
إن أجل ما تقضى فيه الأوقات، وتصرف فيه الأيام والساعات، معرفة رب الأرض والسموات، إذ هي أوجب الواجبات وأولى الأولويات؛ فعلى حسب هذه المعرفة يكون تعظيم الله ومحبته، وإجلاله وخشيته، وطاعته وعبادته، وكلما ازداد العبد معرفة بربه ازداد له حبا ومنه خوفا وفيما عنده رجاء وطمعا.
ومن أعظم الأبواب التي يتعرف بها على الله معرفته بأسمائه وصفاته، فإن لله تعالى أسماءً حسنى وصفاتٍ علا سمى بها نفسه في كتابه، وذكرها نبيه في سنته، وأمرنا أن نتعرف عليها ونتعلمها، ونفهم معانيها، ونعمل بمقتضاها، ونحمده ونثني عليه وندعوه بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}[الأعراف:180].. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلَّا واحِدًا، مَن أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ}[رواه البخاري ومسلم].
معنى أحصاها
ومعنى أحصاها أن نتعرف عليها ونتعلمها، ونحفظها، ونفهم معانيها، ونعمل بمقتضاها ونثني عليه ونمدحه بها، وندعوه أيضا بها، ونتخلق بما يصلح أن نتخلق به منها؛ فإن أسماء الله على نوعين:
نوع يجوز لنا أن نتصف به ونتخلق به، كالكرم والجود والحلم والعفو، والرحمة والإحسان، فالله جواد يحب الجود، كريم يحب الكرم، رفيق يحب الرفق، رحيم يحب من عباده الرحماء، ارحموا ترحموا، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
قال ابن القيم رحمه الله: "من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته منه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوبا له، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء".
ونوع آخر نهينا أن نتخلق به أو أن نتصف بصفته، كصفات الكبرياء والعظمة والجبروت. كما في صحيح مسلم: (لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبْرِ). وفيه وفي صحيح أبي داود: (إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخرَ أحدٌ على أحدٍ)، وفي الحديث القدسي: (الْعِزُّ إزارُهُ، والْكِبْرِياءُ رِداؤُهُ، فمَن يُنازِعُنِي عَذَّبْتُهُ).
لأن الأصل في الرب العزة والكبرياء والعظمة والجبروت والغنى، والأصل في العبد السكينة والتواضع والذل والانكسار والافتقار.
أسماء بلا حصر
وأسماء الله غير منحصرة في هذه التسعة والتسعين، وإنما غاية ما يفهم من الحديث أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة.. قال الإمام النووي: "واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة".. كما روي في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (أسأَلُكَ بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفْسَكَ، أو علَّمتَه أحدًا مِن خلْقِكَ، أو أنزَلتَه في كتابِكَ، أو استَأثَرتَ به في عِلمِ الغَيبِ عندَك) [رواه أحمد]. فهناك أسماء لله لا يعلمها أحد إلا الله، فأسماء الله لا حصر لها وإنما علم عباده شيئا قليلا منها.
أسماء الله توقيفية
بمعنى أن طريق العلم بها إنما يكون من قبل الله تعالى عن طريق الوحي، في القرآن أو في السنة، ذلك أن الله تعالى لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبهه الأنام، فهو سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11]، فلا يمكن للعقول أن تبلغ كنه ذاته ولا حقيقة صفاته
لا تبلغ الأوهام كنه ذاته .. ولا تكيف الحجا صفاته
ولذلك من تكلم على الله في مثل هذا إنما يتكلم على الله بغير علم، وقد نهانا الله عن ذلك فقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:36]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النحل].
وإذا كان من يكذب على رسول الله يتبوأ مقعده من النار، فكيف بمن يكذب على الله رب العالمين.
أعلام وأوصاف
ثم إن أسماء الله أعلام وأوصاف، أعلام مترادفة من جهة أنها كلها تدل على ذات الله سبحانه، فالرحمن هو الله، والرحيم هو الله، كما أنه هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباري المصور، كل هذه أسماء ترجع إلى ذات واحدة هي ذات الله سبحانه وتعالى. يدعى بها، وينادى بها عليه عند الدعاء {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}[الإسراء:110]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}[الحشر].
وهي معان متباينة وأوصاف مختلفة؛ إذ كل اسم منها يدل على معناه الخاص وصفته المشتقة منه. فالرحمن يدل على الرحمة، والعزيز يدل على المنعة والعزة، والقدير يدل على تمام القدرة.. والكريم يدل على الجود والكرم وسعة العطاء، وهكذا. فليست بلا معنى، ولا هي ذات معنى واحد؛ ولذلك عندما ندعو الله نختار الصفات المناسبة لدعائنا.. اللهم اغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}[نوح:10]، {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8].
ولأسماء الله دلالات ثلاثة: المطابقة، والتضمن، والالتزام.
فهي تدل على الذات مطابقة، وعلى الصفة المشتقة من الاسم تضمنا، وعلى صفات أخرى لزوما، كالحياة والعلم والإرادة والمشيئة والقدرة.
فاسم الله الكريم: يدل على ذات الله بالمطابقة؛ فالكريم هو الله سبحانه. وعلى صفة الكرم والجود وسعة العطاء تضمنا، فهو أكرم من سئل وأوسع من أعطى، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وهو الغني الحميد. ويدل لزوما على صفات الحياة والعلم والقدرة والإرادة.. علم بمن يريد أن يعطيه ويكرمه، وإرادة لإكرامه، وقدرة على إيصال كرمه إليه.
وكذلك اسمه الرحمن: يدل على الذات بالمطابقة {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}[الإسراء:110]. ويدل على الصفة المشتقة من الاسم "وهي الرحمة" تضمنا، {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}[الكهف:58]، أي صاحب الرحمة. وعلى صفات أخرى لزوما، كالحياة والعلم والإرادة. وهكذا بقية الأسماء.
أسماء الله تعالى كلها حسنى
أي أنها بالغة في الحسن غايته ومنتهاه، فهي أسماء جلال ونعوت جمال وكمال لا يعتريها النقص بحال.
فاسمه "الحي"، يدل على كمال حياته سبحانه وأنها حياة لا يعتريها نقص أبدا، فلا يسبقها عدم ولا يلحقها فناء، حياة مستلزمة لكمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها. {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}[البقرة:255] أي لكمال حياته وقيوميته.
واسمه "العليم" يتضمن العلم الكامل المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، العلم الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان، فهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران:5]، لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[سبا:3]، {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[الأنعام:59]، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7].
وما تقوله في علم الله وحياته قله في حكمته، وعظمته وحلمه وجميع أسمائه سبحانه.
الاشتراك في الأسماء لا يدل على الاشتراك في الكيفية
فالاشتراك في الاسم بين الله وبين أحد من خلقه لا يدل على الاشتراك في الكيفية، فالله عليم، ووصف بعض خلقه بالعلم، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:55]، وهو رؤوف رحيم ووصف نبيه بأنه رؤوف رحيم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[التوبة:128]،
فهل معنى هذا أن علم الله كعلم غيره، أو رأفته ورحمته كرأفة نبيه ورحمته؟
حاشا لله، وإنما صفة الله تليق به كإله عظيم خالق قادر، وصفة العبد تليق به كعبد فقير مخلوق ضعيف، لا يستغني عن خالقه طرفة عين.
وهذه من أعظم القواعد التي ينتفع بها المسلم في إثبات أسماء الله وصفاته، وترد على من ينكر صفات الله الذاتية لأنها توهم التشبيه بخلقه، إذ التشبيه ممنوع أصلا وعقلا وشرعا وفطرة.. إذا لا يمكن أن يستوي الخالق والمخلوق، والرب والعبد، والعزيز والذليل، والغني والفقير، وقد قطع الله الطريق على العقول في إدراكه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فنفى المشابهة من كل وجه، ثم أثبت لنفسه الاسم والصفة فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.