ثم نقول بعد هذا :
إن الحقيقية لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكرا ، وافترقت الفرق ، وكان الناس شيعا ، وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية ، وهي أسبق في فهم العلماء ؛ تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام .
ومع ذلك ؛ فقلما تختص بحكم دون الإضافية ، بل هما معا يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصود هذا الكتاب أن تشرح فيه ؛ بخلاف الإضافية ، فإن لها أحكاما خاصة وشرحا خاصا ـ وهو المقصود في هذا الباب ؛ إلا أن الإضافية أولا على ضربين :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=20376يقرب من الحقيقية ، حتى تكاد البدعة تعد حقيقية .
والآخر :
nindex.php?page=treesubj&link=20377يبعد منها حتى ( يكاد ) يعد سنة محضة .
ولما انقسمت هذا الانقسام ؛ صار من الأكيد على كل قسم
[ ص: 369 ] على حدته ، فلنعقد في كل واحد منهما فصولا بحسب ما يقتضيه ، وبالله التوفيق .
فصل
قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .
فخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد nindex.php?page=showalam&ids=12425وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال :
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدري أي الناس أعلم ؟ " .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على أليتيه nindex.php?page=treesubj&link=32016_28826واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث ، وهلك سائرها : فرقة آزت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازاة الملوك ، فأقاموا على دين الله بين ظهراني قومهم ، فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك ، فقتلتهم وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله [ ص: 370 ] ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال ، وترهبوا فيها ، هم الذين قال الله عز وجل ( فيهم ) : nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .
فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا .
وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين .
والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة ، واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير ذلك ، ومنه لزوم الصوامع والديارات ـ على ما كان عليه النصارى قبل الإسلام ـ مع التزام العبادة ، وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين .
ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله ( تعالى ) :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27إلا ابتغاء رضوان الله ، متصلا ومنفصلا :
فإذا بنينا على الاتصال ، فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله ، فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي : مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان .
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فما رعوها حق رعايتها ؛ يريد أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول طائفة من المفسرين ؛ لأن قصد الرضوان إذا كان
[ ص: 371 ] شرطا في العمل بما شرع لهم ؛ فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد ، فإلى أين سار بهم ؛ ساروا ، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره ؛ رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة ، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول ؛ كان ذلك اتباعا للهوى ، لا اتباعا للمشروع ، واتباع المشروع هو الذي يحصل له الرضوان ، وقصد الرضوان بذلك .
قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ، فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها ، إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعا ، وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة .
والجواب : أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع ، إذ شرط عليهم فلم يقوموا به ،
nindex.php?page=treesubj&link=20405_20385وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط ، فيعمل بها دون شرطها ؛ لم تكن عبادة على وجهها ، وصارت بدعة ؛ كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة ؛ مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها ، فحيث عرف بذلك وعلمه ؛ فلم يلتزمه ، ودأب على الصلاة دون شرطها ؛ فذلك العمل من قبيل البدع ، فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث ؛ وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته ، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ، وهو عين البدعة .
[ ص: 372 ] وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع وهو قول فريق من المفسرين ؛ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلا ، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فلم يعملوا بها بشرطها ، وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ بعث إلى الناس كافة .
وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين :
أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة .
والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية ؛ لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق ، بل لأنهم أخلوا بشرطها ، فمن لم يخل منهم بشرطها ، وعمل بها قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، حصل له فيها أجر ؛ حسبما دل عليه قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ؛ أي : أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثه ؛ وفيناه أجره .
وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية ؛ لأنها لو كانت حقيقية ؛ لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه ؛ لأن هذا حقيقة البدعة ، فلم يكن لهم بها أجر ، بل كانوا يستحقون العقاب ؛ لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه ، فدل على أنهم فعلوا ما كان جائزا لهم فعله ، فلا تكون بدعتهم حقيقية ، لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة ، وسيأتي بعد بحول الله .
وعلى كل تقدير ؛ فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم ؛ لأنه
[ ص: 373 ] نسخ في شريعتنا ،
nindex.php?page=treesubj&link=26821فلا رهبانية في الإسلام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005189من رغب عن سنتي فليس مني .
على أن
ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال :
الأول : ما تقدم .
والثاني : أن الرهبانية رفض النساء ، وهو المنسوخ في شرعنا .
والثالث : أنها اتخاذ الصوامع للعزلة .
والرابع : السياحة .
قال : " وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان " .
وظاهره يقتضي أنها بدعة ؛ لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم ، وسميت بدعة ، والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها ، فكيف يجتمعان ؟ !
ولكن للمسألة فقه يذكر بحول الله .
وقيل : إن معنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ورهبانية ابتدعوها ؛ أنهم تركوا الحق ، وأكلوا لحوم الخنازير ، وشربوا الخمر ، ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ،
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فما رعوها ؛ يعني : الطاعة والملة
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27حق رعايتها ، فالهاء راجعة إلى غير مذكور ، وهو الملة المفهوم معناها من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ؛ لأنه يفهم منه أن ثم ملة
[ ص: 374 ] متبعة ، كما دل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=31إذ عرض عليه بالعشي على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=32توارت بالحجاب ، وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه ، وإنما أمرناهم بالحق ، فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية .
وعلى كل تقدير ؛ فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة .
وخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور nindex.php?page=showalam&ids=12425وإسماعيل القاضي عن
nindex.php?page=showalam&ids=481أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : " أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ؛ فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ورهبانية ابتدعوها ، الآية .
وفي رواية : " فإن ناسا من
بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، فتلا هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27ورهبانية ابتدعوها ، إلى آخر الآية .
وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فما رعوها حق رعايتها ؛ يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها .
قال بعض نقلة التفسير : " وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل ، وأن يرعوه حق رعيه .
[ ص: 375 ] قال
ابن العربي : " وقد زاغ عن منهج الصواب من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها " .
قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ، ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ، ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر . قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل ، والله أعلم .
وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وفقه ، إذ أكثر العلماء على القول الأول ؛ فإن هذه الملة لا بدعة فيها ، ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال ؛ للقطع بالدليل أن كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ ، فالأصل أن يتبع الدليل ، ولا عمل على خلافه .
ومع ذلك ؛ فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي ، وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر ، وذلك أنه عد عمل
عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارئ واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : " نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل " .
وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما ، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما تركها خوفا من الافتراض ، فلما انقضى زمن الوحي ؛ زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه ؛ إلا أن ذلك لم يتأت
لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته ؛ لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه ، وكذلك صدر خلافة
عمر رضي الله عنه ، حتى تأتى النظر ، فوقع منه ، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم
[ ص: 376 ] يجر به عمل من تقدمه دائما ، فسماه بذلك الاسم ، لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة .
فكأن
أبا أمامة اعتبر فيه نظر ذلك العمل به ، فسماه إحداثا ؛ موافقة لتسمية
عمر رضي الله عنه ، ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب ، فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه ؛ لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ، ولا السنن الراتبة يقع على وجهين :
أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان ، فتارة ينشط لها وتارة لا ينشط ، أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها . . . . وما أشبه ذلك ؛ كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به فيتصدق ، ولا يكون له ذلك غدا ، أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء ، أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له ، أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان .
فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها ، ولا لوم عليه ، إذ لو كان ثم لوم أو عتب ؛ لم يكن تطوعا ، وهو خلاف الفرض .
والثاني : أن تأخذ مأخذ الملتزمات ؛ كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات ، كالتزام قيام حظ من الليل مثلا ، وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص ؛ كعاشوراء وعرفة ، أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداة والعشي . . . . وما أشبه ذلك .
فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ؛ أنه لما
[ ص: 377 ] نوى الدؤب عليها في الاستطاعة ؛ أشبهت الواجبات والسنن الراتبة ؛ كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع ؛ لم يصر واجبا ؛ إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة ؛ أعني : ترك الالتزام ، ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات ؛ فإنها مستحبة في الأصل ، ومن حيث صارت رواتب ؛ أشبهت السنن والواجبات .
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005349يا ابنة أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان ؛ لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ، فإما فاتتاه ؛ صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضي الواجب .
فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين ؛ إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف بحسب ما فهمنا من الشرع .
وإذا كان كذلك ؛ فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير ، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه ، أو يحرج بالتزامه ، فإن الالتزام ؛ إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء ؛ فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه ، (
nindex.php?page=treesubj&link=19489والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة ، فصار الإخلال به مكروها ) .
[ ص: 378 ] والدليل على صحة
nindex.php?page=treesubj&link=20058الأخذ بالرفق ، وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عتيدا ـ في الكتاب والسنة :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ، على قول طائفة من المفسرين : أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية ، ومعنى لعنتم لحرجتم ، ولدخلت عليكم المشقة ، ودين الله لا حرج فيه ،
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7ولكن الله حبب إليكم الإيمان ؛ بالتسهيل والتيسير ،
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وزينه في قلوبكم الآية .
وإنما
nindex.php?page=treesubj&link=28642_30984بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ، ووضع الإصر والأغلال التي كانت على غيرهم .
وقال الله تعالى في صفة نبيه عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا .
وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداء ، فقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا .
ومن الأحاديث كثير .
؛ كمسألة الوصال ، ففي الحديث عن
عائشة [ ص: 379 ] رضي الله عنها أنها قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005350نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ، قالوا : إنك تواصل ، قال : " إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني .
وعن أنس ؛ رضي الله عنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005352واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان ، فواصل ناس من المسلمين ، فبلغه ذلك ، فقال : " لو مد لنا شهر لواصلنا وصالا حتى يدع المتعمقون تعمقهم ، وهذا إنكار .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005353نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأيكم مثلي ؟ ! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال ؛ بهم يوما ، ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال : " لو تأخر الشهر لزدتكم " ؛ كالمنكل ، حين أبوا أن ينتهوا .
ومن ذلك مسألة قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في رمضان ؛ فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج ، فكان ذلك رفقا منه بهم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11872القاضي أبو الطيب : " يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة معهم ؛ فرضت عليهم " .
وقالت
عائشة رضي الله تعالى عنها : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005306إن nindex.php?page=treesubj&link=30984كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع [ ص: 380 ] العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .
وقد قيل هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005354لا تخصوا يوم الجمعة بصيام .
قال
المهلب : " وجهه : خشيت أن يستمر عليه فيفرض " .
وبهذا المعنى يجتمع النهي مع قول
مالك رضي الله عنه في الموطأ ، ولا يكون فيه إشكال .
ومن ذلك حديث
الحولاء بنت تويت ؛ قالت
عائشة رضي الله عنها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005355دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة ، فقال : " من هذه ؟ " ، فقلت : امرأة لا تنام تصلي ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تنام الليل ! nindex.php?page=treesubj&link=28642خذوا من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .
فأعاد لفظ " لا تنام " منكرا عليها ـ والله أعلم ـ ، غير راض فعلها ؛ لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق آكد .
ونحوه حديث
أنس رضي الله عنه ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005356دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ـ وحبل ممدود بين ساريتين ـ ، فقال : ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب تصلي ، فإذا كسلت أو فترت ؛ أمسكت به ، فقال : " حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر ؛ قعد .
وفي رواية : لا ، حلوه .
[ ص: 381 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005357بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أصوم أسرد ، وأصلي الليل ، فإما أرسل إلي وإما لقيته ، فقال : " ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلي الليل ؟ ! فلا تفعل ؛ فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ، ولأهلك حظا ، فصم وأفطر ، وصل ونم . . . ، الحديث .
وفي رواية عن
أبي سلمة ؛ قال : حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005358كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ، فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإما أرسل إلي فأتيته ، فقال : " ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ ! ، فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أر في ذلك إلا الخير ، قال : " فإن كان كذلك ، أو قال : كذلك ) ؛ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام " ، قلت : يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : " فإن لزوجك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا " ، قال : nindex.php?page=treesubj&link=31962فصم صوم داود نبي الله ؛ فإنه كان أعبد الناس " ، قال : فقلت يا نبي الله ـ وما صوم داود ؟ قال : " كان يصوم يوما ويفطر يوما " ، قال : " واقرأ القرآن في كل شهر " ، قال : فقلت يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك . قال : فاقرأه في كل عشرين ، قال : قلت : يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : " فاقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك ؛ فإن لزوجك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا ، قال : فشددت فشدد ( الله ) علي ، قال : وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر " ، قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كبرت ؛ وددت أني كنت [ ص: 382 ] قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم .
وفي رواية قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005359صم يوما وأفطر يوما ، وذلك صيام داود ، وهو أعدل الصيام ، قال : قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أفضل من ذلك ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو : لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي
وفي
الترمذي عن
جابر رضي الله عنه ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005360ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد ، وذكر عنده آخر برعة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يعدل بالرعة ، والرعة : المراد بها هنا الرفق والتيسير .
قال فيه
الترمذي : حسن غريب .
وعن
أنس رضي الله عنه ؛ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005361جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا ؛ كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وقد غفر ( الله ) له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ! فقال أحدهم : أما أنا ؛ فإني أصلي الليل أبدا ، وقال الآخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ ! أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .
[ ص: 383 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير ، وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام ، وإن تصور مع الالتزام ؛ فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن .
ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا :
إِنَّ الْحَقِيقِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ أَكْثَرَ وَأَعَمَّ وَأَشْهَرَ فِي النَّاسِ ذِكْرًا ، وَافْتَرَقَتِ الْفِرَقُ ، وَكَانَ النَّاسُ شِيَعًا ، وَجَرَى مِنْ أَمْثِلَتِهَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ ، وَهِيَ أَسْبَقُ فِي فَهْمِ الْعُلَمَاءِ ؛ تَرَكْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ .
وَمَعَ ذَلِكَ ؛ فَقَلَّمَا تَخْتَصُّ بِحُكْمٍ دُونَ الْإِضَافِيَّةِ ، بَلْ هُمَا مَعًا يَشْتَرِكَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ تُشْرَحَ فِيهِ ؛ بِخِلَافِ الْإِضَافِيَّةِ ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً وَشَرْحًا خَاصًّا ـ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ إِلَّا أَنَّ الْإِضَافِيَّةَ أَوَّلًا عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=20376يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ ، حَتَّى تَكَادَ الْبِدْعَةُ تُعَدُّ حَقِيقِيَّةً .
وَالْآخَرُ :
nindex.php?page=treesubj&link=20377يَبْعُدُ مِنْهَا حَتَّى ( يَكَادَ ) يُعَدُّ سُنَّةً مَحْضَةً .
وَلَمَّا انْقَسَمَتْ هَذَا الِانْقِسَامَ ؛ صَارَ مِنَ الْأَكِيدِ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ
[ ص: 369 ] عَلَى حِدَتِهِ ، فَلْنَعْقِدْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُصُولًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ .
فَخَرَّجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16298عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ nindex.php?page=showalam&ids=12425وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ قَالَ :
قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمَ ؟ " .
قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : " أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ nindex.php?page=treesubj&link=32016_28826وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا : فِرْقَةٌ آزَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حَتَّى قُتِلُوا ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ ، فَأَقَامُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ ، فَقَتَلَتْهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ [ ص: 370 ] وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا ، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ( فِيهِمْ ) : nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ .
فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُوا بِي وَالْفَاسِقُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَحَجَدُوا .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الْكُوفِيِّينَ .
وَالرَّهْبَانِيَّةُ فِيهِ بِمَعْنَى اعْتِزَالِ الْخَلْقِ فِي السِّيَاحَةِ ، وَاطِّرَاحِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ لُزُومُ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ ـ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ ـ مَعَ الْتِزَامِ الْعِبَادَةِ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ ( تَعَالَى ) :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا :
فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى الِاتِّصَالِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ : مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِمَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ ـ أَيْ : مِمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ ـ لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ الرِّضْوَانِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رِعَايَتَهَا حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الرِّضْوَانِ إِذَا كَانَ
[ ص: 371 ] شَرْطًا فِي الْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُمْ ؛ فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا ذَلِكَ الْقَصْدَ ، فَإِلَى أَيْنَ سَارَ بِهِمْ ؛ سَارُوا ، وَإِنَّمَا شَرَعَ لَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ إِذَا نُسِخَ بِغَيْرِهِ ؛ رَجَعُوا إِلَى مَا أَحْكَمَ وَتَرَكُوا مَا نُسِخَ ، وَهُوَ مَعْنَى ابْتِغَاءَ الرِّضْوَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَصَرُّوا عَلَى الْأَوَّلِ ؛ كَانَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى ، لَا اتِّبَاعًا لِلْمَشْرُوعِ ، وَاتِّبَاعُ الْمَشْرُوعِ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الرِّضْوَانُ ، وَقَصْدُ الرِّضْوَانَ بِذَلِكَ .
قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ، فَالَّذِينَ آمِنُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، وَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا بِشَرْطِهَا ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَشْرُوعَ لَهُمْ يُسَمَّى ابْتِدَاعًا ، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدُّ الْبِدْعَةِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّهُ يُسَمَّى بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ أَخَلُّوا بِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ ، إِذْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20405_20385وَإِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوطَةً بِشَرْطٍ ، فَيَعْمَلُ بِهَا دُونَ شَرْطِهَا ؛ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً عَلَى وَجْهِهَا ، وَصَارَتْ بِدْعَةً ؛ كَالْمُخِلِّ قَصْدًا بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ؛ مِثْلَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوِ الطَّهَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا ، فَحَيْثُ عَرَفَ بِذَلِكَ وَعَلِمَهُ ؛ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَدَأَبَ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ شَرْطِهَا ؛ فَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ ، فَيَكُونُ تَرَهُّبُ النَّصَارَى صَحِيحًا قَبْلَ بَعْثِ
مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا بُعِثَ ؛ وَجَبَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى مِلَّتِهِ ، فَالْبَقَاءُ عَلَيْهِ مَعَ نَسْخِهِ بَقَاءً عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالشَّرْعِ ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ .
[ ص: 372 ] وَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ؛ فَالْمَعْنَى : مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أَصْلًا ، وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا بِشَرْطِهَا ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذْ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً .
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ .
وَالثَّانِي : يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إِضَافِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَذْمُومَةً فِي حَقِّهِمْ بِإِطْلَاقٍ ، بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَلُّوا بِشَرْطِهَا ، فَمَنْ لَمْ يُخِلَّ مِنْهُمْ بِشَرْطِهَا ، وَعَمَلِ بِهَا قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَصَلَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؛ حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ؛ أَيْ : أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ ؛ وَفَّيْنَاهُ أَجْرَهُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إِنَّهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إِضَافِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً ؛ لَخَالَفُوا بِهَا شَرْعَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهَا أَجْرٌ ، بَلْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ ؛ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ فِعْلُهُ ، فَلَا تَكُونُ بِدْعَتُهُمْ حَقِيقِيَّةً ، لَكِنَّهُ يُنْظَرُ عَلَى أَيِّ مَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبِدْعَةِ ، وَسَيَأْتِي بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ .
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ؛ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ حُكْمٌ ؛ لِأَنَّهُ
[ ص: 373 ] نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا ،
nindex.php?page=treesubj&link=26821فَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005189مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
عَلَى أَنَّ
ابْنَ الْعَرَبِيِّ نَقَلَ فِي الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ رَفْضُ النِّسَاءِ ، وَهُوَ الْمَنْسُوخُ فِي شَرْعِنَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ .
وَالرَّابِعُ : السِّيَاحَةُ .
قَالَ : " وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ " .
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ تَرَهَّبُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ ، وَسُمِّيَتْ بِدْعَةً ، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنْ لَا ابْتِدَاعَ فِيهَا ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ ؟ !
وَلَكِنْ لِلْمَسْأَلَةِ فِقْهُ يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ .
وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ؛ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحَقَّ ، وَأَكَلُوا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ ، وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنْ جَنَابَةٍ ، وَتَرَكُوا الْخِتَانَ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فَمَا رَعَوْهَا ؛ يَعْنِي : الطَّاعَةَ وَالْمِلَّةَ
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27حَقَّ رِعَايَتِهَا ، فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ ، وَهُوَ الْمِلَّةُ الْمَفْهُومُ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ثَمَّ مِلَّةٌ
[ ص: 374 ] مُتَّبَعَةٌ ، كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=31إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ عَلَى الشَّمْسِ حَتَّى عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=32تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلُوهُ ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ ، فَالْبِدْعَةُ فِيهِ إِذًا حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضَافِيَّةٌ .
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ؛ فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، فَلَا نَظَرَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ .
وَخَرَّجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16000سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ nindex.php?page=showalam&ids=12425وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=481أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ، فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إِذْ فَعَلْتُمُوهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ ؛ فَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ، الْآيَةَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : " فَإِنَّ نَاسًا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=27فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَدُومُوا عَلَيْهَا .
قَالَ بَعْضُ نَقْلَةِ التَّفْسِيرِ : " وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ لُزُومُ الْإِتْمَامِ لِكُلِّ مَنْ بَدَأَ بِتَطَوُّعٍ وَنَفْلٍ ، وَأَنْ يَرْعَوْهُ حَقَّ رَعْيِهِ .
[ ص: 375 ] قَالَ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ : " وَقَدْ زَاغَ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنِ الْتَزَمُوهَا " .
قَالَ : وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا عَنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ ، وَلَا يُعْطِيهِ أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إِلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ . قَالَ : وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إِذَا بَنَيْنَا الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ ، إِذْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ لَا بِدْعَةَ فِيهَا ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِحَالٍ ؛ لِلْقَطْعِ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ ، فَالْأَصْلُ أَنْ يُتْبَعَ الدَّلِيلُ ، وَلَا عَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ .
وَمَعَ ذَلِكَ ؛ فَلَا نُخَلِّي ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ قَوْلَ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ عَلَى وِفْقِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بُعْدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَدَّ عَمَلَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمْعِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ بِدْعَةً لِقَوْلِهِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ : " نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ " .
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهَا بِاعْتِبَارٍ مَا ، وَأَنَّ قِيَامَ الْإِمَامِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ ، فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ ؛ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَعَادَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى نِصَابِهِ ؛ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَتَّ
لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانَ خِلَافَتِهِ ؛ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حَتَّى تَأَتَّى النَّظَرُ ، فَوَقَعَ مِنْهُ ، لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ
[ ص: 376 ] يَجْرِ بِهِ عَمَلُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا ، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ ، لَا أَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ .
فَكَأَنَّ
أَبَا أُمَامَةَ اعْتَبَرَ فِيهِ نَظَرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ بِهِ ، فَسَمَّاهُ إِحْدَاثًا ؛ مُوَافَقَةً لِتَسْمِيَةِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ تَرْكَ الرِّعَايَةِ هُوَ تُرْكُ دَوَامِهِمْ عَلَى الْتِزَامِ عَمَلٍ لَيْسَ بِمَكْتُوبٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ ، فَلَمْ يُوفُوا بِمُقْتَضَى مَا الْتَزَمُوهُ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي التَّطَوُعَاتِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ ، وَلَا السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ تُؤْخَذَ عَلَى أَصْلِهَا فِيمَا اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ ، فَتَارَةً يَنْشَطُ لَهَا وَتَارَةً لَا يَنْشَطُ ، أَوْ يُمْكِنُهُ تَارَةً بِحَسْبِ الْعَادَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ أُخْرَى لِمُزَاحَمَةِ أَشْغَالٍ وَنَحْوِهَا . . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ كَالرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيَتَصَدَّقُ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ غَدًا ، أَوْ يَكُونُ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْشَطُ لِلْعَطَاءِ ، أَوْ يَرَى إِمْسَاكَهُ أَصْلَحَ فِي عَادَتِهِ الْجَارِيَةِ لَهُ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الطَّارِئَةِ لِلْإِنْسَانِ .
فَهَذَا الْوَجْهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ تَرَكَ التَّطَوُعَاتِ كُلَّهَا ، وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ ، إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ لَوْمٌ أَوْ عُتْبٌ ؛ لَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَأْخُذَ مَأْخَذَ الْمُلْتَزِمَاتِ ؛ كَالرَّجُلِ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ وَظِيفَةً رَاتِبَةً مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ ، كَالْتِزَامِ قِيَامِ حَظٍّ مِنَ اللَّيْلِ مَثَلًا ، وَصِيَامِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ لِفَضْلٍ ثَبَتَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ كَعَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ ، أَوْ يَتَّخِذُ وَظِيفَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ . . . . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
فَهَذَا الْوَجْهُ أَخَذَتْ فِيهِ التَّطَوُعَاتُ مَأْخَذَ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وَجْهٍ ؛ أَنَّهُ لَمَّا
[ ص: 377 ] نَوَى الدَّؤُبَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ ؛ أَشْبَهَتِ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِيجَابُ غَيْرَ لَازِمٍ بِالشَّرْعِ ؛ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا ؛ إِذْ تَرْكُهُ أَصْلًا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ أَعْنِي : تَرْكَ الِالْتِزَامِ ، وَنَظِيرُهُ عِنْدَنَا النَّوَافِلُ الرَّاتِبَةُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ ؛ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَصْلِ ، وَمِنْ حَيْثُ صَارَتْ رَوَاتِبَ ؛ أَشْبَهَتِ السُّنَنَ وَالْوَاجِبَاتِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حِينَ صَلَّاهُمَا فَسُئِلَ عَنْهُمَا فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005349يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ ! سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ؟ أَتَى نَاسٌ مِنْ عَبَدَ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، فَهُمَا هَاتَانِ ؛ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاتِهِ لَهُمَا بَعْدَ مَا نَهَى عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ كَالنَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ ، فَإِمَّا فَاتَتَاهُ ؛ صَلَّاهُمَا بَعْدَ وَقْتِهِمَا كَالْقَضَاءِ لَهُمَا حَسْبَمَا يَقْضِي الْوَاجِبُ .
فَصَارَ حِينَئِذٍ لِهَذَا النَّوْعِ حَالَةٌ مِنَ التَّطَوُّعِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ ؛ إِلَّا أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ بِحَسَبَ مَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ أَيْضًا الْأَخْذَ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ ، وَأَنْ لَا يُلْزَمَ الْمُكَلَّفُ مَا لَعَلَّهُ يَعْجِزُ عَنْهُ ، أَوْ يَحْرَجُ بِالْتِزَامِهِ ، فَإِنْ الِالْتِزَامَ ؛ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْقَدْرِ الَّذِي يُكْرَهُ ابْتِدَاءً ؛ فَهُوَ يَقْرُبُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، (
nindex.php?page=treesubj&link=19489وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَصَارَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا ) .
[ ص: 378 ] وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ
nindex.php?page=treesubj&link=20058الْأَخْذِ بِالرِّفْقِ ، وَأَنَّهُ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى ـ وَإِنْ كَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ أَيْضًا مَطْلُوبًا عَتِيدًا ـ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ، عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ : أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَمْرِ وَاقِعٌ فِي التَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَمَعْنَى لَعَنِتُّمْ لَحَرَجْتُمْ ، وَلَدَخَلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةُ ، وَدِينُ اللَّهِ لَا حَرَجَ فِيهِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ ؛ بِالتَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْآيَةَ .
وَإِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=28642_30984بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=128عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=185يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=28يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا .
وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الْأَخْذَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ اعْتِدَاءً ، فَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا .
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ .
؛ كَمَسْأَلَةِ الْوِصَالِ ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ
عَائِشَةَ [ ص: 379 ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005350نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ ، قَالُوا : إِنَّكَ تُوَاصِلُ ، قَالَ : " إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ ، إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي .
وَعَنْ أَنَسٍ ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005352وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : " لَوْ مُدَّ لَنَا شَهْرٌ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا حَتَّى يَدَعَ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ ، وَهَذَا إِنْكَارٌ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005353نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَيُّكُمْ مِثْلِي ؟ ! إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ ؛ بِهِمْ يَوْمًا ، ثُمَّ يَوْمًا ، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ ، فَقَالَ : " لَوْ تَأَخَّرَ الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ " ؛ كَالْمُنَكِّلِ ، حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا .
وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ ؛ فَإِنَّهُ تَرَكَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ ، فَكَانَ ذَلِكَ رِفْقًا مِنْهُ بِهِمْ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11872الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ : " يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ وَاصَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ ؛ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ " .
وَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005306إِنْ nindex.php?page=treesubj&link=30984كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعَ [ ص: 380 ] الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005354لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ .
قَالَ
الْمُهَلَّبُ : " وَجْهُهُ : خَشِيتُ أَنْ يُسْتَمَرَّ عَلَيْهِ فَيُفْرَضَ " .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَجْتَمِعُ النَّهْيُ مَعَ قَوْلِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ إِشْكَالٌ .
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ
الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ ؛ قَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005355دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ ، فَقَالَ : " مَنْ هَذِهِ ؟ " ، فَقُلْتُ : امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ تُصَلِّي ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَنَامُ اللَّيْلَ ! nindex.php?page=treesubj&link=28642خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا .
فَأَعَادَ لَفْظَ " لَا تَنَامُ " مُنْكِرًا عَلَيْهَا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ ، غَيْرَ رَاضٍ فِعْلَهَا ؛ لِمَا خَافَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَلَلِ وَالسَّآمَةِ أَوْ تَعْطِيلِ حَقٍّ آكَدٍ .
وَنَحْوُهُ حَدِيثُ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005356دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ـ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ ـ ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ " ، قَالُوا : حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي ، فَإِذَا كَسَلَتْ أَوْ فَتَرَتْ ؛ أَمْسَكَتْ بِهِ ، فَقَالَ : " حُلُّوهُ ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ ، فَإِذَا كَسَلَ أَوْ فَتَرَ ؛ قَعَدَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : لَا ، حُلُّوهُ .
[ ص: 381 ] وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005357بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَصُومُ أُسْرِدُ ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ ، فَقَالَ : " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ لَا تُفْطِرُ وَتَصِلِي اللَّيْلَ ؟ ! فَلَا تَفْعَلْ ؛ فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا ، وَلِنَفْسِكِ حَظًّا ، وَلِأَهْلِكَ حَظًّا ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ ، وَصَلِّ وَنَمْ . . . ، الْحَدِيثَ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ ؛ قَالَ : حَدَّثَنِي
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005358كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ ، فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ ، فَقَالَ : " أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ ؟ ! ، فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ ، قَالَ : " فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ، أَوْ قَالَ : كَذَلِكَ ) ؛ فَحَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " ، قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا " ، قَالَ : nindex.php?page=treesubj&link=31962فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ " ، قَالَ : فَقَلَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ـ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ ؟ قَالَ : " كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا " ، قَالَ : " وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ " ، قَالَ : فَقَلَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِجَسَدِكِ عَلَيْكَ حَقًّا ، قَالَ : فَشَدَّدْتُ فَشَدَّدَ ( اللَّهُ ) عَلَيَّ ، قَالَ : وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ " ، قَالَ : فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا كَبِرْتُ ؛ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ [ ص: 382 ] قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005359صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِيَ
وَفِي
التِّرْمِذِيِّ عَنْ
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005360ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ ، وَذُكِرَ عِنْدِهِ آخَرٌ بِرِعَةٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يُعْدَلُ بِالرِّعَةِ ، وَالرِّعَةُ : الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّفْقُ وَالتَّيْسِيرُ .
قَالَ فِيهِ
التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ
أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005361جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا ؛ كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا ، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَقَدْ غَفَرَ ( اللَّهُ ) لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ ! فَقَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا ؛ فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ الْآخَرُ : إِنِّي أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إِنِّي أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ ! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
[ ص: 383 ] وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ، وَهِيَ بِجُمْلَتِهَا تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ عَدَمِ الِالْتِزَامِ ، وَإِنْ تُصُوِّرَ مَعَ الِالْتِزَامِ ؛ فَعَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ فِيهِ حَسْبَمَا نُفَسِّرُهُ الْآنَ .