الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل لي أن أرفض الخاطب بسبب سوء خلق أمه؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة في سنتي الأخيرة من الجامعة، تقدم لي خطاب كثر، رفضت كثيرًا بدافع الدين والخلق والتعليم، ولكن مؤخرًا تقدم لخطبتي رجلان من ذوي الدين والخلق، الأول متمٌّ لكتاب الله -عز وجل-، أعجبني ذلك، ولكنني فور استخارتي شعرت بالضيق الشديد، لا أعلم له سببًا، بعدها أخبرني والدي بأنه واجه نفس الأمر، رغم سعيه للسؤال عنه، بعدها رفضه والدي واستأذنني في ذلك، فوافقته، وقلت لعله قضاء وقدر، والحمد لله أن صرفه عني قبل أن أراه ويدخل شيء في قلبي.

ما إن رفضته حتى تقدم لي رجل آخر، على قدر من الدين والخلق، لكنه لا يحفظ شيئًا من القرآن، أعجبتني صفاته، لكن بعد السؤال تبين لي أني أعرف أهله، وأعلم بسوء خلق أمه، وقد حصلت لي مواقف معها حيث لم أرتح كثيرًا، وفكرت بيني وبين نفسي أنهم يختلفون عنه في مستوى التدين، وأعرف نفسي بأني شديدة التأثر بمن حولي، فإذا أحطتها بالصالحين صلحت معهم، والعكس، فخشيت على نفسي ضياع الدين، بعد أن تمكنت من نفسي -بفضل الله- مؤخرًا.

استخرت، وبعدها أخبرني أحدهم بسوء خلق والدته مع الناس، ونصح برفضه، فرفضه والداي، فوافقتهما مقدرة أنهما لا بد أن يكونا أعلم مني في هذا الأمر وأشد مصلحة.

ردد علي جمع من أهلي أن هذا ما قدره، الله لي وسيأتيني من هو أحسن منهما، وعندما يكون ذلك فكل شيء سيكون ميسرًا، وسنرتاح للخاطب منذ الوهلة الأولى، فهل ذلك الأمر صحيح؟

والآن أنا أفكر -وأخشى أن يدخل الشيطان عليَّ من هذا المدخل- هل رفضي لهؤلاء ينافي حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد عريض)؟ وهل ما حصل لي بعد الاستخارة مكتوب لي، ومن سأتزوجه -إن شاء الله- سييسر لي ربي أمره؟ وكنت أفكر: هل لي رفض الخاطب لأسباب اجتماعية، مثل سوء خلق أمه، خصوصًا بعد ما عرفت أنني سأسكن معها في بيت واحد؟

جزاكم الله خيرًا، وبارك فيكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سارة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختنا الكريمة- في إسلام ويب، ونشكر لكِ ثقتكِ بموقعنا، ونسأل الله لكِ دوام التوفيق، وأن يُعطيكِ من الخير ما تتمنين، ويصرف عنكِ كل مكروه، آمين.

من خلال استشارتكِ رأيتُ ما يدل على مدى تدينكِ ورجاحة عقلكِ، وحرصكِ على أن يكون زواجكِ مبنيًّا على أسس صحيحة، ترضي الله تعالى، وهذا من توفيق الله لكِ، فأسأل الله أن يكتب لكِ الخير حيث كان، وأن يرضيكِ به.

كوني على يقينٍ أن الزواج قدرٌ ونصيبٌ مكتوبٌ لكِ من قبل أن تُخلقي، وكل أمرٍ في هذا الكون يسير وفق قضاء الله وقدره، كما قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وقال عليه الصلاة والسلام: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، ولما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل شيء بقضاءٍ وقدرٍ حتى العجز والكيس)، والكيس: الفطنة.

رزقكِ في هذا المجال سيأتيكِ في الوقت الذي قدّره الله لكِ، وبالشخص الذي قدّره الله ليكون زوجًا لكِ، وقدر الله نافذ وفيه كل الخير، فمن كان من نصيبكِ فلن يستطيع أحد أن يمنعكِ منه، ومن ليس نصيبكِ فلن تحصلي عليه مهما بذلتِ، وما عليكِ إلا العمل بالأسباب الشرعية، التي تجعلكِ عزيزة كريمة مطلوبة، وتُبعدكِ أن تكوني ذليلة طالبة.

احرصي على أن يتوفّر فيمن سيتقدّم لكِ أن يكون صاحب دينٍ وخلقٍ، قبل النظر في أي صفةٍ أخرى؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)، فالدين والخلق صفتان متلازمتان لا تنفكان أبدًا، وهما صمام أمانٍ للحياة الزوجية السعيدة، وصاحب الدين والخلق إن أحب زوجته أكرمها، وإن كرهها سرّحها بإحسان.

ينبغي التحري في صفات من سيتقدّم لكِ، ولا تكتفوا بمجرد الظاهر، أو تزكية بعض الناس الذين لم يُعايشوا ذلك الشخص، فالسؤال مع التحري والتأني مهم جدًا، والتفريط في ذلك يسبب كوارث لا نهاية لها، وتعاسة تجلب الندم والحسرة، وبعد البحث عن الصفات تأتي الاستخارة، فهي لا تقلّ أهمية عن الخطوة السابقة، ولا عن الاستشارة، فقد قيل: "ما خاب من استخار، وما ندم من استشار" والاستخارة تعني تفويض الأمر لله، ليختار لكِ ما فيه الخير في دينكِ ودنياكِ.

لا يلزم في حال حصول الاستخارة أن يرى المستخير رؤيا بعدها، أو يشعر بانشراحٍ أو ضيقٍ دائمٍ ظاهر، لكن ما حدث معكِ من شعورٍ بالضيق دون سببٍ ظاهر، وتوافق إحساسكِ مع إحساس والدكِ، هو علامة قوية على أن الله صرف عنكِ هذا الخاطب لحكمةٍ يعلمها سبحانه.

الاستخارة لا تكون إلا بعد التحري في الصفات، فإن توفرت فقد يجد الإنسان انشراحًا وطمأنينة، وتكون الخطوة التي تليها كاشفة، فإن سارت أمور الاتفاق على المهر والشروط بيسرٍ وتفاهمٍ، فهذه علامة على أن الله اختار ذلك الشخص ليكون زوجًا، وإن تعسرت الأمور فهذا دليل على أن الله صرفه، وعلى الإنسان أن يوقن أن اختيار الله للعبد خيرٌ من اختياره لنفسه، وما يجده الإنسان بعد الاستخارة من الضيق، قد يكون ناتجًا عن وساوس الشيطان الرجيم، الذي لا يريد أن تتم أمور الزواج، وإلا فإن الله تعالى قال: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

ما ذكرتِه من أن الخاطب الثاني صاحب دينٍ وخلق، ولكن والدته سيئة الخلق وأنكِ ستسكنين معها؛ فهذا سبب وجيهٌ للرفض، ولا يخالف حديث النبي -صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) لأن الحديث يتعلق بدين وخلق الرجل نفسه، والزواج ليس بين شخصين فحسب، بل بين أسرتين، والواقع أن الأم في بيتٍ واحد تؤثر كثيرًا على الحياة الزوجية، خاصة إن كانت سيئة الخلق، فربما تُنغّص حياتكِ، وتؤثر على دينكِ وعلاقتكِ بزوجكِ، ولأنكِ -كما ذكرتِ- تتأثرين بالبيئة المحيطة، فخشيتكِ في محلها، وهي من الفطنة لا من الضعف، ورفضكِ ليس معارضةً للحديث النبوي، لأن الحديث لا يُلزمكِ بالقبول المطلق، بل يُرشد أولياء الأمور إلى عدم ردّ صاحب الدين بلا سببٍ معتبر.

من الأسباب المعتبرة للرد: خشية الأذى، أو البيئة غير الصالحة، أو عدم التوافق النفسي أو الاجتماعي، فلكِ ولأهلكِ أن ترفضوا من غير حرج، ويجوز لكِ شرعًا رفض الخاطب لأسباب اجتماعية أو عائلية معتبرة، خاصة إذا كانت هذه الأسباب قد تؤثر على استقرار الحياة الزوجية، أو على دينكِ وراحتكِ، كأن تكون الأم سيئة الخلق أو متسلطة، أو أن السكن معها سيجلب لكِ الحرج أو المشقة أو النزاع، ومن الحكمة أن تُدرَس وتُقدَّر هذه الأمور قبل الزواج، لا بعده، لأن تغيير الطباع بعد الزواج صعب جدًا.

نوصيكِ بالتضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى، مع تحين أوقات الإجابة، وخاصة أثناء السجود، وسَلي ربكِ أن يرزقكِ الزوج الصالح الذي يُسعدكِ، وأكثري من دعاء ذي النون: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فما دعا به أحد في شيءٍ إلا استجاب الله له، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) كما نوصيكِ بتقوى الله تعالى، فالله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.

أكثري من الاستغفار والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فذلك من أسباب تفريج الهموم، وتنفيس الكروب، ومغفرة الذنوب، وجلب القوة الحسية والمعنوية للأبدان، قال هودٌ لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ}، وقال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال لمن قال له: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

نسأل الله تعالى أن يرزقكِ قريبًا بمن تقرّ به عينكِ، ويكون لكِ سترًا وسندًا في الدين والدنيا.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً