجود الزكاة فيها ، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005432فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ، لأنا نزلنا ترك
[ ص: 471 ] نقل أخذ النبي عليه السلام الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها ، فكذلك نزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها " ، ثم حكى خلاف
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي والكلام عليه .
والمقصود من المسألة توجيه
مالك لها من حيث إنها بدعة ، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق .
وعلى هذا النحو جرى بعضهم في
nindex.php?page=treesubj&link=10937تحريم نكاح المحلل ، وأنه بدعة منكرة ؛ من حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا كما كان أول مرة ، وأنه لما لم يشرع ذلك ، مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه ؛ دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها .
وهو أصل صحيح ، إذا اعتبر وضح به ما نحن بصدده ؛ لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات جهرا للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحا شرعا أو جائزا ؛ لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك أن يفعله .
وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضي المشروعية ، وبنى على فرض أنه لم يأت ما يخالفه ، وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه .
أما أن الأصل الجواز ؛ فيمتنع ؛ لأن طائفة من العلماء يذهبون إلى أن
nindex.php?page=treesubj&link=27061الأشياء قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة ، فما الدليل على ما قال من الجواز ؟
وإن سلمنا له ما قال ؛ فهل هو على الإطلاق أم لا ؟ أما في العاديات
[ ص: 472 ] فمسلم ، ولا نسلم أن ما نحن فيه من العاديات ، بل من العبادات ، ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد : إنه مختلف فيه على قولين : هل هو على المنع أم هو على الإباحة ؟ بل هو أمر زائد على المنع ؛ لأن التعبديات إنما وضعها للشارع ، فلا يقال في صلاة سادسة ـ مثلا ـ إنها على الإباحة ، فللمكلف وضعها ـ على أحد القولين ـ ليتعبد بها لله ؛ لأنه باطل بإطلاق ، وهو أصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع .
ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه ؛ فلا يصح العمل به أيضا ؛ لأن ترك العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم في جميع عمره ، وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم ؛ قد تقدم أنه نص في الترك ، وإجماع من كل من ترك ؛ لأن عمل الإجماع كنصه ؛ كما أشار
مالك في كلامه .
وأيضا ؛ فما يعلل له لا يصح التعليل به :
وقد أتى الراد بأوجه منه :
( أحدها ) : أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء وأنه بآثار الصلوات مطلوب :
وما قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في الجماعات والمساجد ، وليس بسنة اتفاقا منا ومنه ، فانقلب إذا وجه التشريع .
وأيضا ؛ فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أولى ، فكانت تلك الكيفية المتكلم فيها أولى للإظهار ، ولما لم يفعله عليه الصلاة والسلام ؛ دل على ترك مع وجود المعنى المقتضي ، فلا يمكن بعد زمانه في تلك
[ ص: 473 ] الكيفية إلا الترك .
( والثاني ) : أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى الإجابة .
وهذه العلة كانت في زمانه عليه السلام ؛ لأنه لا يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه ، إذ كان مجاب الدعوة بلا إشكال ، بخلاف غيره ، وإن عظم قدره في الدين ؛ فلا يبلغ رتبته ، فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم .
وأيضا ؛ فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البركة من اجتماع يكون فيه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فكانوا بالتنبيه لهذه المنقبة أولى .
( والثالث ) : قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا يدعوا بما لا يجوز عقلا أو شرعا :
وهذا التعليل لا ينهض ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان المعلم الأول ، ومنه تلقينا ألفاظ الأدعية ومعانيها ،
nindex.php?page=treesubj&link=10027_10025_27749وقد كان من العرب من يجهل قدر الربوبية فيقول :
رب العباد ما لنا وما لك أنزل علينا الغيث لا أبا لك
وقال الآخر :
لاهم إن كنت الذي بعهدي ولم تغيرك الأمور بعدي
وقال الآخر :
[ ص: 474 ] أبني ليتي لا أحبكم وجد الإله بكم كما أجد
وهي ألفاظ يفتقر أصحابها إلى التعليم ، وكانوا أقرب عهد بجاهلية تعامل الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه ولا تنزهه كما يليق بجلاله ، فلم يشرع لهم دعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات دائما ليعلمهم أو يعينهم على التعلم إذا صلوا معه ، بل علم في مجالس التعليم ، ودعا لنفسه إثر الصلاة حين بدا له ذلك ، ولم يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة ، وهو كان أولى الخلق بذلك .
( والرابع ) : أن في الاجتماع على الدعاء تعاونا على البر والتقوى ، وهو مأمور به .
وهذا الاجتماع ضعيف ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أنزل عليه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2وتعاونوا على البر والتقوى ، وكذلك فعل ، ولو كان الاجتماع للدعاء إثر الصلاة جهرا للحاضرين من باب البر والتقوى ؛ لكان أول سابق إليه ، لكنه لم يفعله أصلا ، ولا أحد بعده ، حتى حدث ما حدث ، فدل على أنه ليس على ذلك الوجه بر ولا تقوى .
( والخامس ) : أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي ، فربما لحن ، فيكون اللحن سبب عدم الإجابة ، وحكي عن
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي في ذلك حكاية شعرية لا فقهية .
وهذا الاجتماع إلى اللعب أقرب منه إلى الجد ، وأقرب ما فيه أن أحدا من العلماء لا
nindex.php?page=treesubj&link=19742_19749_20359يشترط في الدعاء أن لا يلحن ؛ كما يشترط الإخلاص ؛
[ ص: 475 ] وصدق التوجيه ؛ وعزم المسألة . . . . وغير ذلك من الشروط .
وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء ـ وإن كان الإمام أعرف به ـ هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من أمر دينه ، فإن كان الدعاء مستحبا ؛ فالقراءة واجبة ، والفقه في الصلاة كذلك ، فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلاة مطلوبا ؛ فتعليم فقه الصلاة آكد ، فكان من حقه أن يجعل ذلك من وظائف آثار الصلاة .
فإن قيل بموجبه في المحرف المتعارف ؛ فهذه القاعدة تجتث أصله ؛ لأن السلف الصالح كانوا أحق بالسبق إلى فضله ؛ لجميع ما ذكر فيه من الفوائد ، ولذلك قال
مالك فيها : " أترى الناس اليوم كانوا أرغب في الخير ممن مضى ؟ " ، وهو إشارة إلى الأصل المذكور ، وهو أن المعنى المقتضى للإحداث ـ وهو الرغبة في الخير ـ كان أتم في السلف الصالح ، وهم لم يفعلوه ، فدل على أنه لا يفعل .
وأما ما ذكر من آداب الدعاء ؛ فكله لا يتعين له إثر الصلاة ؛ بدليل أن رسول الله عليه وسلم علم منها جملة كافية ولم يعلم منها شيئا إثر الصلاة ، ولا تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه في آخر الصلاة ، أو ليستغنوا بدعائه عن تعليم ذلك ، ومع أن الحاضرين للدعاء لا يحصل لهم في الإمام في ذلك كبير شيء ، وإن حصل فلمن كان قريبا منه دون من بعد .
فَصْلٌ
ثُمَّ أَتَى بِمَأْخَذٍ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةٍ مَا زَعَمَ ، وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ ؛ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ نَهْيٌ عَنْهُ ، مَعَ وُجُودِ التَّرْغِيبِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَوُجُودِ الْعَمَلِ بِهِ ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ ؛ فَالتَّرْكُ لَيْسَ
[ ص: 466 ] بِمُوجِبٍ لِحُكْمٍ فِي الْمَتْرُوكِ ؛ إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ خَاصَّةً ، لَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهِيَةَ .
وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ ، وَخُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ ـ الَّتِي هِيَ مَسْأَلَتُنَا ـ ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَخْتَرِعَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ رَأْيِهِ أَمْرًا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا دَلِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْبِدْعَةِ ، وَهَذَا كَذَلِكَ ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى اتِّخَاذِ الدُّعَاءِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا ، عَلَى حَدِّ مَا تُقَامُ السُّنَنُ ، بِحَيْثُ يُعَدُّ الْخَارِجُ عَنْهُ خَارِجًا عَنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، مُتَحَيِّزًا وَمُتَمَيِّزًا . . . إِلَى سَائِرِ مَا ذَكَرَ ، وَكُلُّ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَهُوَ الْبِدْعَةُ .
وَإِلَى هَذَا ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ يُوهِمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ خَيْرٌ مِنَ اتِّبَاعِ الصَّالِحِينَ مِنَ السَّلَفِ ! وَلَوْ كَانَ [ هَذَا ] فِي أَحَدِ جَائِزَيْنِ [ لَمَا قُبِلَ ] ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَيَقَّنٌ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَالْآخِرُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ؟ فَيُتَّبَعُ الْمَشْكُوكُ فِي صِحَّتِهِ ، وَيُتْرَكُ مَا لَا مِرْيَةَ فِي صِحَّتِهِ ، وَيُؤَلَّبُ مَنْ يَتَّبِعُهُ ؟ ! .
ثُمَّ إِطْلَاقُهُ الْقَوْلَ بِأَنَّ التَّرْكَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فِي الْمَتْرُوكِ إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ ، غَيْرَ جَارٍ عَلَى أُصُولِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ .
فَنَقُولُ إِنَّ هُنَا أَصْلًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ بِهِ مَنْ أَنْصَفَ فِي نَفْسِهِ :
وَذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20703سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ تَرْكِهِ لِأَمْرٍ مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
[ ص: 467 ] أَحَدُهُمَا : - أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ أَوْ يَتْرُكَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لِأَجْلِهِ ، وَلَا وَقَعَ سَبَبُ تَقْرِيرِهِ ؛ كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَاحْتَاجَ أَهْلُ الشَّرِيعَةِ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا وَإِجْرَائِهَا عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ .
وَإِلَى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فِيهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِمَّا لَمْ يَسُنُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ مِمَّا هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى ؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ ، وَمَسْأَلَةِ الْحَرَامِ ، وَالْجَدِّ مَعَ الْأِخْوَةِ ، وَعَوْلِ الْفَرَائِضِ ، وَمِنْهُ جَمْعُ الْمُصْحَفِ ، ثُمَّ تَدْوِينُ الشَّرَائِعِ . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَحْتَجْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى تَقْرِيرِهِ ، لِتَقْدِيمِ كُلِّيَّاتِهِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ ( بِهَا ) مِنْهَا إِذَا لَمْ تَقَعْ أَسْبَابُ الْحُكْمِ فِيهَا وَلَا الْفَتْوَى بِهَا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ .
فَهَذَا الضَّرْبُ إِذَا حَدَثَتْ أَسْبَابُهُ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ وَإِجْرَائِهِ عَلَى أُصُولِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَادِيَّاتِ أَوْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمِعَ ؛ كَمَسَائِلِ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي أَجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ .
وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الضَّرْبِ ؛ لِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ عَتِيدَةٌ ، وَأَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، بَلْ إِذَا عُرِضَتِ النَّوَازِلُ ؛ رُوجِعَ بِهَا أُصُولُهَا ، فَوُجِدَتْ فِيهَا ، وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ ، وَإِنَّمَا يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ .
[ ص: 468 ] وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ أَوْ يَتْرُكَ أَمْرًا مَا مِنَ الْأُمُورِ وَمُوجِبُهُ الْمُقْتَضَى لَهُ قَائِمٌ وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ ؛ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَدَّدْ فِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمْثَالِهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِشَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ الْخَاصِّ مَوْجُودًا ، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعْ وَلَا نُبِّهَ عَلَى السِّبْطَا ؛ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ ، إِذْ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّ هُنَالِكَ لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ .
وَلِذَلِكَ مِثَالٌ فِيمَا نُقِلَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي سَمَاعِ
أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ هُوَ غَايَةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ الْكَرَاهِيَةُ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، وَعَلَيْهِ بَنَى كَلَامَهُ .
قَالَ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " : " وَسُئِلَ
مَالِكٌ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=1914الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ يُحِبُّهُ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا ؟ فَقَالَ : لَا يُفْعَلُ هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ ، قِيلَ لَهُ : إِنْ
nindex.php?page=showalam&ids=1أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) ـ فِيمَا يَذْكُرُونَ ـ سَجَدَ يَوْمَ
الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ ، أَفَسَمِعْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ ، وَأَنَا أَرَى أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى
أَبِي بَكْرٍ ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَنْ يَسْمَعَ الْمَرْءُ الشَّيْءَ فَيَقُولُ : هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي ، قَدْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ ، أَفَسَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا ؟ إِذْ مَا قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ ؛ سُمِعَ عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ ، فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُ مَنْ أَمْرِ النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَجَدَ ؟ فَهَذَا إِجْمَاعٌ ، وَإِذَا جَاءَكَ أَمْرٌ لَا تَعْرِفُهُ ؛ فَدَعْهُ . . . تَمَامَ الرِّوَايَةِ .
[ ص: 469 ] وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ وَالْجَوَابُ بِمَا تَقَدَّمَ .
وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ فِي الْبِدْعَةِ ـ مَثَلًا ـ : إِنَّهَا فِعْلٌ سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ، فَلَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ عَلَى الْخُصُوصِ ، فَالْأَصْلُ جَوَازُ فِعْلِهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ تَرْكِهِ ، إِذْ هُوَ مَعْنَى الْجَائِزِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ جُمْلِيٌّ ، فَأَحْرَى أَنْ يَجُوزَ فِعْلُهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَلَيْسَ هُنَا مُخَالَفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ ، وَلَا ثَمَّ دَلِيلٌ خَالَفَهُ هَذَا النَّظَرُ ، بَلْ حَقِيقَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّهُ أَمْرٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشَّارِعِ ، وَالسُّكُوتُ عِنْدَ الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً ، وَلَا يُعَيِّنُ الشَّارِعُ قَصْدًا مَا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ؛ فَالْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ بِمُخَالِفٍ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ فِي الشَّرِيعَةِ نَهْيٌ عَنْهُ .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ : مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هُنَا ـ إِذَا وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لَهُ ـ إِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَنْ لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا شَرْعًا أَوْ سَائِغًا ؛ لَفَعَلُوهُ ، فَهُمْ كَانُوا أَحَقَّ بِإِدْرَاكِهِ وَالسَّبْقِ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ ، وَذَلِكَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْمَصْلَحَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأَحْدَاثِ مَصْلَحَةٌ أَوْ لَا ، وَالثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ ، وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْحَادِثَةُ آكَدَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّكْلِيفِ أَوْ لَا ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ [ آكَدَ ] مَعَ كَوْنِ الْمُحْدَثَةِ زِيَادَةَ تَكْلِيفٍ وَنَقْصُهُ عَنِ الْمُكَلَّفِ أَحْرَى بِالْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ ؛ لِمَا يُعْلَمُ مِنْ قُصُورِ الْهِمَمِ وَاسْتِيلَاءِ الْكَسَلِ ، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ ، وَذَلِكَ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَاتِ أَمْرٌ آخَرُ ـ كَمَا سَيَأْتِي وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ ـ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ
[ ص: 470 ] تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ الظَّاهِرَةُ الْآنَ مُسَاوِيَةً لِلْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ أَوْ أَضْعَفَ مِنْهَا ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَصِيرُ الْأَحْدَاثُ عَبْثًا أَوِ اسْتِدْرَاكًا عَلَى الشَّارِعِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ ؛ إِنْ حَصَلَتْ لِلْأَوَّلِينَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْإِحْدَاثِ ؛ [ فَالْإِحْدَاثُ ] إِذًا عَبَثٌ ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنَّ يَحْصُلَ لِلْأَوَّلِينَ دُونَ الْآخَرِينَ ، فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَشْرِيعًا بَعْدَ الشَّارِعِ بِسَبَبٍ لِلْآخِرِينَ مَا فَاتَ الْأَوَّلِينَ ، فَلَمْ يَكْمُلِ الدِّينُ إِذًا دُونَهَا ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْمَأْخَذِ .
وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَنَّ تَرْكَ الْأَوَّلِينَ لِأَمْرٍ مَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَيِّنُوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الْأَدِلَّةِ الْجُمَلِيَّةِ وَوُجُودِ الْمَظَنَّةِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَا يُعْمَلُ بِهِ ، وَأَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ .
قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ فِي " شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْعُتْبِيَّةِ " : " الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ ـ يَعْنِي : سُجُودَ الشُّكْرِ ـ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا ، إِذْ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا فَعَلَهُ ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ ، وَالشَّرَائِعُ لَا تَثْبُتُ إِلَّا مَنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ " .
قَالَ : " وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ ، بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ : صَحِيحٌ ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَتَوَفَّرَ الدَّوَاعِي عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ ، وَقَدْ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ " .
قَالَ : " وَهَذَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ ، وَعَلَيْهِ يَأْتِي إِسْقَاطُ الزَّكَاةِ مِنَ الْخُضَرِ وَالْبُقُولِ ، مَعَ وُجُودِ الزَّكَاةِ فِيهَا ، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005432فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ وَالْبَعْلُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ ، لِأَنَّا نَزَّلْنَا تَرْكَ
[ ص: 471 ] نَقْلِ أَخْذِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الزَّكَاةَ مِنْهَا كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا ، فَكَذَلِكَ نَزَلَ تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَنْ لَا سُجُودَ فِيهَا " ، ثُمَّ حَكَى خِلَافَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ تَوْجِيهُ
مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا بِدْعَةٌ ، لَا تَوْجِيهُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=10937تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ ، وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ ؛ مِنْ حَيْثُ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِلزَّوْجَيْنِ بِإِجَازَةِ التَّحْلِيلِ لِيَتَرَاجَعَا كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ ، مَعَ حِرْصِ امْرَأَةِ رِفَاعَةَ عَلَى رُجُوعِهَا إِلَيْهِ ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا .
وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ ، إِذَا اعْتُبِرَ وَضَحَ بِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدُّعَاءِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ لَوْ كَانَ صَحِيحًا شَرْعًا أَوْ جَائِزًا ؛ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ .
وَقَدْ عَلَّلَ الْمُنْكِرُ هَذَا الْمَوْضِعَ بِعِلَلٍ تَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ ، وَبَنَى عَلَى فَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ مَا يُخَالِفُهُ ، وَأَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ فِي كُلِّ مَسْكُوتٍ عَنْهُ .
أَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ ؛ فَيَمْتَنِعُ ؛ لِأَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27061الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ مِنَ الْجَوَازِ ؟
وَإِنْ سَلَّمَنَا لَهُ مَا قَالَ ؛ فَهَلْ هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ لَا ؟ أَمَّا فِي الْعَادِيَّاتِ
[ ص: 472 ] فَمُسَلَّمٌ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ ، بَلْ مِنَ الْعِبَادَاتِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَا فِيهِ تَعْبُدٌ : إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : هَلْ هُوَ عَلَى الْمَنْعِ أَمْ هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ ؟ بَلْ هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ التَّعَبُدِيَّاتِ إِنَّمَا وَضْعُهَا لِلشَّارِعِ ، فَلَا يُقَالُ فِي صَلَاةٍ سَادِسَةٍ ـ مَثَلًا ـ إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ ، فَلِلْمُكَلَّفِ وَضْعُهَا ـ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ـ لِيَتَعَبَّدَ بِهَا لِلَّهِ ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ بِإِطْلَاقٍ ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ عَلَى الشَّارِعِ .
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْعَادِيَّاتِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ ؛ فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ ، وَتَرْكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ عَلَى تَوَالِي أَزْمِنَتِهِمْ ؛ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ نَصٌّ فِي التَّرْكِ ، وَإِجْمَاعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْإِجْمَاعِ كَنَصِّهِ ؛ كَمَا أَشَارَ
مَالِكٌ فِي كَلَامِهِ .
وَأَيْضًا ؛ فَمَا يُعَلِّلُ لَهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ :
وَقَدْ أَتَى الرَّادُّ بِأَوْجَهٍ مِنْهُ :
( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الدُّعَاءَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهَ التَّشْرِيعِ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَطْلُوبٌ :
وَمَا قَالَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ سُنَّةً بِسَبَبِ الدَّوَامِ وَالْإِظْهَارِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ اتِّفَاقًا مِنَّا وَمِنْهُ ، فَانْقَلَبَ إِذًا وَجْهُ التَّشْرِيعِ .
وَأَيْضًا ؛ فَإِنَّ إِظْهَارَ التَّشْرِيعِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا أَوْلَى لِلْإِظْهَارِ ، وَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ دَلَّ عَلَى تَرْكٍ مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي ، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ زَمَانِهِ فِي تِلْكَ
[ ص: 473 ] الْكَيْفِيَّةِ إِلَّا التَّرْكُ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِيَكُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِجَابَةِ .
وَهَذِهِ الْعِلَّةُ كَانَتْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَدٌ أَسْرَعَ إِجَابَةً لِدُعَائِهِ مِنْهُ ، إِذْ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ بِلَا إِشْكَالٍ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ فِي الدِّينِ ؛ فَلَا يَبْلُغُ رُتْبَتَهُ ، فَهُوَ كَانَ أَحَقَّ بِأَنْ يَزِيدَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ زِيَادَةً إِلَى دُعَائِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ .
وَأَيْضًا ؛ فَإِنَّ قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ لَا يَكُونُ بَعْدَ زَمَانِهِ أَبْلَغَ فِي الْبَرَكَةِ مِنَ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ فِيهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، فَكَانُوا بِالتَّنْبِيهِ لِهَذِهِ الْمَنَقَبَةِ أَوْلَى .
( وَالثَّالِثُ ) : قَصْدُ التَّعْلِيمِ لِلدُّعَاءِ لِيَأْخُذُوا مِنْ دُعَائِهِ مَا يَدْعُونَ بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ لِئَلَّا يَدْعُوَا بِمَا لَا يَجُوزُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا :
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَنْهَضُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ ، وَمِنْهُ تَلَقِّينَا أَلْفَاظَ الْأَدْعِيَةِ وَمَعَانِيهَا ،
nindex.php?page=treesubj&link=10027_10025_27749وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْهَلُ قَدْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُولُ :
رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَ
وَقَالَ الْآخَرُ :
لَاهُمَّ إِنْ كُنْتَ الَّذِي بِعَهْدِي وَلَمْ تُغَيِّرْكَ الْأُمُورُ بَعْدِي
وَقَالَ الْآخَرُ :
[ ص: 474 ] أَبْنِيَّ لَيْتِي لَا أُحِبُّكُمْ وَجَدَ الْإِلَهُ بِكُمْ كَمَا أَجِدْ
وَهِيَ أَلْفَاظٌ يَفْتَقِرُ أَصْحَابُهَا إِلَى التَّعْلِيمِ ، وَكَانُوا أَقْرَبَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ تُعَامِلُ الْأَصْنَامَ مُعَامَلَةَ الرَّبِّ الْوَاحِدِ سُبْحَانَهُ وَلَا تُنَزِّهُهُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ ، فَلَمْ يُشْرِعْ لَهُمْ دُعَاءً بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا لِيُعَلِّمَهُمْ أَوْ يُعِينَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ إِذَا صَلَّوْا مَعَهُ ، بَلْ عَلَّمَ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ إِثْرَ الصَّلَاةِ حِينَ بَدَا لَهُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِذْ ذَاكَ إِلَى النَّظَرِ لِلْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ كَانَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِذَلِكَ .
( وَالرَّابِعُ ) : أَنَّ فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدُّعَاءِ تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ .
وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=2وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؛ لَكَانَ أَوَّلَ سَابِقٍ إِلَيْهِ ، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصْلًا ، وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ ، حَتَّى حَدَثَ مَا حَدَثَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِرٌّ وَلَا تَقْوَى .
( وَالْخَامِسُ ) : أَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ، فَرُبَّمَا لَحَنَ ، فَيَكُونُ اللَّحْنُ سَبَبَ عَدَمِ الْإِجَابَةِ ، وَحُكِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13721الْأَصْمَعِيِّ فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ شِعْرِيَّةٌ لَا فِقْهِيَّةٌ .
وَهَذَا الِاجْتِمَاعُ إِلَى اللَّعِبِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْجَدِّ ، وَأَقْرَبُ مَا فِيهِ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا
nindex.php?page=treesubj&link=19742_19749_20359يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ لَا يُلْحِنَ ؛ كَمَا يَشْتَرِطُ الْإِخْلَاصَ ؛
[ ص: 475 ] وَصِدْقَ التَّوْجِيهِ ؛ وَعَزْمَ الْمَسْأَلَةِ . . . . وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ .
وَتَعَلُّمَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِإِصْلَاحِ الْأَلْفَاظِ فِي الدُّعَاءِ ـ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَعْرَفَ بِهِ ـ هُوَ كَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَحَبًّا ؛ فَالْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ ، وَالْفِقْهُ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ تَعْلِيمُ الدُّعَاءِ إِثْرَ الصَّلَاةِ مَطْلُوبًا ؛ فَتَعْلِيمُ فِقْهِ الصَّلَاةِ آكَدُ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ آثَارِ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ بِمُوجِبِهِ فِي الْمُحَرَّفِ الْمُتَعَارَفِ ؛ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَجْتَثُّ أَصْلَهُ ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحَقَّ بِالسَّبْقِ إِلَى فَضْلِهِ ؛ لِجَمِيعِ مَا ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ
مَالِكٌ فِيهَا : " أَتَرَى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرْغَبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى ؟ " ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى لِلْإِحْدَاثِ ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتَمَّ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ .
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ ؛ فَكُلُّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ إِثْرَ الصَّلَاةِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ مِنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً وَلَمْ يُعَلِّمْ مِنْهَا شَيْئًا إِثْرَ الصَّلَاةِ ، وَلَا تَرَكَهُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ لِيَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ، أَوْ لِيَسْتَغْنُوا بِدُعَائِهِ عَنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ ، وَمَعَ أَنَّ الْحَاضِرِينَ لِلدُّعَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ ، وَإِنْ حَصَلَ فَلِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ بَعُدَ .