وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه ! قالوا : لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء ! ! وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين ! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص ! ! وهذا
[ ص: 679 ] من غلطات بعض الشيوخ . فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام - فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية ، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم ، حتى إن الفلاسفة تقول : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات ! ! هذا وهم مشركون .
وجواب الشبهة بمنع المقدمتين : فإن قولهم عن المشيئة الإلهية : إما أن تقتضيه أو لا ، ثم قسم ثالث ، وهو : أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه ، وقد يكون الدعاء من شرطه ، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ، ولا توجبه مع عدمه ، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب ، ولا توجبه مع عدمهما ، وحصول الولد بالوطء ، والزرع بالبذر . فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب . فقول هؤلاء - كما أنه مخالف للشرع ، فهو مخالف للحس والفطرة .
ومما ينبغي أن يعلم ،
nindex.php?page=treesubj&link=19653ما قاله طائفة من العلماء ، وهو : أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ! ومحو الأسباب أن تكون أسبابا ، نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع . ومعنى التوكل والرجاء ، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع .
وبيان ذلك : أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ،
[ ص: 680 ] ورجاؤه والاستناد إليه . وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ، لأنه ليس بمستقل ، ولا بد له من شركاء وأضداد مع هذا كله ، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر .
وقولهم : إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء ؟ قلنا : بل قد تكون إليه حاجة ، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة ، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة .
وكذلك قولهم : وإن لم تقتضه ، فلا فائدة فيه ؟ قلنا : بل فيه فوائد عظيمة ، من جلب منافع ، ودفع مضار ، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ما يعجل للعبد ، من معرفته بربه ، وإقراره به ، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم ، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه ، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية ، التي هي من أعظم المطالب .
فإن قيل : إذا كان إعطاء الله معللا بفعل العبد ، كما يعقل من إعطاء المسئول للسائل ، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه ؟ !
قلنا :
nindex.php?page=treesubj&link=19732الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه ، فهذا الخير منه ، وتمامه عليه . كما قال
عمر رضي الله عنه : إني لا أحمل هم الإجابة ، وإنما أحمل هم الدعاء ، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه . وعلى هذا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ فصلت : 5 ] . فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بالتدبير ، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره ، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ، ويجعلها سببا للخير
[ ص: 681 ] الذي يعطيه إياه ، كما في العمل والثواب ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها ، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه ، فما أثر فيه شيء من المخلوقات ، بل هو جعل ما يفعله سببا لما يفعله . قال
nindex.php?page=showalam&ids=17098مطرف بن عبد الله بن الشخير ، أحد أئمة التابعين : نظرت في هذا الأمر ، فوجدت مبدأه من الله ، وتمامه على الله ، ووجدت ملاك ذلك الدعاء .
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ! قَالُوا : لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ إِنِ اقْتَضَتْ وُجُودَ الْمَطْلُوبِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ ، وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ ! ! وَقَدْ يَخُصُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ خَوَاصَّ الْعَارِفِينَ ! وَيَجْعَلُ الدُّعَاءَ عِلَّةً فِي مَقَامِ الْخَوَاصِّ ! ! وَهَذَا
[ ص: 679 ] مِنْ غَلَطَاتِ بَعْضِ الشُّيُوخِ . فَكَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ - فَهُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الدُّعَاءِ أَمْرٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ تَجَارِبُ الْأُمَمِ ، حَتَّى إِنَّ الْفَلَاسِفَةَ تَقُولُ : ضَجِيجُ الْأَصْوَاتِ فِي هَيَاكِلِ الْعِبَادَاتِ ، بِفُنُونِ اللُّغَاتِ ، يُحَلِّلُ مَا عَقَدَتْهُ الْأَفْلَاكُ الْمُؤَثِّرَاتُ ! ! هَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ .
وَجَوَابُ الشُّبْهَةِ بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ : فَإِنَّ قَوْلَهُمْ عَنِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ : إِمَّا أَنْ تَقْتَضِيَهُ أَوْ لَا ، ثُمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ : أَنْ تَقْتَضِيَهُ بِشَرْطٍ لَا تَقْتَضِيهِ مَعَ عَدَمِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ الدُّعَاءُ مِنْ شَرْطِهِ ، كَمَا تُوجِبُ الثَّوَابَ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِ ، وَكَمَا تُوجِبُ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَلَا تُوجِبُهُ مَعَ عَدَمِهِمَا ، وَحُصُولَ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ ، وَالزَّرْعَ بِالْبَذْرِ . فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ ، كَمَا لَا يُقَالُ لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْبَذْرِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ . فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ - كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْفِطْرَةِ .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19653مَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ : أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ ! وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا ، نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ . وَمَعْنَى التَّوَكُّلِ وَالرَّجَاءِ ، يَتَأَلَّفُ مِنْ وُجُوبِ التَّوْحِيدِ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَى السَّبَبِ هُوَ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ ،
[ ص: 680 ] وَرَجَاؤُهُ وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ . وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شُرَكَاءَ وَأَضْدَادٍ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ، فَإِنْ لَمْ يُسَخِّرْهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ لَمْ يُسَخَّرْ .
وَقَوْلُهُمْ : إِنِ اقْتَضَتِ الْمَشِيئَةُ الْمَطْلُوبَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الدُّعَاءِ ؟ قُلْنَا : بَلْ قَدْ تَكُونُ إِلَيْهِ حَاجَةٌ ، مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلِحَةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ ، وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : وَإِنْ لَمْ تَقْتَضِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ؟ قُلْنَا : بَلْ فِيهِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ ، مِنْ جَلْبِ مَنَافِعَ ، وَدَفْعِ مَضَارَّ ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ مَا يُعَجِّلُ لِلْعَبْدِ ، مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ ، وَبِأَنَّهُ سُمَيْعٌ قَرِيبٌ قَدِيرٌ عَلِيمٌ رَحِيمٌ ، وَإِقْرَارِهِ بِفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَاضْطِرَارِهِ إِلَيْهِ ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كَانَ إِعْطَاءُ اللَّهِ مُعَلَّلًا بِفِعْلِ الْعَبْدِ ، كَمَا يُعْقَلُ مِنْ إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِلسَّائِلِ ، كَانَ السَّائِلُ قَدْ أَثَّرَ فِي الْمَسْئُولِ حَتَّى أَعْطَاهُ ؟ !
قُلْنَا :
nindex.php?page=treesubj&link=19732الرَّبُّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي حَرَّكَ الْعَبْدَ إِلَى دُعَائِهِ ، فَهَذَا الْخَيْرُ مِنْهُ ، وَتَمَامُهُ عَلَيْهِ . كَمَا قَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ ، وَإِنَّمَا أَحْمِلُ هَمَّ الدُّعَاءِ ، وَلَكِنْ إِذَا أُلْهِمْتُ الدُّعَاءَ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ . وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=5يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [ فُصِّلَتْ : 5 ] . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّدْبِيرِ ، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ الَّذِي دَبَّرَهُ ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يَقْذِفُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ حَرَكَةَ الدُّعَاءِ ، وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِلْخَيْرِ
[ ص: 681 ] الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ ، كَمَا فِي الْعَمَلِ وَالثَّوَابِ ، فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ ، وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ ، فَمَا أَثَّرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، بَلْ هُوَ جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=17098مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ : نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ ، فَوَجَدْتُ مَبْدَأَهُ مِنَ اللَّهِ ، وَتَمَامَهُ عَلَى اللَّهِ ، وَوَجَدْتُ مِلَاكَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ .